عن صورة الشيطان الأكبر.. وصُوَر فلسطين

موقع العهد الإخباري-

أحمد فؤاد:

في الثالث والعشرين من فبراير/ شباط 1945، ومع قرب انتهاء الحرب العالمية الثانية، التقط المصور الأميركي جو روزنتال صورة لستة من مشاة البحرية الأميركية يرفعون علم بلادهم على بركان سوريباتشي بجزيرة إيو جيما اليابانية، لتتحول هذه الصورة إلى أهم صورة بالتاريخ العسكري، وواحدة من أهم الصور في التاريخ البشري.

كانت الصورة تلخص في بهاء وتألق الرسالة الأميركية المختصرة، والموجهة لعالم يوشك أن يولد من بين أنقاض الحرب وعلى خرائبها، أن القوة الأميركية قادرة، وأنها قوة قادرة على سحق كل عدو، ثم إنها قوة متفوقة على كل أقرانها، وأن العلم الأميركي يوشك أن يرتفع ليس في الجزر اليابانية فقط، لكن في العالم كله.

في ذلك العام فازت الصورة بجائزة البوليتزر للصحافة، كما أصبحت أكثر الصور استعمالًا في التاريخ، وتحوّل المصور العسكري إلى أحد المشاهير في بلد تقدس قيمة الشهرة وتمنحها ما تريد من أموال وتواجد، وكسبت وكالة أسوشيتدبرس، التي يعمل لصالحها روزنتال، سبقًا هائلًا على غيرها.

وأكثر من ذلك، فقد وجدت الصورة طريقها إلى الطوابع البريدية للولايات المتحدة، واستلهم منها النحات فيليكس دي ويلدون النصب التذكاري لمشاة البحرية، في مقبرة أرلينغتون الوطنية في 1954.

أما عن المعركة ذاتها، فإن قائدًا يابانيًا ذكيًا هو الجنرال كوريباياشي، استطاع بقليل من الإمكانيات تحويل نزهة منتظرة من جانب الأميركيين إلى مذبحة مستمرة لمدة شهر و6 أيام، ورغم فارق الأعداد والقدرة الرهيب بين الطرفين، 110 آلاف أميركي تحت غطاء بحري وجوي كاملين، مقابل 21 ألف ياباني، فإن إيو جيما كانت المعركة الوحيدة التي فاق فيها عدد الضحايا الأميركيين أعداءهم اليابانيين، وبينما قتل كل اليابانيين المدافعين عن الجزيرة، عدا أسر 200 فرد فقدوا الوعي أو أصيبوا بشكل لم يجعلهم قادرين على القتال، فإن الولايات المتحدة خسرت 27 ألفًا من جنودها للسيطرة على هذه الجزيرة الصغيرة.

الرواية التاريخية للصورة مختلفة أشد الاختلاف عن الدعاية الأميركية، وعما نعرفه عنها، الصورة تم التجهيز لها، والتقاطها في اليوم السابق، لكن أعيد “تمثيلها” لأن العلم الأول كان أصغر، ولم يرض غرور صنّاع الرأي العام في واشنطن، ولم يعكس ما أرادوا توصيله من رسائل عن القوة الأميركية الجبارة، وهو ما اعترف به المصور بعد ذلك.

ورغم اعتراف المصور والوكالة والجيش الأميركي، إلا أن الدعاية الأميركية التي اقتفت وتفوقت على غوبلز النازي، قد نجحت بشكل ساحق في تمرير ما تريده، وتنسي العالم ما لا تريده، فإذا بالكذبة تعيش وتنمو وتستمر، وتموت حقيقة الخديعة التي جرت بالفعل، وبات على الشيطان ذاته أن يتعلم من الدجال الأميركي فنون الغش والمكر.
..
حين أطلق الإمام روح الله الخميني -قده- على الولايات المتحدة الأميركية وصف الشيطان الأكبر، لم تفهم الأغلبية السياسية التقليدية في العالم العربي سر الإصرار على تجذير العداء مع واشنطن إلى الحد الذي يغلق جميع الأبواب ويكسر كل إمكانيات اللقاء، إلا أن الأحداث أثبتت أن رؤية القائد، ثم الصدق الذي صبغ الثورة الإسلامية كلها، كانا الحقيقة الوحيدة في فضاء من الأكاذيب، لا يزال يلف ويشل المنطقة العربية، أو أغلبها على الأقل.

تمكن الإمام من إيصال فكرته الأساسية عن لب الصراع القائم في المنطقة، رغم وجود الاتحاد السوفييتي حينذاك، كطرف آخر في المعادلة العالمية. لم يختر القائد أن يذهب في أي طريق يخاصم ما يؤمن به، ويسعى لبثه في أمته، رافعًا قيمة الحق أمام الباطل، مضحيًا بمصلحة اللحظة على مذبح الحقيقة، وراسمًا نهجًا جديدًا تمامًا في التعامل مع العالم المتشابك بقوة من حوله، وبإرادة الثورة وتضحياتها، استطاعت إيران عبور كل ما دبر لها من مكائد وحروب ومؤامرات وحصار، طوال ما يزيد عن 4 عقود.

واليوم، تقف طهران متسلحة بالإيمان أمام تحد جديد، كما اعتادت على مواجهة التحديات والإصرار على الحياة في وجه كل صراع فرض عليها، لينتظر العالم وضع توقيعها على الاتفاق الدولي، كما أرادت القيادة الإيرانية وخططت، لنقف أخيرًا أمام حقيقة أن الإيمان قادر على الفعل والحركة في عالم اليوم، قادر على الثبات والاستمرار، وقادر أكثر على منح جماهير أمته المثل والدعم والتجربة.

