لم تصل قصة الشيخ إلى نهايتها

صحيفة الوفاق الإيرانية-

عباس خامه يار:

الشيخ يوسف القرضاوي، الرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، توفي الاثنين (26 ايلول/ سبتمبر2022) عن عمر ناهز 96 عاماً وذلك بسبب المرض والكهولة وايضاً نتيجة العزلة السياسية الناجمة عن احداث الأعوام الأخيرة المنصرمة، والذي وري جثمانه في اليوم التالي في مراسم لهذا الغرض.

وحالما نشر خبر وفاته، ابدت شخصيات وناشطون وتيارات مختلفة دينية وسياسية في العالم الاسلامي ردود فعل متباينة، كما نشرت وغطت وسائل الاعلام والمواقع الافتراضية في مصر وكافة البلدان العربية الاسلامية، وبشكل موسع، هذا الحدث.

القرضاوي، وكان من علماء الأزهر، ولد في سبتمبر عام 1926م في قرية (صفت تراب) بالمحافظة الغربية المصرية، وكان عمره سنتان عندما توفي والده وتولى عمه تربيته.

وكان قد حفظ القرآن المجيد قبل بلوغه العاشرة من عمره وواصل دراسته في جامعة الأزهر، ونال درجات عالية في دراسة الابتدائية والثانوية، ومع كونه القي القبض عليه في سنوات شبابه الا انه افلح في اتمام دراساته المتوسطة، ثم انضم الى كلية (اصول الدين) التابعة لجامعة الأزهر ليتخرج منها بدرجة امتياز من بين 180 من زملائه الطلاب.

وفي العام 1958م حصل على شهادة الدبلوم في قسم اللغة والادب العربي بجامعة الازهر، وفي عام 1973 نال شهادة الماجستير في فرع علوم القرآن والسنّة من كلية اصول الدين، ثم شهادة الدكتوراه بدرجة ممتاز من نفس الكلية في 1977م.

ألف القرضاوي، بصفته فقيهاً وخطيباً مقتدراً ولغوياً، ما يربو على 170 كتاب في الفقه والأصول والشريعة والتفسير والقرآن والحديث والسيرة النبوية والتبليغ والتربية والفكر السياسي والاقتصادي وغيرها من المواضيع، التي ترجم معضمها باللغات الحية بما فيها الفارسية والكردية، ونال شهرة واسعة في العالم وتركت افكاره آثارها في عقول المثقفين والناشطين السياسيين في العالم الاسلامي، ويمكن القول بانه أكثر علماء أهل السنة تأثيراً في تلك السنوات بالعالم العربي.

الفتاوى المستحدثة ودعمه الواسع للمقاومة

وقد أصدر العديد من الفتاوى المستحدثة في مواضيع متنوعة، وعرض وجهات نظر لا سابقة لها واثارت الكثير من الجلبة حول مواضيع بضمنها الزواج الموقت (زواج المسيار) واصبح نجماً ساطعاً في المنتديات الدولية وشبكات التلفزيون العالمية، خاصة في برنامجه المتلفز المباشر، أي (الشريعة والحياة) في شبكة الجزيرة والذي كان يشاهده الملايين، حيث اجاب على اسئلة دينية من مختلف ارجاء العالم، مما اكسبه شهرة استثنائية لا سابقة لها.

ونال شهرة خاصة وعامة بسبب خطبه النارية التي كان يلقيها ايام الجمعة في اكبر مساجد الدوحة، وتأسيسه (الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) وتأسيس شبكة (اسلام اونلاين) الناطقة باللغات الحية في العالم وذلك اول بداية نشاط الفضاء الافتراضي، علاوة على تساوقه وتعاونه مع النخبة من الاسلاميين والقوميين العرب وتشكيله مؤسسات مشتركة معهم، وايضا دعمه الواسع للمقاومة وحزب الله لبنان والحركة الاسلامية الفلسطينية واصداره فتاوى حول شرعية اعمال الشبان الاستشهاديين الفلسطينيين ضد الصهاينة المحتلين ومواقفه الثورية ضد الانظمة الاستبدادية والدكتاتورية العربية ومعارضته الشديدة لأي تطبيع في علاقات الأنظمة العربية مع النظام الصهيوني، وايضاً معارضته الشديدة لاجبار النسوة على نزع الحجاب في عدد من البلدان العربية، وهذا كله ادى لمرات ومرات الى حدوث توتر وقطع علاقات سياسية لقطر مع بقية البلدان العربية.

