محدّدات الموقف الاستراتيجي للصين في الأزمة الأوكرانية

موقع قناة الميادين-

عبد الخالق فاروق:

سوف تجد الصين نفسها طرفاً في هذه المعركة وسوف تبحث عن وسائل لمساندة روسيا اقتصادياً عبر وسائل الحكمة الصينية العميقة.

لا شك في أن نتائج المعركة الكبرى الجارية الآن بين روسيا الاتحادية وبيلاروسيا من جهة، والتحالف الغربي الأطلسي من جهة أخرى، تتوقف في جانب كبير منها، ومن إمكانية تشكل العالم الجديد المتعدد الأقطاب، على الموقف الصيني من الأزمة، ومن بعدها تأتي الهند، من دون أن نغفل أدواراً أخرى ذات أهمية خاصة، مثل إيران وباكستان وفنزويلا.

لقد بدا أن الموقف الصيني مقيّد ومحصور بين عدة اعتبارات شديدة التعقيد والتشابك. صحيح أن الصين لم تُدِنِ العمل العسكري الروسي ضد القيادة النازية في أوكرانيا، وبدت في مواقفها أكثر تفهماً للدوافع والأسباب الاستراتيجية التى حدت بالرئيس فلاديمير بوتين والقيادة الروسية إلى اتخاذ هذا القرار الصعب، بيد أن الضغوط التى مارستها الولايات المتحدة أولاً، ومن خلفها دول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو الذي يضم ثلاثين دولة، كانت قاسية ومباشرة، تحمل من التهديدات الضمنية الكثير.

ولذا نرى من الضروري تحليل دوافع الموقف الصيني من الأزمة وحيثياته، وأفق العلاقات الصينية مع كل من دول التحالف الغربي من ناحية، والاتحاد الروسي من ناحية أخرى.

ومن هنا نستطيع أن نرصد مجموعة من القيود والمحدّدات التي تحكم الموقف الصيني والسياسة الصينية من الأزمة الأوكرانية الراهنة، وأهمها:

1- بنية الاقتصاد الصيني: مواطن قوته ونقاط ضعفه.

2- طبيعة العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة الأميركية، وحجمها.

3- طبيعة العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين ودول الاتحاد الأوروبي، وحجمها.

4- طبيعة التعاون والتحالف الاستراتيجي بين الصين والاتحاد الروسي، وحجمه.

5- قضية جزيرة تايوان.
أولاً: بنية الاقتصاد الصيني: مواطن قوته ونقاط ضعفه

تطور الاقتصاد الصيني تطوراً هائلاً خلال الأعوام الأربعين الماضية (1978-2021)، قبلها كانت الصين مجتمعاً زراعياً، محدود القدرات الصناعية، يكاد يكون مغلقاً عن شبكة العلاقات الرأسمالية الدولية. ولكن بعد عام 1978، وتولّي هسيو بينج قيادة الحزب الشيوعي والدولة الصينية، تأسّست نظرية جديدة في إدارة الشأن الاقتصادي، وانفتح بصورة كبيرة على شبكة العلاقات الاقتصادية الدولية، وانخرط في تفاعلاتها وتعقيداتها، وهكذا شهد الاقتصاد تطوراً هائلاً، حيث زاد الناتج المحلي الإجمالي الصيني من 1.8% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي عام 1978، إلى 9.3% عام 2010، ثم إلى 13.3% عام 2014، وها نحن اليوم (2022) يكاد يقترب من 18% من الناتج المحلي العالمي. وبالأرقام، فقد بلغ هذا الناتج الصيني حوالى 10.4 تريليونات دولار عام 2014 (1)، وفي عام 2021 زاد إلى حوالى 14.0 تريليون دولار.

وفي المقابل قفز حجم التجارة الخارجية للصين من حوالى 20.6 مليار دولار بأسعار عام 1978 (بما يعادل 1% من حجم التجارة العالمية)، إلى 430.3 مليار دولار عام 2014 (بما يعادل 11.3% من التجارة العالمية)، وقد تجاوز 6 تريليونات دولار عام 2021.

وبهذا ازداد الاحتياطي النقدي للصين من العملات الأجنبية إلى 5940 مليار دولار نهاية عام 2013، وحالياً يتجاوز 6 تريليونات دولار(2).

