لماذا الخوف الأميركي من التعديلات القضائية في الكيان؟

موقع العهد الإخباري-

شارل أبي نادر:

“حجة المعقولية” هي حجة تبنّاها الكنيست الإسرائيلي لمراقبة الحكومة أو السلطة التنفيذية، بحيث تتيح لمحكمة العدل العليا التدخل عندما يكون عمل السلطة التنفيذية غير معقول بصورة متطرفة، وبالتالي يحق لها إلغاء قوانين وقرارات إدارية بذريعة أنّها غير معقولة. وبحسب قناة “كان” الإسرائيلية فإنّ “القانون الحالي موضوع الخلاف، ينصّ على تقليص صلاحية المحكمة في استخدام هذه الصلاحية (حجة المعقولية)، وبالتالي إطلاق يد الائتلاف الحكومي في تنفيذ سياساته لاعتبارات غير مهنية”.

في هذا الإطار، أفادت وسائل إعلام إسرائيلية أنّ الأزمة في “الجيش الإسرائيلي بعد التصويت على إلغاء “حجة المعقولية”، ستتصاعد وتكبر خلال الأيام المقبلة”، وفي نفس السياق ذكرت قناة “كان” الإسرائيلية أنّ “الجيش” الإسرائيلي يخشى استقالات “صامتة لضباط ممتازين” في شعبة الاستخبارات وسلاح الجو، كما أشار مراسل الشؤون العسكرية في “القناة الـ13″، أور هيلر: “نحن نتلقى الرسائل التي يرسلها جنود الاحتياط، سواء في سلاح الجو أو في شعبة الاستخبارات، وأيضاً في جهاز العمليات الخاصة”، مشيراً إلى أنّ “هؤلاء الأشخاص يبلغون قادتهم أنّهم لن يلتحقوا بالاحتياط في شهر آب/أغسطس”.

من جهة أخرى، ومن مكان بعيد من خارج الكيان أعرب البيت الأبيض عن أسفه لتقليص قانون “حجة المعقولية، ودعا “إسرائيل” إلى تعزيز الإجماع، وأعرب بايدن والذي اعتبر نفسه صديقًا طوال العمر لـ”اسرائيل” أن “التغييرات الرئيسية في الديمقراطية يجب أن يكون لها إجماع واسع قدر الإمكان، ومن المؤسف ما حصل بأن يمضي الكنيست في إقرار تغييرات جوهرية في المحكمة العليا الإسرائيلية”، محذرًا من تداعيات القرار ومن تراجع العلاقة الثنائية إلى مستويات متدنية.

بين ما أصاب الجيش العدو الاسرائيلي من تخبط ومن فقدان غير مسبوق لتوازنه ولتماسكه ولاستعداده للخدمة العسكرية، وبين موقف الإدارة الأميركية السلبي بقوة من هذه التعديلات القضائية، ما هي الأسباب الفعلية لهذين الموقفين؟ ولماذا سيكون الجيش الاسرائيلي الأكثر تأثرًا بالتعديلات القضائية وتحديدًا بتقليص حجة المعقولية؟ ولماذا أخذت هذه التعديلات لدى الإدارة الأميركية هذا المنحى الخطير والذي رأت فيه تجاوزًا للخطوط “الديمقراطية”، بالرغم من أن هذه التعديلات سلكت المسار القانوني كاملًا كما ينص دستور الكيان الصهيوني؟

أولًا: بخصوص مشكلة التعديلات بالنسبة لجيش الكيان، عدة تساؤلات تطرح: فهل تأسس هذا الجيش على العمل بشكل مستقل عن الحكومة تقريبًا ورأى اليوم في هذه التعديلات تقييدًا لعمله ولدوره ولصلاحيته؟ وهل كان يرى في حجة المعقولية وتحديدًا في صلاحية المحكمة العليا، حماية له أكثر مما يمكن أن تقدمه له الحكومة أو السلطة السياسية من حماية، وهو المفترض أنه ذراع هذه السلطة وأداتها الغليظة – القوية في التنفيذ؟

وهل كان يرى في صلاحية وقرارات المحكمة العليا مستوى حصانة لعمله مقابل القرارات السياسية أكثر مما تقدمه له الحكومة؟

عمليًا، تقليص حجة المعقولية يطال نواحيَ عدة في إدارة السلطة في الكيان وليس فقط عمل الجيش، إذ توجد مؤسسات رسمية مختلفة تابعة للوزارات الأخرى، وهي تقوم بعملها وبدورها بوجود حجة المعقولية، وتعديل أو تقليص الأخيرة، سيؤثر أيضًا على عملها وعلى صلاحياتها، ولكن بدا الأمر وكأنه استهداف للجيش أو للقرارات التي يمكن أن يأخذها أو ينفذها، والتي ستكون معرضة للمساءلة من السلطة السياسية وتحديدًا من رئيس الحكومة ومن وزراء الأمن.