وبطبيعة الحال استغلت هذه المواقف من بعض الفئات والتيارات السلفية المتطرفة في المنطقة.

أحداث الربيع العربي والزعامة الروحية

مع ان القرضاوي لم تكن له خلال سنوات عديدة، مثله كمثل سلفه الشيخ محمد الغزالي، اي صلة تنظيمية مع جماعة الاخوان المسلمين ولم يستقبل مرشدي هذه الجماعة، لكنه، ايضاً كسلفه الشيخ الغزالي، فضل التدريس والاقامة في بلدان اخرى على البقاء في البلد الذي ولد فيه، لكن اعتبر ايضاً واحداً من منظري هذه الجماعة وكان له تأثير على العديد من مؤيديها واعضائها وظهر ابان احداث الربيع العربي واعتلى منبر الأزهر ومنصة ساحة التحرير بالقاهرة داعياً ومحفزاً الثوار على مواصلة الطريق حتى النصر الحاسم، وهذا الى حد انه حدا بالمسؤولين المصريين، منذ العام 2013م، الى اتهامه بالزعامة الروحية لجماعة الاخوان المسلمين غير القانونية. ثم بعد الاطاعة بمحمد مرسي، رئيس الجمهورية المرتبط بجماعة الاخوان، على يد عبدالفتاح السيسي (وزير الدفاع آنذاك) في العام 2013م، وجهت محكمة جنايات القاهرة له في 2015م تهمة المشاركة في ملف (الهجوم على السجن) واصدرت حكماً باعدامه.

في هذا السياق حكم على محمد مرسي و129 شخص آخر بالاعدام، من بينهم 102 عضو في حركة حماس الفلسطينية وحزب الله لبنان، حيث كان 90 منهم مختفياً عن الأنظار ومن بينهم القرضاوي.

وفي نفس السنة وجه الادعاء العام المصري لـ38 شخص آخر من الاسلاميين، ومن بينهم القرضاوي ، غيابيا ، تهمة تنظيم مجموعات مسلحة اقدمت على قتل ضابط شرطة.

في تلك الاعوام كان (للشيخ) علاقات حسنة مع الجمهورية الاسلامية ومع المرحوم الشيخ التسخيري والمرحوم آية الله واعظ زادة خراساني، وكان يذكر هذين العالمين الجليلين بكل خير على الدوام، وقام بتعيينهما مساعدين له في تنظيمه.

وعندما كنت في قطر لعدة سنوات، وكنت مديراً للمركز الثقافي الايراني هناك، كانت لي علاقات واسعة واستثنائية مع القرضاوي الى حد اننا كنا نلتقي مع بعض مرة على الاقل في كل اسبوع، وكان لنا تعاون مشترك في الكثير من المواضيع، وبصورة لا اعتقد ان اي من الايرانيين كان اكثر قرباً وذو علاقات حسنة مني شخصياً معه، (رسالة الفيديو التي بعثها الي من المستشفى حيث كان يخضع للعلاج، وذلك خلال مراسم توديعي وانتهاء مهامي والتي جرت في فندق ماريوت، عام 2004م، هي دليل على عمق هذه العلاقة، وقد ادرجتها مع هذا المقال).

علماً انني سأتحدث في وقت لاحق ومناسبة اخرى عن الذكريات الجميلة التي تستحق ان يُستمع اليها والحافلة بالعبر، وبنفس الوقت صعود وهبوط هذه العلاقة.

علاقات حسنة مع الجمهورية الاسلامية ورغبة للايرانيين

لكن هناك امرين اشير اليهما، حيث بذلت جهوداً كثيرة لاتمكن من دعوته لزيارة بلدنا وليكون ضيفاً على المرحوم الشيخ التسخيري، الذي كان حينئذ رئيس المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الاسلامية، ولتكون زيارة ناجحة وتاريخية.

وبعد عودته من اول وآخر زيارة لأيران، تحدث باعجاب متميز عن تطور ومعنويات الايرانيين، وتحدث عن محادثاته وحواراته مع علماء ومراجع الحوزة وزياراته المعالم الجميلة في بلادنا، مشيراً حتى الى تأثير الدعاية المسمومة التي تبثها وسائل اعلام والتي أثرت عليه بدون رغبة منه، واخذ يكرر في لقاءاته الخاصة مع ضيوفه بعد عودته جملة (قرآن الايرانيون لا يختلف عن قرآننا وقرآن كافة المسلمين!!) وكان يسرد اشعاراً تأييدية لحركة تأميم النفط ودعماً للمرحومين مصدق وآية الله كاشاني، والتي كان الناس يتغنون بها، مثيراً تعجب وفرحة ضيوفه.