وبالقطع، ترتّب على هذا تحسّن مستوى معيشة الشعب الصيني كثيراً، حيث انخفضت نسبة الفقر من 94% إلى 26% بين سكان الريف خلال الفترة من 1980 إلى 2005، وفي الحضر من 44.5% من سكانه إلى 1.7% خلال الفترة نفسها، وبحلول عام 2020 كانت نسبة الفقر والفقراء في الريف قد انخفضت إلى أقل من 15% من سكانه، ويكاد يكون قد تلاشى بين سكان الحضر والمدن الصينية، ورأينا زيادة في متوسط نصيب الفرد من الناتج من 316.2 دولاراً عام 1990، إلى 7594 دولاراً عام 2014 (3).

وبالنسبة إلى التجارة الخارجية للصين، فقد أسهمت في توفير ما بين 180 مليوناً إلى 250 مليون فرصة عمل، كما أسهمت في توفير ما يعادل 18% إلى 25% من العائدات الضريبية للخزينة العامة في الصين خلال الفترة نفسها.

وقد نتج عن الانخراط المتزايد للصين في الاقتصاد الرأسمالي الدولي معطيات جديدة، بعضها يمثل مصدر قوة، وبعضها الآخر يمثل نقاط ضعف، ولا نبالغ إذا قلنا إنه بمنزلة “كعب أخيل” في الأسطورة اليونانية القديمة.. كيف؟

إذا كان حجم التجارة الخارجية للصين قد تجاوز عام 2021 حوالى 6 تريليونات دولار، فإن أبرز نقاط القوة، وهي بذاتها نقاط الضعف، طبيعة شركائها التجاريين الرئيسيين وهم: دول الاتحاد الأوروبي (14% إلى 16% من تجارتها الخارجية)، تلِيها الولايات المتحدة الأميركية (بنسبة 13% إلى 15% من تجارتها الخارجية)، ثم تأتي دول جنوب شرق آسيا أو ما يُسمّى مجموعة آسيان (حيث تستحوذ على 11% إلى 13%)، ثم تأتي هونغ كونغ (بنسبة 8.7%)، تليها اليابان (بنسبة 7% إلى 8%)، ثم كوريا الجنوبية (بنسبة 6% إلى 7%)، ثم تايوان (بنسبة 4.5% إلى 5%)، ثم أستراليا (بنسبة 3% إلى 3.5%)، وتأتي روسيا في المؤخرة (بنسبة 2.5%)، أما المجموعة العربية فلا تزيد حصتها في تجارة الصين العالمية على 5.5%، وأخيراً الدول الأفريقية جنوب الصحراء، فلا تتعدى نسبتها 4% (4).

وجوهر الخلل أو الخطر بمعنى أدق، هو الشركاء من دول التحالف الاستعماري الغربي (دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة)، ومن يتبعهم من الدول مثل اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية.

ومن جانب آخر، فإن الصين التي تمتلك موجودات مالية خارجية قدرها 5940 مليار دولار عام 2013، تتوزع كالتالي:

– 3800 مليار دولار (بنسبة 65%) في حساب الاحتياطيات الدولية لدى بنك الشعب الصيني PBC الذي يوظف منها 200 مليار دولار في سندات الخزينة الأميركية.

– الباقي وقدره 2140 مليار دولار (بنسبة 35%) في شكل استثمارات خارجية مباشرة، أو ممتلكات صينية خاصة (5).

وهنا أيضاً مكمن آخر للخطر، ولعل تبعات الحرب الروسية – الأوكرانية الأطلسية الأخيرة في شباط/ فبراير وآذار/ مارس 2022، وما اتخذته دول التحالف الغربي الاستعماري ضد الممتلكات الروسية والاحتياطي النقدي الروسي في البنوك الغربية الذى يزيد على 300 مليار دولار، أو ما يقارب نصف الاحتياطيات النقدية للدولة الروسية، يدق ناقوس الخطر لدى صانع القرار في الصين.

ثانياً: طبيعة العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة الأميركية

تتنوع العلاقات والمصالح المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة بصورة كبيرة، بحيث بات من الصعب فك عُرى هذه العلاقات من دون أن تؤدي إلى خسائر هائلة لطرفي العلاقة، وخصوصاً لدى الصين التي بنت نموذجها التنموي طوال الأعوام الخمسين الماضية على استراتيجية التصدير للخارج، وجذب الاستثمارات الأجنبية من دول العالم كافة.

