لماذا يحاولون اغتيال الميادين؟

موقع قناة الميادين-

بثينة عليق:

بعد 75 عاماً على النكبة تساهم الميادين، إلى جانب إعلام المقاومة، في التأكيد أن الوقائع لم تتغير ولا يمكن التعاطي مع الرواية الأميركية الإسرائيلية المشوهة والمحرفة على أنها حقائق.

 

لماذا تستهدف “إسرائيل” قناة الميادين في أثناء تغطيتها عملية طوفان الاقصى والعدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة؟ ولماذا تتخذ الحكومة الإسرائيلية قرار إقفال مكاتبها في القدس ورام الله، ثم لا تكتفي بذلك، فتتبعه باستهداف مباشر لصحافيَّين من فريقها العامل في جنوبي لبنان، أدى إلى استشهادهما؟

 

لا شك في أن وعي “إسرائيل” بأهمية الإعلام يعود إلى أمد غير قصير. تَعُدّ “تل أبيب”، كما الولايات المتحدة الأميركية، أن التحكم في وسائل الإعلام هو أحد العناصر الاساسية للهيمنة الكلية على الفضاء الإعلامي، وهي تدرك أن عليها أن تكسب الحرب إعلامياً قبل أن تطلق أول طلقة في حروبها، وأن المعركة الإعلامية تتطلب غلبة لوسائل الإعلام الصديقة لها، ومحاصرة واستهدافاً، إلى حد الإلغاء، لوسائل الإعلام الصديقة لفلسطين وللمقاومة.

 

ورد في أحد تقارير الجيش الأميركي أن الهيمنة الإعلامية لا تقل عن أهمية توفير الحماية الجسدية للجنود. لذلك، لم تتردد “إسرائيل”، خلال هذه الحرب، في اغتيال الصحافيين.

 

بدا واضحاً أنها تَعُدّهم عدواً لا يقل خطورة عن المقاومين أنفسهم. وفي هذا السياق، أدرجت الميادينَ، التي آلمتها بشدة من خلال مساهمتها الكبيرة في تشكيل الرأي العام، فلسطينياً وعربياً، والتأثير فيه، إلّا أن الأخطر، بالنسبة إلى الإسرائيليين، أن الميادين قدمت نموذجاً عن وسيلة إعلامية استطاعت، عبر إمكانات متواضعة، أن تحجز لنفسها مكاناً مهمّاً في الفضاء الإعلامي العربي، وأن تشكل للمتلقي العربي بديلاً من وسائل إعلام تدور في الفلك الأميركي ـ الإسرائيلي، وتخوض نيابةً عن واشنطن و”تل أبيب” الصراع في حلبة المعاني والعقول والمدركات.

 

إن نجاح النموذج الإعلامي، الذي تشكله الميادين، تَعُدّه “إسرائيل” من الخطوط الحمر، وخصوصاً في ظل الحرب الوجودية والمصيرية التي تخوضها منذ الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر 2023. لذلك، عمدت إلى محاولة اغتيال القناة الفتية، التي تبنّت منذ انطلاقتها سياسة تحريرية نقيضة لتلك التي اعتُمدت من جانب تيار إعلامي ساد في العالم العربي منذ عقود.

 

هذا التيار يمكن تسميته تيار “ثقافة الاستسلام”، وهو المصطلح الذي أطلقه الكاتب الفلسطيني بلال الحسن في كتاب له حمل الاسم نفسه. هذه الثقافة، وفق الحسن، هي نتاج “فكر يجاهد كي يصوغ نظرية الانحناء أمام كل مستعمر”، مع الإصرار على “جعل إسرائيل نموذجاً حضارياً وحداثياً”. أما الهدف فهو أن “نجد أنفسنا في النهاية أمام منظومة فكرية متكاملة، تسعى لقبول الهيمنة الأميركية، ولقبول إسرائيل”، كونها “أداة اساسية في عملية الهيمنة”.

 

عام 1967، شكّل محطة مهمة في هذا السياق. استطاعت منظومة الهيمنة الغربية أن تفرض على الجانب العربي الرضا بالاحتكام إلى القرارات الدولية، والرضوخ أمام لعبة الصياغة اللغوية، التي وصلت إلى ذروتها في القرار 242. أما إذا أصر الفلسطينيون والعرب على المطالبة بالحقوق التاريخية في الأرض والوطن، فإن تهمة الإرهاب جاهزة لوصمهم بها.

 

في تلك المرحلة، بدأت عملية نزع الصراع عن سياقاته التاريخية، سياسياً وثقافياً وإعلامياً. وصلت الأمور إلى ذروتها بعد اتفاقية كامب ديفيد. عملت وسائل الإعلام التابعة للأنظمة العربية، التي انخرطت وتواطأت، سواء علناً أو من تحت الطاولة، مع “إسرائيل” على تكريس تاريخ جديد للقضية الفلسطينية يبدأ في عام 1967. وبعد مرور 56 عاماً تقرر منظومة الهيمنة الغربية أن المشكلة بدأت في الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر 2023.

 

لم يتأخّر إعلام “ثقافة الاستسلام” عن الالتحاق بالركب. فتبرع بـ”تحريف الكلام عن مواضعه”، وتجنّد في هذه العملية المنظمة والممولة جيشٌ من الإعلاميين والمثقفين، الذين تولوا صياغة النبأ والخبر والتحليل والمقال.

 

إن متابعة الأداء الإعلامي لهذا التيار، منذ انطلاقته حتى طوفان الأقصى، تُظهر أنه عمل من دون كلل أو تعب على مجموعة من المفاهيم، أبرزها:

 

– محاولات منظَّمة لإعادة تعريف الصراع وتحميل الفلسطينيين أنفسهم مسؤولية النكبة والخيبات والانكسارات والهزائم.