في الواقع، يخشى جيش الكيان هذا التقليص في حجة المعقولية لأنه يعلم جيدًا ويقدّر أن تكون قرارات السلطة السياسية المتشددة، متهورة، خاصة تجاه الفلسطينيين وفي كافة المناطق المحتلة، والجيش، مبدئيًا لن يذهب بعيدًا في تنفيذ أوامر السلطة السياسية المتشددة، ليس حبًا بالفلسطينيين طبعًا، وليس لأنه بطبيعته غير معاد للشعب الفلسطيني، ولكنه هو وحده الذي يعيش الأرض ويفهم حساسية وخطورة الإجراءات القمعية، ويعلم جيدًا وبنتيجة خبرات وتجارب طويلة في مواجهة المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني كله، والذي هو بأغلبه مقاوم، يعلم أن التشدد والقمع والتعدي على الحقوق وعلى المقدسات، لا يصل الى نتيجة مع الفلسطينيين، لا بل بالعكس، مع التشدد والقمع والتعدي على الحقوق، تتوسع المقاومة وتتعمق أكثر وأكثر، وهي اليوم (المقاومة الفلسطينية)، وعلى خلفية التشدد الأخير بعد تسلم حكومة نتنياهو الحالية، والقرارات العدائية للأخيرة تجاه المخيمات والأسرى وتجاه مسألتي القدس والمسجد الأقصى والاستيطان، تطورت ونمت وقويت أكثر وأكثر في القدرات والامكانيات والتكتيكات والالتزام، ومخيم جنين وبأسه خير نموذج على ذلك.

فالجانب السياسي الصهيوني المتشدد، والذي سيستعمل هذه التعديلات (تقليص حجة المعقولية) لتقييد الجيش واجباره على تنفيذ أوامره العدوانية ضد الشعب الفلسطيني، لا يهمه إلا تحقيق نزواته المتشددة وعنصريته المقيتة ولا يهتم بتداعيات ذلك ولا بما يمكن أن تسببه لدى الفلسطينيين من تماسك وتلاحم، ومن اصرار أكثر وأكثر على المقاومة والمواجهة والجهاد، والأجهزة الأمنية والعسكرية هي بالنهاية التي سوف تتحمل ذلك وعليها وحدها ستكون صعوبة المواجهة والمعالجة.

ثانيًا: لماذا حرص الأميركيين وخوفهم من تداعيات هذه التعديلات على الجيش الإسرائيلي تحديدًا؟

لأن الجيش في “اسرائيل” وتاريخيًا، يرتبط بالادارة الاميركية بشكل مستقل تقريبًا عن السلطة السياسية، ليس بالضروره أنه يأخذ أوامره من البيت الأبيض، ولكن مكانة جيش العدو لدى الإدارة الأميركية تتخطى العلاقة السياسية مع السلطة في الكيان، والتي تتغير دائمًا بينما الجيش هو ثابت واستراتيجيته وقدراته وتدريبه ومهامه وأدواره ثابتة، وما يقدمه الأميركيون لهذا الجيش من امكانيات مميزة عن أغلب حلفاء واشنطن، يجعل هذا الرابط بين الادارة في البيت الابيض وبين جيش الكيان قويا ومميزا، ولأن (إسرائيل – الجيش) بنظر الاميركيين هي قاعدة عسكرية كبرى خارج اميركا، لا تختلف بدورها العضوي وبمهامها الحيوية عن القواعد الاميركية الاستراتيجية في اوروبا أو في المحيط الهادي أو في دول وجزر شرق آسيا.

وصحيح أن لجيش العدو الإسرائيلي دورًا أساسيًّا في حماية الاحتلال وهذا هدف اميركي طبعًا، ولكن للجيش الإسرائيلي بما يملكه من إمكانيات استثنائية في القوة الجوية أو النووية دور أساسي أيضًا في تمكين استراتيجية واشنطن عبر العالم انطلاقا من كونه يمثل القاعدة العسكرية الأميركية الأقوى في الشرق الاوسط، والتي تتمركز في نقطة وسطية حساسة في مثلث استراتيجي بين الشرق والغرب، وتحديدًا بين البحار الثلاثة: المتوسط والأحمر وبحر العرب وشمال المحيط الهندي.

انطلاقًا من كل ذلك، ورغم سلوك التعديلات القضائية المسار الكامل تشريعًا وقانونًا، لا يبدو أن موقف الجيش الرافض والمعارض لها أو موقف الادارة الاميركية، سيعجزان عن إجبار حكومة نتنياهو على اعادة النظر في هذه التعديلات، وعلى الاقل في تنفيذ هذه التعديلات بشكل يرضي تحفظات جيش الكيان والادارة الاميركية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.