فلسطين في عام

موقع قناة الميادين-

عمرو علان:

مفهوم “وحدة الجبهات”، الذي دعا إليه قائد هيئة أركان “كتائب القسام” محمد الضيف، يمثل تصوراً شاملاً لمفهوم “وحدة الساحات”، وكان أبرز تطور في هذا المجال هو استعادة العلاقات بين حركة “حماس” وسوريا.

ينقضي عام آخر من عمر القضية الفلسطينية، شهد سقوط المئات بين شهيد وجريح، واقتحامات متكررة للمسجد الأقصى، وأسرى ما زالوا يكابدون غلال الأسر. في المقابل، شهد ثورةً في الضفّة في طور الاكتمال، والتحاماً صاروخياً على جبهة غزّة، وجهوداً لإعادة ترتيب العلاقات الفلسطينية الإقليمية، وكذلك الوطنية، فما أبرز النقاط هذا العام فلسطينياً؟ وهل يمكن استشراف المقبل في ظل أحداث عالمية تنبئ بتحولات كبرى في الساحة الدولية؟

وحدة الساحات
ظهر مصطلح “وحدة الساحات” في التداول أثناء معركة “سيف القدس” 2021. وقد كان ذلك على وقع تفاعل الكلّ الفلسطينيّ مع تلك المعركة بصورة عمليّة، وحيثما وُجِد، وجاءت معركة “وحدة الساحات” في 5 آب/أغسطس 2022 على جبهة غزّة، التي قادتها حركة “الجهاد الإسلامي”، تعبيراً عن مفهوم “وحدة الساحات”، كما يتضح من الاسم.

ولكنّنا نجد أنَّ قدراً من التباين في الرؤى بين فصائل المقاومة المسلّحة الفلسطينية برز في بادئ الأمر حول مفهوم “وحدة الساحات” في كيفية تطبيقه على أرض الواقع، وذلك ضمن تكتيك تُجمِع عليه تلك الفصائل.

أما الآن، فيبدو أنَّ الفصائل قطعت شوطاً كبيراً للوصول إلى تصوّر موحّد لتكتيك “وحدة الساحات”، يقوم على أساس توظيف الساحات الفلسطينية بطريقة تكامليّة، وذلك من ناحية العمل الميداني، لتحقيق أهداف تكتيكية أو إستراتيجية محددة ومتفق عليها مسبقاً، لكن تبقى العبرة بالتنفيذ، وفي مدى التوافق على الأهداف المرجوّة في كل مرحلة.

أما مفهوم “وحدة الجبهات”، الذي دعا إليه قائد هيئة أركان “كتائب القسام” محمد الضيف في 14 كانون الأول/ديسمبر 2022، فهو يمثل تصوراً شاملاً لمفهوم “وحدة الساحات”، بحيث يتعامل مع مجموع ساحات فلسطين على أنّها جبهة واحدة ضمن باقي الجبهات التي تؤمن بخيار المقاومة المسلحة، أو بعبارة أخرى “محور القدس”، كما سماه ذات مرّة أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصر الله.

هذا المحور، وعلى رغم قطعه أشواطاً معتبرةً في الاتجاه المرجوّ، ما زال يلزمه المزيد من العمل بهدف زيادة التنسيق بين جبهات “محور المقاومة”، ومن أجل إعداد خطة متكاملة للتحرير الكامل والقضاء على الكيان المؤقت.

العلاقات الفلسطينية الداخلية والإقليمية
كان أبرز تطور في هذا المجال هو استعادة العلاقات بين حركة “حماس” والجمهورية العربية السورية، وفي هذا دلالة على أن أركان “محور المقاومة” نجحت في تجاوز التباينات في الرؤى التي نشأت إثر الأحداث التي عصفت بالوطن العربي خلال العشرية الماضية، وفي هذا دلالة أيضاً على أن كلّ المساعي التي بُذلت من عدّة أطراف إقليمية ودولية لتفكيك هذا المحور باءت بالفشل، إضافة إلى أنّ هذا التطور يُعدّ خطوةً رئيسةً نحو تحقُّق فكرة “وحدة الجبهات”.

