عجائب الغرب الخمس…!

جريدة البناء اللبنانية-

د. علي أكرم زعيتر:

لماذا لا نصدّق كلّ ما يقوله الغرب؟ ولماذا نحارب ما يسمّى بالحضارة الغربية ونتصدّى لها؟ وهل هناك نفاق ثقافي ــ سياسي، يمارسه علينا الغربيون كما يقول المشتبكون؟ أما أنّ ما يقوله هؤلاء لا يعدو أن يكون مجرد خيالات وتهيّؤات ناشئة عن نظرية المؤامرة التي يتبناها قسم كبير منهم؟

الهاتف الذي تحمله بين يديك، والذي لولاه لما استطعت أن تناقشني على منصة فيسبوك، ذو منشأ غربي، فلماذا لا تعيده إلى أصحابه الغربيين؟ الأدوية ومؤسّسات الطبابة التي تهرع إليها كلما أصابك عارض صحي هي الأخرى ذات منشأ غربي فلماذا لا تتخلى عنها؟ حتى المرجعيات الدينية التي تهتف باسمها ليل نهار، لا غنى لها عن الغرب، والدليل أنه كلَّما أصيب أحدها بداء، تمسك بحبال النجاة الغربية، فسارعَ إلى حجز مقعد على أقرب طائرة وسافر إلى أوروبا حيث مستشفياتها المجهّزة بأحدث الوسائل، وأطباؤها المتمرّسون، وطواقمها الصحية المتخصصة.

في الغرب، نِلْتُ حقوقي كاملة. الناس هناك كلٌّ في حال سبيله، لا يهمّه من أنت وما دينك وما لونك وما معتقدك! المهمّ أنك إنسان. الأوروبيون والأميركيون عموماً إنسانيون إلى أبعد درجة. لا يهمّهم ما تعتقد، المهمّ أنك إنسان! هناك يمكنني أن أمارس حياتي الاعتيادية دون أن يضايقني أحد، وبوسعي أن أعبّر عن رأيي السياسي دون أن أتعرَّض لاضطهاد. بينما في بلاد العرب والمسلمين، قد أخسر رأسي فيما لو تفوّهت بكلمة لا تروق للحاكم.

كم من مرة ومرة سمعنا كلاماً مماثلاً من أناس مشرقيين وعرب يعيشون في أوروبا وأميركا؟ عن نفسي، أستطيع أن أقول، إنني سمعت ذلك عشرات المرات، من أناس افتراضيين تعرّفت عليهم عبر وسائل التواصل وآخرين على أرض الواقع.

 

جلّ من يعيش في الغرب من أبناء جلدتنا، لا ينكرون أنّ التقديمات الصحية والمالية والخدمية والاجتماعية التي توفرها الحكومات الغربية لمواطنيها كبيرة جداً، ولا يُمكن أن تقابل إلا بإعجاب. ولكنَّ كثيرين منهم أيضاً، منقسمون على أنفسهم في ما خص الموقف من الغرب والحضارة الغربية.

بعض هؤلاء منبهرون بالتجربة الغربية، وبعضهم الآخر ممن يشعرون بالمسؤولية اتجاه أمتهم وأوطانهم، وممن يمتلكون ضميراً حيّاً لا يخفون قلقهم من ازدواجية المعايير الغربية.

مؤخراً، بدأ يساورهم القلق بشكل مضطرد. إليك هذه المفارقات الخمس، على سبيل المثال:

أ ـ الغرب يعاقب أيَّما مسؤولٍ غربي يتبيّن تورّطُّه في شبهة فساد، ولا يستنكف عن زَجِّه في السجن، ولكنه في بلدان العالم الثالث، لا سيما في القارة السمراء، تجده لا يتورّع عن دعم الدكتاتور الفلاني، أو تأييد الفاسد العلاني، ما دام يؤمّن مصالح الدول الغربية.

في مالي على سبيل المثال، وهي دولة أفريقية ناطقة بالفرنسية، وعانت لسنوات طويلة من الاستعمار الفرنسي، لا تجد حكومة ماكرون حرجاً من دعم السلطات الحاكمة هناك، ما دامت لا تمنع الشركات الفرنسية من الاستثمار في المناجم والثروة المعدنية. لكنها في المقابل تقف موقفاً عدائياً تاماً من الحكومة الجزائرية، لأنها لا تسمح لها بسرقة مواردها.

الغربي يتحلى بالشرف والعفة على أرضه، ويتصرف كوغد وأرعن على أرض الآخرين. هذه هي الحقيقة التي بمقدور أيٍّ منا أن يكتشفها بمجرد أن يضع إصبعه على الجرح.

ب ـ إنكار الهولوكوست (المحرقة اليهودية المزعومة)، جريمة يعاقب عليها القانون في ألمانيا وفرنسا وسائر أوروبا، وقد سبق للفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي أن سُجن لمجرد أنه شكك في أعداد من يُعرفون بضحايا المحرقة النازية.

كذلك الأمر في ألمانيا المعاصرة. يكفي أن تشكك في أرقام (ضحايا الهولوكوست)، حتى تزجّك الحكومة في السجن. وحكومة ألمانيا حنون وعطوف على جميع أبنائها لكن شريطة ألَّا يتطرقوا إلى قضايا الحق والباطل. عندها تتحوّل الأمّ الطيبة إلى حيوان مفترس لا مكان للشفقة في قلبه.

افعل ما شئت، اعبد ما شئت، مارس كلّ أنواع الإسفاف الأخلاقي، لكن إياك ثم إياك أن تتعرّض لليهود أو للكيان الصهيوني بانتقاد، وإلا فالتهمة جاهزة: معاداة السامية.