وصولًا إلى عالم اليوم، لا تزال تلك الكلمات تلح على الذهن كلما قررت الولايات المتحدة ممارسة دورها التدميري في أي بقعة من الكوكب، بالوصفة الشيطانية الجاهزة، تخليق أو صناعة الأزمات، وتصديرها إلى البلد الجديد المستهدف، ثم التركيز الإعلامي الزاعق والرهيب على المشكلة، لتتصدر فجأة كل الشاشات ونشرات الأخبار وأغلفة الصحف، وأخيرًا تسويغ تدخلها بعد حملة تخدير الضمير العالمي.

في هذه اللحظات بالذات، تبرز حقيقة القدرة الأميركية على تغييب الحقائق وتخدير الشعوب، وبيع الوهم على الشاشات، جلية جبارة وغير منقوصة، بشأن حربها ضد روسيا في أوكرانيا، وتتأكد حقيقة أن كل حليف للولايات المتحدة له وقت صلاحية محدد، وهو مستمر في السلطة والحكم طالما يخدم المصالح الأميركية، ولو على حساب شعبه، فإذا فشل، انتهى دوره وحان وقت معاينة طوابير المنتظرين، ولو على جثث شعوبهم.

هكذا تلعب الولايات المتحدة مع أوروبا لعبة الموت، فتدفع واشنطن نحو تبني أقصى المواقف تطرفًا من روسيا، سعيًا وراء حصارها، وتنفذ الحكومات الأوروبية الأوامر الصادرة من العم سام حرفيًا، كما حدث أخيرًا بقرار الدول الأوروبية وضع حد لسعر الغاز الروسي، رغم الحاجة الشديدة والملحة لاقتصادياتها وشعوبها لهذا الغاز القريب والمتوافر، في مخاصمة لكل منطق ممكن.
..

أما في عالمنا العربي، المنكوب بنخبه ونظم حكمه غربية الهوى والهوية، فحدث ولا حرج عن التبعية والذل وقصر النظر، يكفي مطالعة نشرات الأخبار العربية التي تتحدث عن جفاف أوروبا والتغيرات المناخية التي تضرب دولها، وينقص بعض مقدمي البرامج دمعات كريستالية عن أزمة العالم الحر!

فجأة تصدرت صور جفاف نهر التايمز وقاع نهر الدانوب، في وقت تتهدد فيه الأنهار العربية الكبرى مخاطر أعمق ونتائج أكثر فداحة. فجأة أصبح الدانوب أهم من النيل والتايمز أغلى من الفرات، والبكاء على حرائق الغابات في أوروبا أكثر تعبيرًا عن الإنسانية من حرائق غاباتنا في الجزائر، أو الاهتمام بغرقى الفيضانات الكاسحة في السودان. رغم أن هاجس المياه -على الأقل- واحد ومسيطر على أغلب الشعوب العربية، خصوصًا شعوب المراكز الحضرية التاريخية، ثم إنه التحدي الأخطر أمام الحكومات والدول في كل عاصمة عربية، سواء تلك التي تشعر بالتهديد وتظن إنها قادرة على مواجهته، أو تلك التي ترى التهديد لكنها لا تستطيع وربما لا تملك القدرة على الوقوف أمام مصيرها.
..

في هذا الوقت بالتحديد نحتاج إلى العودة للبوصلة الأصلية والراية الأصلية، فلسطين، والتي كان لها في فكر الإمام القائد حضورها وأولويتها، باعتبارها ساحة عمل إسلامي قائمة، ضد قاعدة متقدمة للولايات المتحدة، ثم هي كاشفة لمواطن العجز العربي، وتخص مقدسًا إسلاميًا يستطيع أن يؤلف القلوب ويكسر حديث الفتن المستعر على ألسن عبيد أميركا.

اليوم استطاع الفلسطيني العادي، في الضفة وغزة ومدن الداخل المحتل منذ 1948، أن يكسر كل أكاذيب الكيان ويحطم تخيلاته عن نهاية الصراع تمامًا، ومن جنين ونابلس وغيرهما، تخرج كل يوم طلقة وسكين إلى قلب العدو الهش، وفي مساحته الجغرافية الضيقة جيدًا، وفصيل واحد من المقاومة الباسلة “الجهاد”، تمكن بقليل من الاجتهاد والتسليح من إبقاء ربع مستوطني الكيان في الملاجئ طوال أيام عملية وحدة الساحات الأخيرة.

التركيز على أزماتنا مطلوب، والنظر بجدية بالغة لخيبتنا وجراحتا مطلوب أكثر، لكن ما هو واجب في هذه المرحلة الدعم لفلسطين بكل شكل ممكن، واعتبارها قضية حياة أو موت على المستوى الشخصي، وهي فعلًا كذلك، فبقدر ما يثبت الكيان العدواني أقدامه فوق فلسطين، فإن خناجره تعيث في الأرض العربية كلها، وقد صنعت بالترغيب والترهيب جيلًا من الحكام يقولون علنًا في “بجاحة” مطلقة أن القضية الفلسطينية هي قضية أهلها، وأنها استنزفت الدول العربية، وتسببت في أزماتها، وكأن إدارتهم للأوطان نماذج ناجحة أو مبشرة من الأصل، فضلًا عن أوقات الأزمات.

إن على المرء المؤمن أن يولي وجهه صوب البوصلة الأصلية، فلسطين، فكل ما وقع أو سيقع مرتبط بها، وكل ما جرى في المنطقة منذ عقود طويلة مرهون بالواقع الفلسطيني على الأرض، والماضي الفلسطيني كما صنع حاضر اليوم، فإن حاضر اليوم هو المستقبل والغد، وإن كان لا يزال يحبو، وحين يأتي الصباح فإن ما كان ظلًا يحبو سيتحول قريبًا إلى جسد هائل في عز الظهر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.