كيسنجر في بكين.. الثعلب الأمريكي العجوز يخرج من وكره؟

موقع العهد الإخباري-

حيّان نيّوف:

لا شكّ بأن أمراً مهماً للغاية أو حتى يمكن وصفه بالخطير استدعى زيارة ثعلب السياسة الأمريكية العجوز هنري كيسنجر لبكين ولقاءه مع كبار المسؤولين الصينيين السياسيين والعسكريين بزيارة مفاجئة لم يعلن عنها قبل حدوثها سواء من قبل الإدارة الأمريكية أو من قبل القيادة الصينية.

ورغم أن تصريحات الإدارة الأمريكية أكدت أن زيارة كيسنجر لبكين تمت بمبادرة شخصية منه وأن لا علاقة للإدارة الأمريكية بها، فإن ذلك لا يغير من حقيقة أهمية هذه الزيارة البالغة. فكيف يصح في المنطق أن يتحمّل شخصٌ مثل كيسنجر يبلغ من العمر 100 عام مشاق السفر الطويل لو لم يكن هناك أمر خطير يستوجب ذلك؟

بالعودة إلى تاريخ العلاقات الصينية – الأمريكية فإنه يمكن ملاحظة أن هذه العلاقات تأسست منذ ما يقارب النصف قرن على يد كيسنجر لدى زيارته الشهيرة في العام 1971 إلى بكين والتي مهدت لزيارة الرئيس الأمريكي في حينها ريتشارد نيكسون التاريخية للصين ونظمت العلاقات بين البلدين طوال الفترة اللاحقة وحتى وقت قريب، ومنعت التصادم بين البلدين.

وتحتل الصين المرتبة الثالثة من بين الشركاء التجاريين للولايات المتحدة بعد كندا والمكسيك، وتعتبر الولايات المتحدة الشريك التجاري الأول للصين، ويشهد التنافس بين الجانبين مواجهة بين مجموعة السبع التي تقودها الولايات المتحدة ومجموعة بريكس التي تقودها الصين إلى جانب روسيا، حيث وصل التنافس الى درجة التهديد الحقيقي بإزاحة الدولار عن التربع على عرش العملات العالمية في المعاملات بين الدول.

اليوم تبدو العلاقة بين القوتين العظميين في أسوأ حالاتها منذ ذلك التاريخ، وتجاوزت ما اتفق عليه منذ نصف قرن بفعل التحولات الجيوسياسية التي شهدها العالم وما زال منذ الغزو الأمريكي للعراق وصولاً إلى الحرب الأوكرانية وتداعياتها.

ومنذ لقاء القمة الصينية – الأمريكية التي عقدت العام الماضي على هامش قمة العشرين في أندونيسيا، والتي حاول فيها الزعيمان (جينبينغ وبايدن) تنظيم العلاقة بينهما ضمن خطوط حمراء تم وضعها لتنظيم التنافس الاقتصادي والتجاري ومنعه من التحول إلى صدام، وكذلك تنظيم العلاقات السياسية، غير أن البلدين فشلا حتى الآن في العمل تحت تلك العناوين المتفق عليها، وتشهد على ذلك حرب أشباه الموصلات والتوتر في بحر الصين الجنوبي، والحرب الباردة بينهما في المحيط الهادئ، والتنافس في أفريقيا وأوروبا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط ولو بدرجة أقل، وصولًا إلى سباق التسلح وسباق غزو الفضاء.

غير أن التهديد الأخطر يتمثل بالمواجهة العسكرية التي يمكن أن تنشأ بين القوتين العظميين بسبب ملف تايوان خاصة في ظل ما وصلت إليه الحرب الاوكرانية وتداعياتها سواء على الاقتصاد العالمي وسلاسل التوريد التي تخص الطاقة والغذاء، أو لجهة استهلاكها لمخزونات السلاح الغربية.

في هذا الإطار فإن اللحظة التاريخية وضعت الولايات المتحدة في موقف حرج للغاية خاصة مع فشل الهجوم المضاد الأوكراني وإلغاء اتفاق حبوب البحر الأسود وتعثر الوصول إلى حلول مضمونة في الشرق الأوسط تضمن سلاسل توريد الطاقة، ثم إعلان روسيا لمنطقة البحر الأسود كبحيرة شبه مغلقة بوجه الجميع ووضعها بشكل شبه كامل تحت سيطرتها، وكل ذلك كما قلنا تزامن مع استنزاف مخزونات السلاح الأمريكية والغربية.

إن هذا الموقف الحرج والخطير الذي وجدت الولايات المتحدة نفسها فيه لا يحتمل مطلقًا حربًا جديدة أو عملية عسكرية كبرى يمكن أن تقدم عليها الصين في بحر الصين الجنوبي أو في مضيق تايوان، سواء لجهة اغلاق تلك المنطقة أو اعادة ضم الجزيرة (تايوان) للصين، وهو أمر إن وقع فإنه يعني حكمًا هزيمة كاسحة للولايات المتحدة في ظل هذه اللحظة التاريخية والمفصلية التي يشهدها العالم وفي ظل نفاد مخزونات السلاح الغربية بفعل العملية العسكرية الروسية في اوكرانيا وعدم ضمان سلاسل توريد الطاقة والغذاء سواء عبر البحر الأسود أو من الشرق الأوسط والبحر المتوسط.

إن القلق والهلع الأميركيين من هكذا حدث والذي يمكن أن يطيح بالهيمنة الأمركية أو يتسبب بحرب عالمية بين هاتين القوتين النوويتين، مضافًا إليه خشية الولايات المتحدة من أن ذلك كله يجري بالتنسيق بين بكين وموسكو وطهران، هو ما استدعى اللجوء إلى الثعلب العجوز كيسنجر، ذلك أن هذا الثعلب الهرم ما كان ليخرج من وكره لو لم يكن هناك حدث جلل يتهدد الهيمنة الأمريكية على العالم، خاصة بعد الموقف الصيني المتشدد من الإدارة الأمريكية وفشل الزيارات الأخيرة التي قام بها مسؤولو إدارة بايدن لبكين في إزالة هذا القلق والوصول إلى ضمانات أمنية وتجارية وعسكرية تزيل هذا القلق.

وبالمحصلة؛ فإنه يمكن القول إن زيارة كيسنجر للصين إما أن تكون نقطة تحول تاريخية لتسوية عالمية شاملة لا تحتمل التأجيل، أو أن تكون إيذانا بانفجار عالمي ستكون الولايات المتحدة فيه الخاسر الأكبر، ومهما تكن نتيجة تلك الزيارة المهمة فإنه يمكن الجزم بأن النظام العالمي الحالي قد دفن إلى غير رجعة وأن عالمًا جديدًا بدأ بالظهور، وأن الولايات المتحدة وجدت نفسها لأول مرة في لحظة تاريخية تهدد هيمنتها على العالم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.