كان الشيخ في الماضي يحل ضيفاً كل سنة على المركز الثقافي الايراني في قطر، وذلك في وليمة الافطار البهية تزامناً مع ذكرى ولادة الامام الحسن المجتبى(ع) وعلى اعتاب يوم القدس العالمي، والتي كان يحضرها العلماء والنخبة والجامعيين ووسائل الاعلام، بل كان من المدعوين الثابتين في هذه المراسم، وبعد ان يؤم الصلاة، تختتم المراسم بكلمة مني ومن الشيخ، اثر تناول الفطور، وكانت الكلمات والحوارات في مجموع هذه المراسم تتمحور دائماً حول الوحدة والتعاضد في العالم الاسلامي، حيث كانت الصحف المحلية تغطيها بمختلف المقالات والتقارير، وتحضى باهتمام وعناية كافة الناس.
هذه المراسم كانت تقام كل سنة تحت شعار خاص، وكان واضحاً تاثير المناخ القائم على اكمل العالم الاسلامي على تخصيص الشعار. فمثلاُ في رمضان عام 2001م كان شعار المراسم (لم تزل بدر قائمة والبشرى قادمة وما النصر الا من عند الله).

واذكر انني اشرت في تلك السنة الى ان أهم سلاح يمكنه تامين الامة الاسلامية هو الوحدة بين كافة المذاهب والطوائف، وان هذه الوحدة كانت دائماً الهدف الاستراتيجي الذي تسعى اليه الثورة الاسلامية منذ انتصارها.

كما ان الشيخ قال من جهته: “آه! كم نحن اليوم بحاجة لتعاضد القلوب حول محور المحبة والود”، وانتهى بالقول “نحن بحاجة لرحمة الله والنصر من عند الله”.

انتقادات التيارات الرجعية للشيخ

الشيخ بصفته رئيس (اتحاد علماء العالم الاسلامي)، كان يتعرض على الدوام لانتقادات التيارات الرجعية من طائفته، وهذه المواقف والعلاقات كانت من المسببات الرئيسية للهجمات الموسعة التي شنها الوهابيون باستمرار عليه والتي تركت تأثيراتها العميقة عليه.

في احد الايام، عندما كنت في منزله، اشار الى كتاب (القرضاوي في الميزان)، الذي كان الجهاز الديني السعودي قد نشره حديثاً، وقال متاسفا للغاية: دكتور عباس! انظر الى ما يفعل بي الوهابيون غير المنصفين.

وكان الكاتب السعودي لهذا الكتاب، قد شن هجوماً شديداً على القرضاوي بسبب وجهات نظره وآراءه حول مواضيع مثل المرأة، علاقته بالايرانيين (او الروافض كما يقول الوهابيون) و..، وهذا ما جرح فؤاد الشيخ الذي كان يروج لمبدأ الوحدة والتعاضد بين المسلمين.

مرت السنوات وجرت الاحداث والامور السلبية والنزاعات الدينية والطائفية في العراق وسوريا ولأسباب (معروفة! وغير معروفة!) تغيرت بشكل لا يصدق مواقف الشيخ الداعي الى الوحدة، وذلك الى حد ان مواقفه المثيرة للجدل والمتطرفة كان لها ردود فعل غير محمودة في العالم الاسلامي وفي ايران.

وكانت الدعوات والمطالبات المتكررة من داخل طائفته ومن اصدقاءه ورفاقه المتنورين والداعين له بالخير، كلها كانت بدون فائدة، كما لم تنفع اللقاءات والحوارات العديدة التي اجراها المسؤولون والنخبة في ايران معه، والتي كنت قد عملت على اجرائها. وكان آخر مسعى لي في هذا السياق هو اللقاء والحوارات المهمة والتأريخية التوجيهية التي اجراها الوفد الايراني برئاسة الدكتور ولايتي في فندق الشيراتون بالدوحة.