ج ـ تنظر الحكومات الغربية إلى انتقاد المثلية (الشذوذ الجنسي) على أنه نوع من أنواع التمييز الجندري أو الاضطهاد، وعلى هذا الأساس، فإنها تعاقب كلّ من يتعرّض بالانتقاد للشذوذ أو الشاذين.

مؤخراً، باتت لهؤلاء منابر إعلامية خاصة بهم، وربما كوتا نيابية في البرلمانات الغربية. بات انتقاد هؤلاء تهمة يعاقب عليها القانون، وجريمة يخشى المحافظون هناك من ارتكابها!

في المقابل، لا تجد الحكومات الغربية حرجاً في منع المسلمات من ارتداء ححابهن في المؤسسات العامة أو في المدارس والجامعات. لقد وصل الأمر بتلك الحكومات، أن وجهت تحذيراً إلى مواطنيها المسلمين بخصوص طرائق الذبح الشرعية المنصوص عليها في شريعتهم، بحجة مراعاة مشاعر الحيوان المساق إلى الذبح، بينما لم يتحرك ضميرها حيال عشرات الشبان الذين يقتلون يوميّاً برصاص الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين!

من المفارقات العجيبة التي استرعت انتباهنا خلال كتابة هذه السطور هو الكلام الذي يُنسب لأحد المفكرين الفرنسيين المعاصرين حول سماح القانون الفرنسي للنساء بتعرية أجسادهنَّ بحجة احترام الحريات الشخصية، مقابل حظر ارتداء الحجاب على الفرنسيات المسلمات للحجة نفسها!

بالفعل، من يراقب حال الحضارة الغربية، ويتفكّر في مواقفها المتناقضة من بعض القضايا يكاد يُصاب بالجنون! النفاق الغربي واضح للعيان، فمن جهة هم يريدون منك أن تسلِّم بسرديتهم التاريخية، وبطروحاتهم السياسية، وأن تتقبّل شذوذهم الجنسي، وأن تتفهّم انحيازهم للكيان الصهيوني، وأن تحترم ثقافتهم المتفلِّتة من أيّ عِقال، وأن تراعي إسفافهم الأخلاقي، وإباحيتهم المفرطة، بحجة تقبّل الرأي الآخر.

وفي المقابل يمنعون عليك حتى مجرد ممارسة قناعاتك أو تبنّي خيارات معاكسة لخياراتهم. إنْ لم يكن هذا نفاقاً فماذا نسمّيه؟ هناك من أبناء جلدتنا من يسمّيه ”واقعية“، وآخرون يسمّونه ”براغماتية“! هؤلاء تحديداً هم سبب تخلُّفنا وتراجع دورنا الحضاري والسياسي، لأنهم يبرّرون للغرب كلّ هفواته وأخطائه التي لا تغتفر! وكأنهم جُبلوا على ظلم ذوي القربى! منبهرون بالغرب إلى حدّ لا يوصف! لديهم استعداد لأن يكونوا مطايا له، وكلاباً تتقفى آثار كلّ من يناوئه ويعاديه!

د ـ قضية مقتل الفتى الفرنسي من أصول جزائرية، على يد الشرطة الفرنسية، قبل بضعة أيام، والتي أشعلت الشارع الفرنسي، بعدما تبيّن براءة الفتى ابن السابعة عشر ربيعاً من أيّ تهمة، وهي القضية التي سنتطرق إليها بشيء من التفصيل في مقالة مستقلة، نسلط الضوء من خلالها على ازدواجية المعايير التي تعاطى بها الإعلام الفرنسي مسبق الدفع، والقضاء الفرنسي الأعور مع الحادثة.

هـ ـ قبل أيام، أحرق أحد المسيحيين العراقيين المقيمين في السويد نسخة من المصحف الشريف، بموافقة وترخيص من الحكومة السويدية، وعندما خرجت المظاهرات المندّدة في الوطن العربي، والعالم الإسلامي، اعترضت الحكومة السويدية على ذلك، بدعوى أنّ إحراق القرآن حرية تعبير، وأنّ المدعو سلوان صباح موميكا حصل على ترخيص قانوني من قبل السلطات في ستوكهولم!

 

المفارقة، أنّ انتقاد المثلية في السويد أو أيّ بلد أوروبي آخر، يُعدّ جريمة موصوفة وكذلك الحال بالنسبة للهولوكوست اليهودي، بينما إهانة مشاعر مليارَي مسلم والاعتداء على مقدساتهم، ومحاولة مصادرة رأيهم، والتطاول على كراماتهم، ليس بالأمر الذي يُلقى له بال، أو يعاقب عليه قانون!

خمسُ مفارقات، يقف المرء عندها حائراً، أيصدّق دعاوى الغرب حول حقوق الإنسان، وحرية التعبير، والمساواة بين الرجل والمرأة، وحماية حقوق الأطفال، ويكذب ما تراه عينه من نفاق، أم يكفر بكلّ ما يُنظِّر له الغرب صبح مساء؟!

يقول المنطق السليم، إنّ من يمنع عليك انتقاد الهولوكوست والشذوذ الجنسي بدعوى أنها خطوط حمراء، ويجيز لنفسه دوس خطوطك الحمراء، وإنّ من يسفّه أحلامَك، ويؤصّل أحلامَه، وإنّ من يمنع الفساد في بلاده ويدعمه في بلدان العالم الثالث، لهو منافق من الطراز الأول، لا ينبغي أن تصدّق شيئاً مما يقوله!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.