مجازر غزة لن ترمّم معادلات طوفان أقصاها…

جريدة البناء اللبنانية-

خضر رسلان:

لم يكن الذي جرى وما زال من طوفان الرجال المقاومين الذين ترعرعوا في أحضان أمّهات حكينَ لهم معاناة أجدادهم الذين تمّ سلخهم عن أرضهم عنوة على أيدي عصابات صهيونية مارست في حقهم شتى انواع التنكيل والقتل والإرهاب بمؤازرة اوروبية وبرعاية من دولة الانتداب البريطاني التي سهلت كل ما يمكن من أدوات وعتاد وأفراد ساهمت في التنكيل والتهجير والإقصاء الى ان تم تتويج المظلمة التاريخية بحق الشعب الفلسطيني حين تمّ إصدار قرار أممي في العام 1948 يشرع وجود الكيان الصهيوني على الغالبية العظمى من الأراضي الفلسطينية دون ايّ اعتبار للحقوق الإنسانية التي تكفلها الشرائع الدولية كافة ومن ثم تمّ الإجهاز على ما تبقى من آمال للشعب الفلسطيني من تحقيق دولة مستقلة نصّت عليها قرارات مجلس الأمن في العام 1948 حينما اجتاحت جحافل الغزاة الصهاينة برعاية أميركية أراضي ما تبقى من أرض فلسطينية في العام 1967 ليتحوّل الشعب الفلسطيني كله إمّا إلى أسير تحت الاحتلال او لاجئ في أرضه او في الشتات تحت أعين أنظمة عربية بعضها متخاذل والاخر متآمر. أمّا الذي حمل قضيته فيتعرّض لشتى أنواع التضييق والحصار.
ـ المقاومة الفلسطينية بين جلاء الوعي وكيّه
بعد النكبات والنكسات التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني عمل العدو الصهيوني الى سياسة كيّ الوعي من خلال تشكيل قناعات وسياسات متوافقة أو غير متعارضة مع شروطه وأهدافه مستثمراً سلوك النظام العربي الرسمي المهرول باتجاه التسوية والاعتراف بـ «إسرائيل» (كما فعل السادات في مصر)، ثم حدث كيّ الوعي القوى الفلسطينية بعدم القدرة على العمل الفدائي من الخارج لما سيسبّبه ذلك من صراع وإراقة دماء واستنزاف قوتها مع الأنظمة العربية.
وبعدما كان الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين حسب الميثاق الوطني الفلسطيني، أصبح بحسب برنامج النقاط العشر عام 1974 إحدى الوسائل والطرق، وأصبح من الممكن إقامة الكيان الفلسطيني على أيّ جزء يتمّ تحريره أو الانسحاب الإسرائيلي منه، وهو ما يتيح مشاركة المنظمة في عملية التسوية كإحدى وسائل «النضال».
سياسة كيّ الوعي هذه التي كانت من أهمّ مفرداتها انّ الجندي الصهيوني لا يُقهر وانّ آلته العسكرية وأجهزته الأمنية والاستخباراتية عصية على الكسر ورغم انّ المقاومة الاسلامية في لبنان استطاعت كسر هذه السردية في محطات عديدة ورسمت معه معادلات ردعية حفرت في الوعي الصهيوني لا سيما المستوطنين منهم طويلاً بحيث أصبحت مقاومة حزب الله تلقي في قلوبهم الرعب وتشعرهم بالهزيمة المعنوية والنفسية والخوف من ايّ مواجهة، رغم ذلك كله فقد بقى الكيان الغاصب يمارس أقسى أنواع التنكيل بالشعب الفلسطيني فضلاً عن قيامه بنسج مروحة واسعة من العلاقات مع دول في إطار تشريع التطبيع معه ككيان طبيعي في المنطقة مقدّماً نفسه على أنه كيان ضامن لأمن المنطقة وعروش حكامها متسلحاً حسب زعمه بجيش يمتلك الكفاءة والمهارة والتكنولوجيا المتطوّرة وأجهزة استخبارات نخبوية يمكن الرهان عليها الى ان جاء الطوفان الذي قلب الصورة وسينتج عنه حتماً رسم جديد للخيارات والمعادلات التي ظهرت جلياً في الوقائع التالية:
1 ـ حقيقة أظهرتها عملية طوفان الأقصى ستحفر عميقاً في الوجدان الصهيوني ولدى الشعوب الرافضة له وهي قدرات أجهزة المخابرات الإسرائيلية التي بانت هزيلة رغم امتلاكه للجو والأقمار الاصطناعية والتكنولوجيا فضلاً عن عملها الدؤوب في زرع خلايا تجسّس على المقاومة فقد استطاعت تحقيق إنجاز الانتشار السلس والسريع والهجوم والمناورة في غفلة عن عيون وإمكانات العدو التي بانت نمراً من ورق.
2 ـ مقولة انّ «إسرائيل» أوهن من بيت العنكبوت بدت في صورة ومشاهد الجنود والمستوطنين الذين فرّوا مذعورين منكسرين بخلاف أصحاب الأرض والقضية المندفعين ومعهم تراث الأجداد وآمال الأجيال.
3 ـ لا شك انّ من أبرز تداعيات عملية طوفان الأقصى تزايد الهوة وفقدان الثقة بين مكونات المجتمع الاسرائيلي لا سيما قدرة الجيش على حماية المستوطنين وهذا ما سيكون مساعداً في تفعيل وتسريع الهجرة المعاكسة.
4 ـ من أهمّ مفاعيل عملية طوفان الأقصى التي وجد تعاطفاً وحماساً منقطع النظير سواء لدى الشعب الفلسطيني او لدى الشعوب العربية والإسلامية أنها توشك ان تصيب مشاريع التطبيع في مقتل وينبغي لهذه الدول أن تعيد النظر بما تعمل عليه قبل فوات الأوان.
5 ـ الازدراء الكبير الذي حملته معها عملية طوفان الأقصى من عدد وافر من مراكز الدراسات والأبحاث وما تحوي من نخب ومفكرين عملوا طويلاً في على تقديم أطروحات وتقارير حول الوضع الفلسطيني واتجاهاته مغايرة تماماً للواقع الذي اكد أنّ الأجيال الفلسطينية لن تتنازل عن أرضها ولا عن ذرة من ترابها.
في الخلاصة لقد استطاعت عملية طوفان الأقصى رسم معادلات جديدة وإعادة قراءة المشهد من جديد ولن يُتاح للصهاينة رغم آلة الفتك والمجازر التي يُسفك فيها حالياً دماء الغزاويين ان يعيدوا عقارب الساعة الى الوراء وليس في وسعهم ترميم صورتهم المهشمة التي شاهدها العالم بالعين المجردة، وبالتالي فإنه من غير المرجح ان تضع الحرب أوزارها قبل ان تحقق المقاومة أهدافها التي منها إطلاق سراح جميع الأسرى وحماية المقدسات وإعادة صياغة قواعد جديدة تخفف من معاناة القاطنين في قطاع غزة.
كلّ ذلك في حال لم تتدحرج الأمور ولم يرتكب الصهاينة حماقة التوجه البري لتنفيذ اجتياح مزعوم لقطاع غزة فعندها للحديث كلام آخر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.