لكن كما قيل سابقاً، هذه الخطوة يلزم البناء عليها لتظهير “محور القدس”، وهذه المسؤولية تقع على عاتق أركان “محور المقاومة” مجتمعين.

أما في ما يسمى ملف “المصالحة الوطنية” بين حركتي “فتح” و”حماس”، فلم يحصل أي تقدُّم يذكر، باستثناء لقاء مكرّر شكلاً ومضموناً للفصائل الفلسطينية في الجزائر منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2022، ولا غرابة في هذا، فمهما حاولت الأطراف الفلسطينية دفن رؤوسها في الرمال، تظل الحقيقة الشاخصة للعيان بأن الانقسام الفلسطيني ما هو إلا على منهجين لا يلتقيان؛ منهج من يؤمن بتحرير كامل التراب الفلسطيني، وبالمقاومة المسلحة كخيار رئيس للفلسطينيين، ومنهج السلطة الفلسطينية القائم على التعاون الأمني والاستخباري مع المحتل ضد المقاومين، سواء كانوا فلسطينيين، أياً كان انتماؤهم الفصائلي، أو غير فلسطينيين، يعملون ضد الكيان المؤقت فيما يحلو لرموز السلطة الفلسطينية تسميته بالإرهاب، علماً أنّ قسماً من مآخذ كلّ من الفريقين على الآخر فيما يتعلق بإدارة أحوال المواطنين، يوجد فيه الكثير من الجدارة.

لكن أيّاً كان الحال، فقد شهدت الضفّة هذا العام نموذجاً آخر لإدارة العلاقات الداخلية الفلسطينية بطريقة واقعية يمكن البناء عليها، بعيداً من اللقاءات الفصائلية العقيمة. وقد مثّلت ذلك النموذج مجموعات المقاومة المسلحة التي تشكّلت في الميدان، والتي ينتمي أفرادها إلى خلفيات فصائلية متنوعة، فنجد أنّ المجموعة الواحدة تضم مقاومين من “فتح” و”حماس” و”الجهاد الإسلامي” و”الجبهة الشعبية”، ناهيك بمقاومين آخرين لا ينتمون إلى أي فصيل بعينه.

يمكن إرجاع نجاح هذا النموذج في الوحدة الوطنية إلى توفر الحدود الدنيا للتوافق بين المتحالفين، فقد حدد أفراد هذه المجموعات ضمناً أن “التناقض الرئيس” لديهم هو مع الاحتلال، كما أنّهم توافقوا على خيار المقاومة المسلحة كسبيل واقعي لاستعادة الحقوق الفلسطينية المسلوبة.

ويمكن تشبيه هذه المجموعات بـ”غرفة العمليات المشتركة” في غزّة، لكن مع الفارق، وذلك بما يتناسب والظروف الميدانية والأمنية التي تختلف جذرياً في الضفّة عما هي عليه في غزّة.

وتبقى الإشارة في هذا القسم إلى مؤتمر “الجبهة الشعبية” الثامن الذي عُقِد منتصف هذا العام، والذي قرّرت فيه الجبهة “تهميش الحل المرحلي لحساب الحل الجوهري المتمثل بتحرير فلسطين بشكل كامل من بحرها إلى نهرها”، فمن بقي إذاً بعد هذا في الساحة الفلسطينية ينادي بالحل المرحلي الذي ثبتت كارثيته على المشروع الوطني سوى رموز السلطة الفلسطينية وبعض من حركة “فتح”؟

ثورة متصاعدة في الضفّة
يبقى ظهور مجموعات المقاومة المسلحة شبه المنظمة في ساحة الضفّة أهم تطور في هذا العام. ومن تلك المجموعات المسلحة على سبيل المثال لا الحصر: “كتيبة جنين” و”عرين الأسود” و”كتيبة بلاطة”.

ويعدّ ظهور هذه الحالات المقاوِمة استجابةً لظروف موضوعية مستجدة، فالمزاج العام في الضفّة، لا سيما بين شريحة وازنة من أبناء حركة “فتح”، تحول بصورة ملموسة إلى رفض مسار “أوسلو”، وذلك بعد ظهور الآثار الكارثية لهذا المسار المشؤوم على مستقبل القضية الفلسطينية، وبعد تحول السلطة الفلسطينية بصورة فعلية إلى أداة بأيدي الاحتلال لقمع أي مسعى للتحرير، إضافة إلى الأثر الإيجابي الذي تركته معركة “سيف القدس” في معنويات الشعب الفلسطيني عموماً.