حوار وحدوي وداعي للتقريب

تنظم المهتمين من الجانبين حوار مباشر متلفز وحدوي وداعي للتقريب بينه وبين المرحوم آية الله هاشمي رفسنجاني عبر محطة الجزيرة، لم يتمخض عن النتيجة المطلوبة لكونه خرج عن سياقه الطبيعي وطرح قضايا هامشية متعارضة مع ما تم الاتفاق عليه سابقا.
يذكر ان تعليق عضوية الشيعة ومفارقة الشيخ التسخيري للاتحاد، هو قصة حزينة حافلة بالاحداث، والتي سيتم تناولها في وقت آخر.

كان الرأي العام في تلك الفترة وبعدها، يتسائل على الدوام حول ما الذي حصل ليحل توجه الترويج للكراهية محل مبدأ الوحدة بين الطوائف والجماعات الذي كان يؤمن به الشيخ ايماناً عميقاً؟ ومن هم اولئك ومن هي التيارات أو الانظمة التي جعلت القرضاوي يتخذ مثل هذه المواقف ، او مهدوا الارضية لها؟! وهذا الى حد انه استمراراً لهذا التوجه جعل الشيخ يرفع ولمدة راية معارضة التشيع في العالم الاسلامي، الى حد انه باتخاذه أشد المواقف الطائفية والفئوية نفخ في نار التخويف من ايران ومن الشيعة نافخاً في نار الفرقة في صفوف الامة، ما جعل الكثيرون في العالم الاسلامي يعتقدون ان اراقة الدماء والدمار الذي حل خلال الاعوام القليلة الماضية في سوريا والعراق وليبيا جاء ثمرة لمواقف وفتاوى الشيخ التكفيرية والباعثة للخصومة. وحتى بعد وفاته وجه العديد من اصحاب الشبكات الاجتماعية في مصر والسعودية ولبنان وسوريا وبلدان اخرى التهمة له باثارة الفتنة في العالم العربي.

القرضاوي كان رمزاً لعالم أهل السنة

ربما كانت العبرة والامر الاكثر افادة في هذا الامر، هو عمله غير المتوقع عندما توجه الى الجهاز السياسي والديني لنفس التيار الذي اقض مضجعه باصداره حكمة عليه، وهذه الندامة التي جاءت من قبل عالم ذو منزلة عند أهل السنة، لم يكن لها مثيل عند السعوديين ليطالب بالعفو والمغفرة منهم، وبنفس هذا المقدار لحق بمنزلته ضربة، واضر بمفهوم الوحدة داخل العالم الاسلامي الذي كان يؤمن به حماته اهل السنة.

من جهتهم فان المضيفين الوهابيين ورجال الدولة السعوديين اغتنموا الفرصة التي ولدها تحول الشيخ وحصلوا على اكبر قدر من الفائدة في اطار توجهات العالم الاسلامي والمسلمين، ودقوا على طبل الوهابية المتطرفة مقابل كافة الجماعات الاسلامية، بما فيها الشيعة، تحدوهم مواقف الشيخ.

مع هذا، لم تصل قصة الشيخ الى نهايتها، فبعد الازمة التي لا سابقة لها بين الدوحة والرياض، جاء اسم القرضاوي، وبشكل لا يصدق، على رأس بيان الائتلاف العربي ضد قطر وحلت قائمة الارهاب السوداء، واضحى الداعم والعاف عن الشيخ في الامس، خصماً لدوداً له مرة اخرى!

في هذه اللعبة، فان القرضاوي الذي كان سابقاً رمزاً لعالم اهل السنة المنادي بالوحدة اضحى محباً لوهابيي نجد مضحياً بماضيه الباهر ومعتقداته القرآنية، غارقاً في الخصومات السياسية وتنافس شيوخ المنطقة. وان ثقة الشيخ باعداءه السابقين فكرا وعقيدة، وقلة اهتمامه واعتقاده بالعداء بمنظومة المقاومة التي لم تعتبر العرب والعجم، الشيعة والسنة، الوهابية والاخوان، عدواً لها، بل اعتبرت وتعتبر اسرائيل هي العدو. وكان املي ان يستجيب الباري تعالى الى دعاء الشيخ في نهاية الرسالة الفيدوية في مراسم توديعي في فندق الماريوت بالدوحة، حيث قال: “اوصلوا سلامي الى اخوتي في طهران وكل ايران، داعيا الله الى ان يجمعنا مرة اخرى نحن وانت حول ما يرضيه، ان شاء الله”. نعم! نحن مثل الشيخ المرحوم يوسف القرضاوي “كنا ولا نزال بحاجة الى يوم كيوم بدر” ليجتمع المسلمون مرة اخرى حول ما يرضي الخالق العزيز!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.