عون: أنا رئيس التوافق

michel-aoun-tayar-
ثقة العماد ميشال عون باحتمال تولّيه الرئاسة باتت كبيرة. انفتاحه على الجميع صار يسمح له بالقول إنه المرشح الوحيد القادر على إنجاز توافق كبير بين الطوائف السنيّة والشيعية والمسيحية. لم تؤثر فيه أمس الحركة السياسة الناشطة في باريس والرياض. تابعها بدقة، لكنه يبدو أكثر من أي وقت مضى واثقاً بوعود الرئيس سعد الحريري. يبدو، في المقابل، غير مدرك تماماً لموقف السعودية بعد. تحليله الإقليمي يقوده حتى الى العراق حيث احتمال التفاهم الايراني ـــ السعودي ممكن في شأن الحكومة المقبلة وتوسيع المشاركة السنيّة. لعل هذا سينسحب تفاهماً صوب لبنان. يريد صفحة بيضاء للبنان تشبه الورود المنتشرة في مزهريات أنيقة في غرفة الاستقبال عنده. يرغب في سيادة لا تعكّرها التدخلات الخارجية كوجه ذاك اللبناني العتيق المرسوم في لوحة على جدار غرفته. لكن الجنرال يعلم أيضاً أن المعركة قاسية هذه المرة، لأنه قلّما شهد لبنان مرشحاً يتمتع بكل ما يتمتع به من صفات للرئاسة، وقلما سيشهد مرشحاً مستعداً لمواجهة الجميع في حال تعرض لمؤامرة الصفقات الضيقة. لم يستسغ مطلقاً تسريبة القصر الرئاسية بشأن أن يكون عرض التمديد للرئيس ميشال سليمان في مقابل تعيين صهره الجنرال شامل روكز وزيراً للدفاع. شعر أن في الأمر محاولة للتأثير فيه وإحداث شرخ مع المؤسسة العسكرية، هو الذي يفاخر بأنه الوحيد الذي باتت كلمة «جنرال» تشير اليه دون غيره. يصرّ على أن التمديد للعماد جان قهوجي لم يكن دستورياً. لعله، في قرارة نفسه، يرغب في إقصاء قهوجي من طريق المنافسة الرئاسية أو من طريق ملء الفراغ لو حصل شغور رئاسي. فكيف تبدو الصورة في الرابية؟

سامي كليب –
صحيفة الأخبار اللبنانية:

يقطن الجنرال ميشال عون في منزل مستعار من أحد محبّيه. في حديقة المنزل أشجار متعددة الأنواع، كمعظم بيوت منطقة الرابية الراقية، بينها الصنوبر الشامخ صوب السماء، والإكي دنيا الدائمة الخضرة. يقال إن الاسم تركي المنشأ ويعني «الدنيا الجديدة».

من يزر الرابية يشعر فعلاً بأن دنيا جديدة تضج في منزل الجنرال. ثمة أمل منثور في الغرف والحديقة وفوق الشجر وخلف الأبواب. أمل بأن نسبة احتمال الوصول الى الرئاسة باتت «90 أو 100 في المئة إذا كان المطلوب هو الحل»، وفق ما يقول عون نفسه.

سياسة اطعام العصافير

في كل صباح يرتدي الجنرال ثياب الرياضة. ينسى عمره المشارف على ثمانين حولاً. ينزل، كشاب في مقتبل الربيع، الى الحديقة. يقلّب الارض هنا بمعول صغير، يسقي وردة أو شتلة خضر هناك. يتوقف تحت شجرة الإكي دنيا. يطلب من الجميع الاكتفاء بأكل الثمار من على أطرافها. فما هو في أعلاها مخصص للعصافير وممنوع أكله. في قانون الطبيعة ما يكفي الجميع، بشراً وعصافير وحيوانات، إذا ما احتُرم. هكذا يفهم الجنرال حدود السياسة في لبنان. لا إقصاء ولا احتكار لأحد.
هي مدينة فاضلة ينشدها الجنرال ربما، لكنها مدينة ممكنة وتتسع لكل الطوائف. لا بد، إذاً، من توسيع الانفتاح على السنّة، وترسيخ التفاهم مع الشيعة، وإقناع الزعامة الجنبلاطية بأن لا حكم للبنان من دون «تفاهم الجبل». الانفتاح يحمي الجميع ويكرّس الحضور المسيحي وينقذ الرئاسة.

في التاريخ شواهد كثيرة على فكرة الانفتاح عند الجنرال. يعود بعضها الى حين كان قائداً عسكرياً في محور سوق الغرب خلال حرب الجبل ضد قوات الحزب التقدمي الاشتراكي وحلفائه. جاءه الرئيس السابق أمين الجميّل طالباً التقدم من سوق الغرب صوب معاقل الزعامة الجنبلاطية. سمع عون ولم ينفّذ، آملاً أن ينسى الجميّل طلبه بعد حين. لكنه لم ينس. عاد يطلب الامر نفسه. أجاب عون: «لنفترض أنني تقدمت بالجيش ووصلت حتى المختارة واعتقلت وليد جنبلاط. ماذا ستفعل بعد ذلك؟ لا يمكن في هذا البلد إلا العودة الى الحوار والتفاهم، فلنتفاهم معه ونوفّر عليه وعلينا مئات الشهداء».