 

– التخلي عن اعتماد مصطلح “الصراع العربي الإسرائيلي”، وإبداله بـ”النزاع الفلسطيني الإسرائيلي”، وتحويل المعنى الجوهري لهذا الصراع إلى مجرد خلاف بشأن حقوق متنازع عليها بين “طرفين” يتبادلان العنف، ويستويان في المعيار الأخلاقي.

 

– تبني منظومة إضافية من المصطلحات، تشمل “مصر أولاً، غزة أريحا أولاً، لبنان أولاً…”، كبديل من مقولة مركزية القضية الفلسطينية لدول المنطقة، و”الشرق الأوسط” كبديل من الوطن العربي، و”الانفتاح الاقتصادي” الذي يضمر تبني سياسات الاقتصاد الرأسمالي المتوحش.

 

– تصوير المقاومة على أنها أساس المشكلة.

 

– فرض خطاب العدو ومعانيه وروايته.

 

– وسم أي محاولة لنقل الواقع الفلسطيني بالشعبوية والانفعال واعتماد اللغة العاطفية.

 

– شيطنة التجارب العربية القومية، ووصف أفكارها بالأيديولوجيات المضلِّلة، التي لم تُنتج إلّا الهزائم والانكسارات والخراب.

 

– بعد عملية طوفان الأقصى قامت هذه الوسائل الإعلامية بمحاكمة المقاومة على فعلتها، وما سمّته استهدافها المدنيين. ذهب البعض إلى حد مطالبة قادة حماس، خلال مقابلات معهم، بالاعتذار عما قاموا به في الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر!

 

كما نُسِب البدء في القتل إلى المقاومة الفلسطينية، وبالتالي تمّ التعاطي مع الحرب الإسرائيلية كأنها “الرد المشروع”.

 

– تحميل مسؤولية الجرائم للجناح المتشدد في “إسرائيل”، متمثلا بنتنياهو وحلفائه في الحكومة، واتهام المقاومة بأنها تخدم، من خلال أدائها، هذا الجناح.

 

– الطعن في المقاومة الفلسطينية كونها جزءاً من محور المقاومة، الذي “ينفّذ الأجندة الإيرانية”.

 

كل هذا يؤدي تلقائياً إلى عَدّ “إسرائيل” واقعاً نهائياً لا مجال لتغييره، ولا مفر من قبوله، ولا جدوى في مواجهته.

 

لم تشبه الميادين، منذ انطلاقتها، وسائل الإعلام هذه، بل عملت على إعادة المفاهيم إلى المربع الأول. ساهمت، بصورة فعالة، في إعادة الاعتبار إلى حقيقة القضية وجوهرها.

 

“إسرائيل” في المعجمَين الإعلامي والسياسي، اللذين تستخدمهما الميادين، هي مشروع استعماري إحلالي استيطاني، له دور وظيفي مانع لنهضة الدول العربية وتنميتها، والقضية الفلسطينية هي القضية المركزية، التي تشكل أبرز شروط التحول نحو التنمية والازدهار لهذه المنطقة.

 

تقاوم الميادين الرواية الأميركية ـ الإسرائيلية بشأن مجريات الأمور في منطقتنا، وتعيد الأحداث إلى سياقاتها، وتضيء على دور العوامل البنيوية التي ساهمت فيما آلت إليه أوضاع المنطقة، وفي مقدمتها ما يرتكبه مشروع الهيمنة الأميركي، ودعم واشنطن المطلق للسياسات الإسرائيلية، وتجاهل الحقوق العربية والفلسطينية، وتخاذل النظام العربي وهيئاته.

 

تواجه الميادين التعريفات الأميركية للمقاومة ووصفها بـ”الإرهاب”، وتكشف التجاهل الأميركي لإرهاب “إسرائيل”.

 

لم تُسقط الميادين من قاموسها ومعجمها مصطلحات المقاومة والجهاد.

 

وهي تدرك، كما قال الكاتب الفلسطيني وليد سيف، في دراسة له بعنوان “الأسماء والأشياء: الثوابت والمتغيرات”، أن “هذه المصطلحات لا تُعرف بذاتها، وإنما بنقائصها وأضدادها: الاحتلال والغزو والإذعان والاستسلام”، وأن “تغييب معاني المقاومة يُضمر تغييب واقع الاحتلال والاغتصاب والغزو من فضاء التصورات والمعاني والخطابات، لتحل مكانها توصيفات أخرى مضلِّلة كالتنازل عن الحقوق. ”

 

تستردّ الميادين معاني الوحدة والعروبة والعدالة الاجتماعية والتحرر والتعاطي مع التجارب السابقة، التي شابها الفشل، من خلال دراستها والبحث عن استراتيجيات للمعالجة والبناء، وليس الدفع في اتجاه الإذعان ورفع الرايات البيضاء والتعاطي مع الاحتلال على أنه القدَر الذي لا يُرَدّ.

 

بعد 75 عاماً على النكبة تساهم الميادين، إلى جانب إعلام المقاومة، في التأكيد أن الوقائع لم تتغير ولا يمكن التعاطي مع الرواية الأميركية الإسرائيلية المشوهة والمحرفة على أنها حقائق.

 

لذلك، تحاول “إسرائيل” اغتيال الميادين، ولذلك أيضاً، ولأن الميادين تستمدّ أصالتها من تاريخ هذه الأمة ومن أحلام أبنائها وآمالهم، ستفشل “إسرائيل”، وستبقى الميادين ثابتة على حجم التحديات والآمال في منطقتنا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.