ووفقاً للبيانات والمعلومات المتاحة:

1- بلغ حجم التجارة الخارجية للصين في عام 2021، حوالى 6.05 تريليونات دولار أميركي، بزيادة 1.4 تريليون دولار مقارنة بالعام السابق، على الرغم من التأثيرات المستمرة الناجمة عن جائحة (كورونا) على التجارة العالمية.
ووفقاً لما أظهرته نتائج بيانات رسمية أصدرتها الهيئة العامة للجمارك، نما حجم التجارة المقوّمة باليوان ليبلغ 39.1 تريليون يوان (أي إن الدولار الأميركي يعادل 6.4 يوان)، بنسبة زيادة 21.4% على أساس سنوي، زادت الصادرات لتبلغ 21.73 تريليون يوان (بنسبة زيادة 21.2%)، وارتفعت الواردات لتبلغ 17.4 تريليون يوان (بنسبة زيادة 21.5%) (6)، وأظهرت البيانات أن الفائض التجاري للصين مع الولايات المتحدة بلغ 396.6 مليار دولار في عام 2021.

2- من بين هذا الحجم الهائل من التجارة الخارجية للصين، نجد أن تجارتها مع الولايات المتحدة تأتي في الترتيب الثاني، بعد دول الاتحاد الأوروبي، أي ما يقارب 650 مليار دولار إلى 700 مليار دولار عام 2021، تحقق من ورائها فائضاً هائلاً راوحَ بين 340 مليار دولار عام 2015، وحوالى 370 مليار دولار عام 2016، و396.6 مليار دولار في عام 2021.

3- وعندما تولّى الرئيس دونالد ترامب الحكم في الولايات المتحدة (2017-2020)، تبنّى سياسات أكثر تشدداً وعدائية تجاه الصين، اتخذ قرارات تستهدف تقليل العجز الهائل في الميزان التجاري الأميركي مع الصين، واستعادة رؤوس الأموال والاستثمارات الأميركية التي توطنت في الصين للولايات المتحدة مرة أخرى، ما يسهم في توفير مئات الآلاف من فرص العمل للمواطنين الأميركيين العاطلين من العمل، علاوة على خفض معدل النمو الاقتصادي الصيني، وبالتالي تحجيم الإنفاق العسكري الصيني. كما شهدت هذه الفترة القيام بالعديد من الحروب التجارية، وفَرْض رسوم جمركية على واردات الولايات المتحدة من عدد كبير من الدول حول العالم، وخصوصاً دول الاتحاد الأوروبي والصين.

4- ورغم ذلك شهدت الصين عام 2020 نمواً ثابتاً في التجارة مع جميع شركائها التجاريين الخمسة الكبار- رغم جائحة كورونا – وبحسب وكالة أنباء شينخوا – قفزت واردات الصين وصادراتها مع “آسيان” (بنسبة 19.7%)، والاتحاد الأوروبي ( بنسبة 19.1%) والولايات المتحدة (بنسبة 20.2%)، بينما زادت تجارتها مع اليابان (بنسبة 9.4%) وكوريا الجنوبية (بنسبة 18.4%). وفي الوقت نفسه، سجلت تجارة البلاد مع الاقتصادات المشاركة في مبادرة “الحزام والطريق” زيادة بنسبة أعلى من المتوسط، حيث نمت بنسبة 23.6%، إذ بلغت واردات وصادرات البلدان الواقعة على طول “الحزام والطريق” حوالى 9.4 تريليونات يوان (7). ووفقاً للبيانات الصادرة عن الهيئة العامة للجمارك الصينية، بلغ إجمالي قيمة تجارة الواردات والصادرات الصينية من السلع 32.16 تريليون يوان، بزيادة قدرها 1.9% عن عام 2019، من بينها بلغت قيمة الصادرات 17.9 تريليون يوان، بزيادة قدرها 4%. أما الواردات فقد بلغت 14.2 تريليون يوان بانخفاض قدره 0.7%. وبلغ الفائض التجاري 3.7 تريليونات يوان. وهكذا تجاوزت الصين التحديات الاقتصادية والتجارية العالمية في عام 2020، لتكون الاقتصاد الرئيسي الوحيد في العالم الذي سجّل نمواً إيجابياً في التجارة الخارجية للسلع.