ويُضاف إلى هذه الظروف تعاظم قوى المقاومة إقليمياً، ما انعكس إيجاباً على معنويات المقاومين في الداخل الفلسطيني، فالعلاقة بين قوى المقاومة عموماً تعد علاقةً “جدليةً”. ويشير ظهور هذه المجموعات المسلحة شبه المنظمة إلى أن الضفّة تستعيد حيويتها الثورية، وأنّها تنفض عنها غبار مرحلة “الموت السريري” التي مرّت بها بُعيد تولي محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية.

لكن يبقى أدق توصيف للمجموعات المسلحة الصاعدة في الضفّة هو أنها حالة ثورية، ويقع على عاتق فصائل المقاومة الفلسطينية، وكذا الإقليمية، دعمها بكل السبل كي تتحول إلى ثورة مكتملة الأركان تتمكَّن من تحقيق إنجازات ملموسة على طريق التحرير الكامل، وهذا ما ستفصح عنه الأيام المقبلة.

قضية الأسرى
لا تزال قضية الأسرى جرحاً نازفاً في الجسد الفلسطيني، وحتى العربي؛ فمنذ “صفقة وفاء الأحرار” قبل 11 عاماً، لم يطرأ جديد يُذكر على هذه القضية، لا في هذا العام ولا قبله. وعلى الرغم من المساعي التي قامت بها فصائل المقاومة الفلسطينية بهذا الخصوص، ولا سيما حركة “حماس”، فإنَّ النتائج في هذا الصدد متواضعة.

لهذا، يبرز التساؤل المشروع: هل قامت المقاومة بكل ما بوسعها لفك أسر المعتقلين في سجون الاحتلال؟ يجيب البعض بالنفي، ولعلنا نجد في إجابتهم تلك قدراً معتبراً من الموضوعية.

التطبيع واتفاقيات الأسرلة
لم يجدّ جديد بشأن اتفاقيات الأسرلة – ما سمي “اتفاقيات أبراهام” – على الصعيد الإستراتيجي، حتى إن الوثيقة التي تحدّد إستراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن الأميركية، التي صدرت في تشرين الأول/أكتوبر 2022، لم تأتِ على ذكر تلك الاتفاقيات سوى بطريقة عرضية، فكل ما عبّرت عنه كان تطلع الولايات المتحدة الأميركية إلى تعميق علاقاتها مع دول المنطقة، استمراراً لاتفاقيات التطبيع.

هذه الاتفاقيات يلزمها أولاً تغيير في موازين القوى الحاكمة إقليمياً، كي يكون لها أثر فعلي في الصراع العربي الإسرائيلي لا العكس. أما زوبعة التطبيع التي روّج لها إعلام الدول المطبِّعة زوراً، فقد كشف زيفها بصورة فاقعة من خلال ردّ فعل الشعب العربي التلقائي تجاه وسائل إعلام العدو التي حضرت في قطر خلال مجريات كأس العالم لكرة القدم 2022، علماً أن وجود وسائل إعلام العدو في قطر من حيث الأصل يعّد بحد ذاته تطبيعاً موصوفاً.

اقتحامات المسجد الأقصى
من أخطر القضايا التي شهدها هذا العام، إن لم تكن الأخطر على الإطلاق، ازدياد اقتحامات قطعان المستوطنين للمسجد الأقصى، أكان من جهة عدد عمليات الاقتحام أم من جهة طبيعة تلك الاقتحامات، فقد شاهدنا تدنيس المستوطنين لباحات المسجد الأقصى، وتأديتهم الطقوس التوراتية و”السجود الملحمي” فيها. كل تلك الطقوس ليست سوى تمهيد لهدم المسجد الأقصى وإقامة هيكلهم الثالث المزعوم مكانه.

