حزب الله في قلب معركة المشرق

hezbollah-colonies

موقع إنباء الإخباري ـ
الجزائر ـ عبد الله بن عمارة:

شكلت مقاومة  حزب الله في لبنان نقطة مفصلية في سيرورة الصراع العربي ـ الإسرائيلي منذ اقتحام الكيان الصهيوني للجغرافيا السياسية للمشرق، والتحدي الذي فرضه على شعوب المنطقة بوصفه كياناً وظيفياً للقوى الاستعمارية الغربية، مؤطراً ضمن  مشروع توسعي عنصري شكّل عائقاً أمام الطموحات الوحدوية والنهضوية لهذه الشعوب.
هذا التحول التاريخي المفصلي في تاريخ الصراع مع إسرائيل والقوى الامبريالية الداعمة لها أخذ منحى تصاعدياً منذ تصدي حزب الله للمقاومة، بحيث حقّ لأي باحث موضوعي التأكيد على أن هذا الحزب جسّد مدرسة جديدة، من الحق القول إنها  قامت على أنقاض تجارب مهمة في مسار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، مستفيدا منها،إلا أنها انتظمت في إطار إبداعي أعطى للمشروع المقاوم أبعاداً ورؤى شاملة توازي شمولية وخطورة المشروع الصهيوني والأمريكي.
هذه “الاستثنائية في الإبداع ” صحيح أنها تتجسد في الأداء العسكري المميز طيلة عقود المواجهة مع قوى الاحتلال في لبنان الأطلسية والإسرائيلية ـ لا تخطئه أي عين موضوعية دارسة ـ منذ 1982 إلى غاية حرب 2006 التي مثلت ذروة الانتقال الراديكالي في أساس المواجهة مع إسرائيل والضربة الموجعة لمحور مرجعية عقيدتها العسكرية والأمنية منذ زئيف جابوتنسكي، لجهة القدرة على ابتكار الأساليب التي توائم الجغرافيا وتكتيكات الحروب الإسرائيلية نبعت من دراسة عميقة للعدو من الناحيتين المعرفية ـ الثقافية كما العسكرية ـ الإستراتيجية، والتي أنتجت مدرسة قتالية متميزة وجديدة في علوم الحروب غير التماثلية، استطاعت في هذه الحرب بالذات أن تتحول بمسار الصراع مع إسرائيل إلى مرحلة نوعية لا تصبح معها نظرية الأمن الإسرائيلي على المحك فقط، و إنما وجود الكيان نفسه.
إلا أن التميز عند مقاومة حزب الله يتجاوز الجانب الإجرائي، على أهميته الإستراتيجية القصوى، إلى رؤيته العميقة لمفهوم المقاومة بالأساس، والتي تنطلق من فهم الواقع الثقافي والمعرفي والقيمي لبيئة المقاومة ـ  والمقصود هنا الشكل الموسع الذي يشمل كل المنطقة أو ما نسميه بالمشرق المتعدد دينياً وطائفيا وإثنيا ـ وللعدو أيضاً، وهنا يقصد به الدراسة المعمقة للمشروع الصهيوني بفهم أبعاده ومحدداته وأسسه المعرفية، باعتباره مشروعاً وظيفياً مرتبطاً أساسا بالمشروع الأمريكي الإمبريالي الأكبر في المشرق والعالم، أي أن المقاومة عند حزب الله مشكّلة في سياق بنية فكرية ذات رسالة حضارية وإنسانية تنسف تلك المفاهيم النظرية المعششة في مخيال الكثيرين، والتي تحصر المقاومة في مشهد امتشاق السلاح والطابع الاستعراضي للصراع مع العدو الخالي من أي حمولة فكرية وثقافية مشبعة بدراسات عميقة لواقع الصراع مع العدو وأدواته،يكون نتيجة هذا الأداء الارتجالي غالباً الاتجاه نحو تحقيق المكاسب الآنية التي تخرج الصراع من دائرته الإستراتيجية الوجودية إلى النزوع نحو إدارته بمستويات قصيرة أو متوسطة المدى.
هذه البنية المعرفية للمقاومة في لبنان أهّلتها لفهم طبيعة الصراع في هذا المشرق ومسار المشروع الأمريكي الهادف إلى السيطرة على المنطقة بإعادة رسم جغرافيتها السياسية، فأدارت الصراع معه حسب ما تتطلبه كل معركة من أدوات، إن على مستوى الخطاب السياسي أو على مستوى الاشتباك المباشر.
