تبادل للأسرى أم تبادل للتفاهمات.. الولايات المتحدة – إيران والمواجهة المستحيلة!

صحيفة الوطن السورية-

فراس عزيز ديب:

في وقت كانت فيه المواقع الإخبارية تضج بأخبار التحشيد الأميركي في المنطقة مروراً بقرعِ طبول حربٍ لا أحد يعلم من أين أتى بها مروجوها، وصولاً لفكرة حصول صدام إيراني – أميركي واندلاع مواجهةٍ شاملة ومباشرة، خرجت وسائل الإعلام لتتحدث عن اتفاقٍ أميركي – إيراني لتبادل أسرى معتقلين لدى إيران بأموال إيرانية مجمدة، وفقَ العقوبات الأميركية، هذا الإعلان أصاب المصفقين لكل طرف بالضياع، وانتقلوا من سياسة الترويج لقدرة هذا الطرف أو ذاك على جر الخصم نحو المواجهة واعتباره انتصاراً، إلى سياسة الترويج للانتصار الدبلوماسي عبر الوصول إلى هذا الاتفاق، ولأن جميع الأطراف اليوم باتَت تعيش زمن الانتصارات الوهمية، فإننا شهدنا مع هذا الحدث سيناريو باتَ مكرراً حد الملل، سيناريو يُعيد للأذهان الكثير من المغالطات التي يتجاهلها البعض ويمتعض من طرحها البعض الآخر في كل مرة ترتفع فيها حدة الخطابات الأميركية – الإيرانية وتنتهي باتفاقٍ ما، هذه المغالطات يمكننا تلخيصها بما يلي:

أولاً: المواجهة المستحيلة

في العودة إلى تاريخِ الحروب عبر العالم، لا يوجد حرب بدأت إلا بعدَ إخفاق الجهود الدبلوماسية لتفاديها، هذه الجهود كانت تتركز حول الوصول إلى حل وسط في النقاط الخلافية بين طرفي النزاع، هنا يُسحب فتيل الحرب لتبدأ حرب من نوعٍ آخر، تُستخدم فيها جميع الأدوات غير العسكرية، ولا تكون مهمتها انتصار طرف على آخر بالضربة القاضية، على العكس، هي حرب يبدو فيها الطرفان مقتنعين بحتميةِ وجود كل منهما ضمنياً وإن كانوا ظاهرياً يحلم كل منهم بإزالة الآخر، لكن ما هو أعقد من ذلك أن يكونَ وجود كل منهما ضرورة للآخر، شكلاً عبرَ إيجاد آلية صراع مغلقة تتيح لهذه الدولة أو تلك فرضَ دورها الإقليمي أو الدولي أو ضمناً عبرَ لعب كل منهما على نقاط التوافق بينهما ولو سراً، لأن هذه النقاط تشكل نقاط قوةٍ لطموحاتِ كل منهما، هو تجسيد لعبارة «العدو الذكي أفضل من صديق غبي»، هذه الحقائق يمكننا بواقعية مطلقة بعيداً عن العواطف إسقاطها على العلاقات الأميركية – الإيرانية، إذ لا يمكن لأي تنافس بينهما أن ينتهي إلى صراعٍ عسكري لأن كلاً منهما يعي مكامن قوة الآخر، أو عندما يكون كلاهما مقتنع بحدود التنافس ومسارات الصدام غير العسكرية، هنا ستسقط جميع الشعارات التي هي بالأساس وسيلة للعب على المشاعر لا أكثر، ربما إننا نعيد صياغة هذه المصطلحات في كل مرة تعود الرواية الأميركية – الإيرانية لقرع طبول الحرب، ثم تنتهي كما يستقرئ كل من يرى الأمر من منظور واقعي لا عاطفي.

ثانياً: العقوبات الاقتصادية

يُقال إن الهدف من العقوبات الاقتصادية هو خنق الحكومات، لكن هذا الكلام يمكن تطبيقه على الدول غير المنتجة لا المكتفية، سورية مثلاً قبل الحرب اللعينة كانت تحت العقوبات لكنها شهدت نهضة اقتصادية وعمرانية غير مسبوقة جعلت أثر العقوبات لا يُذكر بسبب الاكتفاء غير المسبوق الذي كنا نعيشه حتى ضياع حقول النفط ومناطق زراعة القمح باحتلالها أميركياً، فخسرت خزانها الاقتصادي ما أدى لظهور أثر العقوبات على الحياة اليومية، ولا تبدو الحالة في إيران مختلفة عما كانت عليه في سورية، هذا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تنوع روافد الاقتصاد الإيراني التي لا تعتمد على النفط فقط، أي إن ما أنقذَ إيران من الانهيار الاقتصادي امتلاكها لكل مقومات الإنتاج الداخلي، لكن في المقابل وبعيداً عن الأثر المباشر للعقوبات دعونا نفكر بالآثار غير المباشرة، بما فيها فكرة الصراع مع الدولار.