مرّ على تلك الرواية نحو 30 عاماً. ربما كان عون قادراً على الانتصار في سوق الغرب، وربما كان جنبلاط وحلفاؤه قادرين على الانتصار. ليس هذا مهماً. الأهم أن زائر الرابية هذه الأيام لن يسمع من الجنرال سوى حرص على التفاهم مع جنبلاط، وعلى وحدة الجبل. لم تكن صدفة أن يرسل وفداً رفيعاً الى بلدة بريح للمشاركة في آخر مصالحات الجبل السبت الماضي. ترأس الوفد وزير الخارجية جبران باسيل. ضحك الجميع من زلّة لسان جنبلاط حين خاطب رئيس الجمهورية بـ «فخامة الرئيس ميشال عون». لزلّات اللسان في أوقات كهذه أسباب كثيرة.

احتمالات الوصول الى بعبدا «90 أو 100 % إذا كان المطلوب الحل»

من التاريخ، ثانياً، لقاء بين عون ورئيس القوات اللبنانية سمير جعجع بعيد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2005. تحدّث جعجع عن أهمية تحالف المسيحيين مع السنّة لمواجهة حزب الله. سمع نصحاً من الجنرال بألا يفعل، لأن المسيحيين لا يستطيعون تحمّل نتائج مواجهة كهذه. قال جعجع إن الاميركيين وغيرهم يطلبون ذلك. حصل اجتماع لاحق في بكركي حضره قادة مسيحيون بينهم الرئيس الجميل ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية وعون وجعجع وغيرهم. تعمَّد الجنرال تسجيل موقف. روى ما حصل. ثم نظر الى رئيس القوات اللبنانية وسأله: «هل توافق على ما قلته؟». أجاب جعجع: «نعم. كله صحيح لكنني لم أقل إن الاميركيين طلبوا ذلك، وإنما فهمت منهم أنهم يريدونه».

من التاريخ، ثالثاً، لقاء عون مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله قبيل وبعد لقاء الجنرال برئيس الحكومة السابق رئيس تيار المستقبل سعد الحريري. تمحور كل الحديث حول ضرورة العودة الى منطق الانفتاح على السنّة. ورقة التفاهم المشتركة بين التيار الوطني وحزب الله جنَّبت لبنان ويلات كثيرة ودعمت المقاومة. في مقدمة الورقة كلام مهم عن الحوار الوطني والإرادة الوفاقية الجامعة والديمقراطية التوافقية. ما الذي يمنع اليوم من تفاهم أوسع ينقذ الرئاسة ويوقف الفتنة المذهبية ويعزز مشاركة الجميع في حكم لبنان؟

من يزر الرابية هذه الايام، يجد عون مقارباً حدود اليقين في علاقته المتنامية مع الحريري، وراسخاً في ثقته بالسيد نصرالله، وواثقاً من تغييرات دولية وإقليمية حياله. ربما حمل صهره، وزير الخارجية جبران باسيل، بعض الثقة الإقليمية من لقائه بالمرشح الرئاسي في مصر المشير عبد الفتاح السيسي. مصر التي تحرص على البقاء على مسافة واحدة من كل مرشحي الرئاسة في لبنان هي حالياً في ذروة تحالفها مع السعودية. فماذا عن المملكة؟

هذا هو السؤال الأبرز في الرابية. حصل اتصال بين الجنرال والسفير السعودي في لبنان علي عواض العسيري. سبقه تصريح ترحيبي من باسيل بعزم السعودية على السماح لمواطنيها بالعودة الى لبنان. لكنّ ثمة غموضاً لا يزال قائماً. هل انفتاح الحريري مغطّى بدعم سعودي أم لا؟ هل التفاهم العتيد بين المملكة وإيران حول الحكومة العراقية المقبلة سيخدم الجنرال أم لا؟

الأسئلة مهمة. لكن الجنرال على موقفه السيادي نفسه: «أريد علاقة مع الجميع إلا إسرائيل. لكنني لم ولن أقبل أن أكون صنيعة أي دولة خارجية. إذا كان ثمة اقتناع محلي وإقليمي ودولي بضرورة أن أكون الرئيس التوافقي للحل في لبنان فأنا جاهز. أما إذا كان ثمة من يريد فرض رئيس، لأسباب أخرى، فسأكون جاهزاً أيضاً، ولكن… لمواجهة ذلك».

يطول الانتظار في الرابية. يضجّ المنزل كخلية نحل. يكبر الأمل والأسئلة. يبتسم الجنرال ويطعم العصافير تحت شجرة الإكي دنيا. يدرك أنه القضية الأبرز في التاريخ الحديث للبنان. في يده مصير الرئيس، ولكن الأهم أن في يده مستقبل الرئاسة، وربما مستقبل الجزء الأكبر من مصير المسيحيين والوطن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.