فحرب 2006 التي كانت ميداناً لصدام ضرب مشروع الشرق الأوسط الكبير في بوابته الغربية (وفق تعبير السيد نصر الله) تطلبت مواجهة مباشرة مع الكيان الوظيفي الصغير ضمن المشروع الأكبر، أما الانخراط “شبه المباشر” والفعال في الصراع مع الأمريكي نفسه في العراق من بوابة هذا المشروع الشرقية (بدعم كتائب حزب الله في العراق خاصة) وفق رؤية عميقة كان له الوقع الحاسم، ليس في مسار هذا المشروع في المشرق فحسب وإنما في المسار الإمبراطوري لأمريكا. فانسحاب الاحتلال الأمريكي من العراق الذي شكل “انكشافاً استراتيجياً” أحدث فراغاً استراتيجياً في المنطقة انعكست تداعياته على الإمبراطورية الأمريكية في العالم ككل.
إلا أن استهداف سوريا ـ بما تمثله من موقع جيوستراتيجي وحضاري وثقافي في هذا المشرق من جهة، ومن دور طليعي كقلعة للمقاومة وشريك لحزب الله في كل مراحل صراعه ضد المشروع الأمريكي في هذا المشرق  منذ 1982 من جهة أخرى ـ شكل قطب رحى الصراع، أو ما يمكن أن نسميه “بمرحلة الحسم النهائية” في إدارة هذا الصراع، وفق محدداته “المستجدة” المتعلقة بالتحالف الضمني بين التكفيريين ـ كأداة وظيفية من داخل بيئة هذا المشرق ـ وبين الكيان الصهيوني، هذا الاستحضار للتيار التكفيري لتنفيذ المشروع الأمريكي بتفكيك الأنسجة الاجتماعية والثقافية والحضارية للمجتمعات المشرقية، بما يحول فسيفساؤه الاثنية والمذهبية و الدينية إلى عوامل احتراب داخلي لتجزئة الدول الوطنية وبنياتها وعلى رأسها الجيوش بما مثل نقطة تقاطع مصلحيه محورية مع أداة هذا المشروع الأمريكي الوظيفية الأخرى إسرائيل.
انخراط حزب الله بهذا الشكل الجلي لمقارعة قوى التكفير في سوريا، مع إتمام الجهوزية للتصدي لإسرائيل أو للأمريكي نفسه، ينم عن موقعه المهم في هذا المشرق الذي كان له الدور الحاسم في صناعة مشهده الجيوستراتيجي الحالي، الذي قوامه انسحاب الأمريكي من المنطقة بعد انكشافه عسكريا واستراتيجيا (أمام ضربات المقاومة التي يدرك الأمريكي جيدا دور حزب الله فيها)  وانحسار الدور الوظيفي العسكري الإسرائيلي كذراع ضاربة لهذا المشروع بعد حرب 2006، وشراكته الفعالة في الصراع داخل الأرض الفلسطينية بما يدعم خيار المقاومة فيها ويشكل قيمة مضافة استراتيجية تمنع  مخططات تصفية قضيتها، بالإضافة إلى دوره المُجدي الذي أخل بالتوازن العسكري القائم في سوريا (وفق التعبير الأمريكي و الغربي نفسه). وقد تحول حزب الله بذلك  إلى قوة إقليمية تخوض معركة حاسمة في سياق صراع  تتحدد من خلاله طبيعة العلاقات الدولية المستقبلية، في طريق التأسيس لمنظومة عالمية تكسر الاحتكار الامبريالي الأمريكي  للقرار العالمي وتقطع مع منظومتها النيوليبرالية العولمية المهيمنة على موارد و مقدرات العالم.
حزب الله الذي يتموضع اليوم في القلب من المرحلة الأخيرة في سيرورة  الصراع مع المشروع الأمريكي وأدواته الوظيفية التكفيرية والصهيونية، يصنع تاريخ هذا المشرق بل والعالم، ويساهم بفعاليته المعهودة وأدائه المتميز بحرق أوراق الشرق الأوسط الجديد، وبناء المشرق الجديد التعددي، المتسامح، الناهض والمستقل… والخالي من الصهيونية والتكفير.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.