5- أما الشركاء التجاريون من دول مجلس التعاون الخليجي الست التي بلغ إجمالي قيمة تجارتها الخارجية عام 2020 حوالى 840.7 مليار دولار، فإن الصين احتلت المرتبة الأولى في قائمة أهم شركائها التجاريين، حيث بلغ إجمالي قيمة صادراتها السلعية إلى الصين حوالى 83.1 مليار دولار أميركي، وظلت تمثل ما نسبته 19.0% من إجمالي الصادرات السلعية لدول مجلس التعاون إلى الأسواق العالمية، فيما احتلت الهند المرتبة الثانية بنسبة 12.2%، تليها كوريا الجنوبية 8.0%، واليابان 6.4%، وسنغافورة 4.1%، ثم الولايات المتحدة 4.0%، حيث تشكل هذه الدول أكبر المستوردين للنفط الخام والغاز الطبيعي من دول مجلس التعاون الخليجي. كما احتلت الصين المرتبة الأولى بين شركاء هذه المجموعة بالنسبة إلى الواردات السلعية، وبلغت قيمة الواردات من الصين نحو 80.4 مليار دولار أميركي، وظلت تمثل ما نسبته 20.0% من قيمة إجمالي الواردات السلعية لدول هذه المجموعة من الأسواق العالمية لعام 2020، فيما جاءت الولايات المتحدة في المرتبة الثانية بنسبة 10%، تليها الهند 6.9%، واليابان 4.7%، وألمانيا 4.7%، وإيطاليا 3.2%، من قيمة إجمالي الواردات السلعية لدول مجلس التعاون من الأسواق العالمية (6).

6- ورغم سياسات ترامب العدائية تجاه الصين، فإن الحكومة الصينية لم تأخذها في البداية على محمل الجد والاهتمام الكافي، واستمر العجز في الميزان التجاري الصيني – الأميركي يتزايد لصالح الصين حتى بلغ في عام 2017 نحو 400 مليار دولار، وبعدها بدأت أولى جولات حرب ترامب التجارية ضد الصين في تموز/ يوليو 2018، بقيامه بفرض رسوم جمركية بلغت 25% على بعض الصادرات الصينية للولايات المتحدة، والتي قُدّرت قيمتها بنحو 40 مليار دولار. ونظراً إلى التبعات الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة لهذه الرسوم الجمركية، استفزّت واستنفرت جهود الحكومة الصينية التي أعلنت في المقابل فرض رسوم جمركية على بعض السلع والبضائع الأميركية، معلنة أن الولايات المتحدة قد انتهكت قواعد منظمة التجارة العالمية، وجرت أكبر حرب تجارية في تاريخ العلاقات الاقتصادية بين البلدين بفرضها هذه الرسوم، وفي المقابل قام المسؤولون الصينيون بزيارات رسمية وسرية لدول الاتحاد الأوروبي، وروسيا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وكندا، والبرازيل، بهدف التحرك المشترك ضد الولايات المتحدة في منظمة التجارة العالمية، وإقامة تحالف اقتصادي مع هذه الدول في مواجهة الولايات المتحدة، مقابل قيام الصين بفتح المزيد من قطاعات السوق الصينية أمام منتجات وصادرات هذه الدول عموماً، والدول الأوروبية بصفة خاصة، ونجحت الدبلوماسية الصينية في انتزاع موافقة الدول الأوروبية، علاوة على التكتلات الاقتصادية الكبرى، على إصدار أكثر من سبعة وعشرين بياناً وخطاب إدانة وتنديد بالخطوة الأميركية، ومطالبة ترامب بالجلوس إلى طاولة التفاوض مع الصين لبحث قضايا الخلافات التجارية.
وعلى الرغم من التوصل إلى اتفاق تجاري بين الولايات المتحدة والصين في مطلع عام 2020 – والذي تلتزم الصين بمقتضاه بزيادة وارداتها من الولايات المتحدة خلال الفترة 2020-2022 بمقدار 76.7 مليار دولار في العام الأول، و123.3 مليار دولار في العام الثاني، و200 مليار دولار بحلول نهاية العام الثالث – فإن وتيرة التوترات التجارية بين الطرفين لم تهدأ خلال عام 2020؛ حيث هدّدت واشنطن في آب/ أغسطس 2020 بسحب عقود الحكومة من الشركات التي تواصل أعمالها في الصين، كما وقّعت في تشرين التاني/ نوفمبر 2020 مرسوماً يقضي بمنع المواطنين الأميركيين من الاستثمار في مجموعات صينية تتهمها الإدارة الأميركية بدعم الأنشطة العسكرية الصينية، ولم تقتصر الحرب على التوترات التجارية فحسب، بل امتدت لتشمل حروباً تكنولوجية تمثّلت بالأساس في استهداف عدد من عمالقة التكنولوجيا الصينية مثل: “هواوي”، و”شاومي”، و”SMIC”، وفي ضوء ذلك، ترجمت الحرب التجارية آثارها في انخفاض الواردات الأميركية من الصين من 451.7 مليار دولار خلال 2019 إلى 435.5 مليار دولار خلال 2020 (بنسبة 3.6%)، بالتوازي مع ارتفاع صادراتها بنسبة 17.1% خلال الفترة نفسها، مسجّلة 124.6 مليار دولار.