دائماً ما تعطينا الحياة درساً في التمييز بين الطموح والواقع، هذا الأمر ينسحب على الحالة الشخصية، إذ لا يمكن لنا الطلب من طالب بإمكانات بسيطة، أن يحقق العلامة الكاملة في شهادة الدراسة الثانوية مثلاً، هذا الأمر ينسحب أيضاً على الكثير من المواقف بما فيها العلاقات بين الدول والتنافس فيما بينها وصولاً إلى الصراعات غير العسكرية التي تتجسد في وقتنا الحالي باقتلاع سلاح العقوبات الأميركية عبر الرغبة بالتخلص من هيمنة الدولار ودوره السلبي في فرض الإرادة السياسية للإدارات الأميركية المتعاقبة ليصبح السؤال الفعلي:

هل إن التخلص من هيمنة الدولار حديث قابل للتحقق؟

على المستوى الشخصي أتمنى أن أنام وأستيقظ لأجد هيمنة الدولار وَلَّتْ الأدبار، لكن الواقع إن لم يَشِ بعكس ذلك فهو على الأقل يعطينا فكرة بأن هذا الأمر إن تم، فإنه بحاجة إلى عقودٍ من الزمن، مع التأكيد هنا بأن هذا التخلص من هيمنة الدولار سيقابله حكماً مشاكلَ اقتصادية كبيرة للدول التي تتبنى هذا النهج مع تحقيق شرطٍ أساسي يتمثل بتأسيس عملة موحدة لكل هذه الدول على غرار العملة الأوروبية المشتركة، وليس عبرَ تعويم عملة إحداها لتكون بديلاً للدولار، لأننا عندها قد نكون خرجنا من مشكلة إلى أخرى، إذا ما سلمنا بأن الدول ليست جمعياتٍ خيرية.

من جانبٍ آخر يأتي هذا الاتفاق ليثبت لنا فرضية أن التخلص من هيمنة الدولار والمكابرة على أثر سلاح العقوبات الاقتصادية هو أشبه بالنوم في العسل، فالأموال المجمدة بقرار أميركي هي أموال إيرانية وبالدولار، ليسَ هذا فحسب، بل إن سلاح العقوبات الذي تستخدمه الولايات المتحدة بشناعةٍ لا تقل عن شناعة استخدام السلاح النووي في هيروشيما، قد ينجح في فرض الكثير، وهو للأمان قد نجح، وهنا علينا القبول بهذه المقاربة بعيداً عن العواطف، فإذا كان سلاح العقوبات لا يؤتي نتيجة، فلماذا قبلت إيران بالخضوع له سياسياً؟ المشكلة ليست بالدولار نفسه بقدر ما هي مشكلة مرتبطة بإمكانية خلق تكتل منافس للقوة الاقتصادية الأميركية لا يكون مصيره الفشل على غرار منظومة الاتحاد الأوروبي!

ثالثاً: الدروس المستفادة

في تموز من العام 2007، اجتمع السفير الأميركي في بغداد يان كروكر مع السفير الإيراني حسين كاظمي، كان لهذا الاجتماع أثر كبير في إعادة مد جسور التواصل المنقطعة بين البلدين منذ اندلاع الثورة في إيران، يومها تحدث كروكر وبحضور السفير الإيراني عما سماه «تطابق في وجهات النظر بين الجانبين بما يتعلق بمستقبل العراق الفيدرالي والدستور الذي وزَّع المحاصصة السياسية على أسس طائفية»، علماً أن اللقاء جاءَ يومها بصورةٍ مفاجئة ومعاكسة لحدةِ التصريحات بين الطرفين بما فيها ادعاء البعض بأن إيران لن تتركَ العراق لقمة سائغة للأميركيين، وادعاء البعض الآخر بأن إيران هي التالي على أجندة الحروب الأميركية في المنطقة، أما الحقيقة فكانت ببساطة تخلص الطرفين من نظام صدام حسين!

إن استذكارَ هذا المشهد بإسقاطاتهِ يبدو مهماً لنفهمَ فعلياً آلية بناء التفاهمات الدولية بمعزل عن فكرة أن في السياسة لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة، لكننا نتحدث عما هو أهم، في السياسة ليس المطلوب تطابق وجهات النظر بين الأطراف المعنية، وليس المطلوب أن تكون على خطٍّ واحد مع الخصوم أو الأصدقاء، لأن الدول في النهاية تبحث عن مصالحها، ودعكم من الشعارات الرنّانة لأن إيران والولايات المتحدة لن يوفرا فرصة للتفاهم بما يجعلهما يتمسكان بالحد الأعلى من المواقف، هناك حتى الآن من يتجاهل هذه المسلمة أو يرجعها فقط إلى العام 2015، الموعد الذي تم فيهِ توقيع الاتفاق النووي بين إيران ودول 5 +1، لكن في الحقيقة وهذا مثبت بسياق الأحداث التاريخية، منذ سقوط حكم الشاه، بأن ما كان يجمع الولايات المتحدة وإيران من تفاهمات معلنة أو غير معلنة أكثر مما يفرقهما، وهي نقطة تحسب لهما، لكن الاتفاق النووي جاءَ ببساطة ليعزز هذا التوجه، إذ لا تفاهمات مستحيلة بين الجميع والأهم من ذلك أن فكرة التمسك بآليات إدارة أي صراع أو خلاف بالمرتكزات ذاتها التي مضى على تطبيقها عقود، ستؤدي إلى خلل في مواضع القوة لأنها ستتحول إلى عبء، ربما لا يعجب هذا الكلام الكثير، لكني ببساطة اعتدتُ أن أضع العواطف جانباً عندَ الحديث في السياسة، لأن كلاً منهما لا يعترف بالآخر، والسياسة عدو للعواطف، الاعتراف الوحيد اليوم هو لمن يستطيع تدوير الزوايا وحتى الشعارات لكي تكون مطواعة لما يقدم عليه من خطوات تجسد مصالح الدولة العليا، أما من يريد لصق السياسة بالعواطف فسأدعوه بكل محبة بعدَ أشهر لمتابعة حلقة جديدة من مسلسل «اقتراب المواجهة الإيرانية – الأميركية».

ترى ما هو الاتفاق الذي سيتلو الحلقة القادمة؟! لن يطول الزمن حتى ندرك ذلك!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.