وقد جرى كلّ هذا قبل صعود التيارات الصهيونية الأكثر تطرفاً إلى الحكم، وذلك عقب انتخابات الكنيست الإسرائيلي الأخيرة في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، فكيف ستكون الحال في ظل الحكومة الإسرائيلية القادمة والمؤلفة من تلك التيارات؟

يعيدنا هذا الحديث إلى مفهومَي “وحدة الجبهات” و”محور القدس”، وإلى حاجة قوى المقاومة الملحة لترسيخهما بصورة عملية، فالتهديدات بهدم المسجد الأقصى باتت حقيقيةً وراهنةً، وحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين المحتلة مسؤولية الأمة مجتمعةً، ولا تقع على عاتق الفلسطينيين وحدهم، مع كونهم رأس الحربة لمواجهة مخططات العدو هذه، فهل تكون قوى المقاومة في الأمة على قدر المسؤولية كما كانت في محطات سابقة؟

نظرة إلى المستقبل
يمر العالم بمرحلة في غاية الحساسية، إذ إنَّ هناك شبه إجماع على أن شكل النظام العالمي لعقود قادمة سيتحدد بناءً على نتيجة الصراع الدائر بين روسيا ومن خلفها الصين، وحلف شمال الأطلسي بقيادة أميركا. ينذِر هذا الصراع بسبب طبيعته بالتّصاعد والتوسع، وبالمزيد من التوترات، سواء الدولية أم الإقليمية.

ويعدّ هذا الوضع سلاحاً ذا حدين بالنسبة إلى الفلسطينيين وقوى المقاومة الإقليمية عموماً، فحالة السيولة التي يعيشها العالم والنظام الدولي اليوم تتيح للقوى الصاعدة والمستضعفة النفاذ من بين الشقوق وتحقيق مكاسب يصعب تحقيقها في ظل نظام عالمي مستقر رسمت فيه خطوط الاشتباك بين القوى الدولية الكبرى، ناهيك بكون تراجع سيطرة معسكر الهيمنة الغربية، إذا ما حصل كنتيجة للصراع الدولي المحتدم اليوم، يصب بالطبيعة في مصلحة القوى المستضعفة في العالم، ومن بينها الفلسطينيون.

في المقابل، إنّ العدو كذلك لا بدّ من أن يحاول استغلال حالة السيولة الدولية لمصلحته من أجل فرض وقائع ميدانية جديدة، فكيف إذا ما كان من يدير شؤون العدو حالياً هم الأكثر تطرفاً في الكيان؛ أولئك الذين ينادون صراحةً بهدم المسجد الأقصى، وضمّ أراضي الضفّة المحتلة وتهجير سكانها، ومعاقبة فلسطينيي 1948! لهذا، يرجح أن تشهد الأراضي الفلسطينية مزيداً من التصعيد في الأشهر القادمة.

على أيِّ حال، فإنَّ زيادة عنف الاحتلال ضد الفلسطينيين ستستجلب ردود أفعال مقابلة من الشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة، وهذا ما يجري بالفعل في الضفّة، فحالة الثورة المتجددة التي تعيشها ساحاتها وتصاعد الفعل المقاوم هناك لا يأتيان خارج السياق.

خاتمة
لم تعد موازين القوى مختلة لغير مصلحة الفلسطينيين وقوى المقاومة العربية والإسلامية كما كانت في السابق، فمظاهر التراجع بادية على الكيان المؤقت، وكذلك على الولايات الأميركية المتحدة؛ الداعمة الرئيسية لهذا الكيان. في المقابل، إنّ قدرة قوى المقاومة العسكرية في تصاعد مستمر.

مع ذلك، فقد زاد عمر احتلال فلسطين ليصير 74 عاماً مع انقضاء عام 2022، وما زال آلاف المقاومين الفلسطينيين قيد الأسر، وما زال مسرى المصطفى مهدداً بالهدم، فهل يمكن لقوى المقاومة قلب هذه المعادلات وتحقيق إنجازات ملموسة على طريق التحرير الكامل ضمن الظروف الحاكمة راهناً، وضمن موازين القوى المستجدة؟ بالتأكيد نعم. هل قوى المقاومة الفلسطينية والإقليمية جادة في تحقيق الهدف المنشود بإزالة الكيان المؤقت؟ ماضي تلك الحركات وكل الشواهد تقول ذلك، وتبقى العبرة بالخواتيم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.