إذاً، بقدر أهمية العلاقات الاقتصادية والتجارية الصينية – الأميركية، فإن هناك مخاطر تزداد وتيرتها مع كل أزمة دولية، كما هي الحال في الأزمة الأوكرانية الراهنة.
ثالثاً: طبيعة العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين ودول الاتحاد الأوروبي

1- تحولت الصين بدءاً من عام 2021 لتشغل موقع الشريك التجاري الأول لدول الاتحاد الأوروبي، متفوّقة على الولايات المتحدة الأميركية التي حافظت على هذه المنزلة لعدة عقود، منذ بداية انفتاح الصين على دول الغرب الرأسمالي عام 1978، وهكذا بلغ حجم التجارة الثنائية بين الصين ودول الاتحاد الأوروبي، في الأشهر التسعة الأولى من عام 2020، نحو 516.8 مليار دولار، ليتخطّى حجم التجارة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهو 501 مليار دولار.

2- وأدّت الحروب التجارية التي شنّها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد الاتحاد الأوروبي، إلى فرض رسوم جمركية عقابية على واردات الصلب والألومينيوم من أوروبا، مستهدفاً ألمانيا وصادراتها من السيارات، وكذلك فرنسا وصادراتها، وفي آذار/ مارس 2020، كما فرضت واشنطن تعرفات جمركية إضافية بنسبة 25% على منتجات الاتحاد الأوروبي من النبيذ والأجبان وزيت الزيتون، و15% على طائرات “إيرباص” التي يتم تصنيعها في أوروبا، كما أعلنت أواخر كانون الأول/ ديسمبر 2020 فرض رسوم جمركية إضافية على منتجات فرنسية وألمانية على خلفية النزاع المستمر بشأن الدعم الذي يُقدّم للشركة الأوروبية لصناعة الطائرات “إيرباص”، بسبب اتّهامات متبادلة بدعم صناعة الطائرات خارج إِطار القواعد القانونية التي قرّرتها اتفاقات التجارة العالمية؛ حيث اتّهمت واشنطن كلًّا من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا أيضاً بمنح إعانات غير قانونية لدعم شركة صناعة الطائرات الأوروبية “إيرباص” لإنتاج هذه الطائرات.

3- وهكذا انخفض حجم التجارة الأميركية – الأوروبية من 616.1 مليار يورو عام 2019، إلى 555 مليار يورو في عام 2020 (بانخفاض قدره حوالى 61.1 مليار يورو)، وفقاً لإحصاءات التجارة الدولية، وهو ما انعكس على حالة الميزان التجاري بين الجانبين، والذي حقّق فائضاً صافياً لصالح الاتحاد الأوروبي بقيمة 150.9 مليار يورو في عام 2020.

4- وتستحوذ الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي ممثّلة في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا وإسبانيا وهولندا على أغلبية التجارة الخارجية الأوروبية مع الصين؛ حيث بلغت صادرات الصين عام 2019، إلى كل من بلجيكا (18 مليار دولار)، وفرنسا (33 مليار دولار)، وألمانيا (80 مليار دولار)، وإيطاليا (34 مليار دولار) وهولندا (74 مليار دولار)، وإسبانيا (27 مليار دولار)، وهي الصادرات التى يبلغ إجمالها نحو 266 مليار دولار، تمثِّل نحو 88,5% من الصادرات الكلية أو الإجمالية لدول منطقة اليورو – التي تضم 27 دولة – بينما جاءت الواردات الصينية من الدول السابقة ذاتها وبالترتيب نفسه على الشكل الآتي: بلجيكا (7 مليارات دولار)، وفرنسا (32.5 مليار دولار)، وألمانيا (105 مليارات دولار)، وإيطاليا (21.5 مليار دولار) وهولندا (11.2 مليار دولار)، وإسبانيا (8.5 مليارات دولار)، وبمبلغ كلي وصل إلى 185.7 مليار دولار، مثّلت نسبة 83.4% من إجمالي الواردات الصينية من دول منطقة اليورو، والتي بلغت 222,7 مليار دولار في عام 2019.

5- وفي مجال الاستثمارات، يُعدّ الاتحاد الأوروبي أحد أكبر المستثمرين الأجانب حالياً في الصين بعد الولايات المتحدة الأميركية، وخاصة مع تركيز الشركات الأوروبية على الاستثمار في مجالات البحث والتطوير، والذي يُعدّ المحرّك الأهم لاستمرار النمو الصيني. ومن أبرز هذه الاستثمارات، قيام شركة “فولكس فاغن” في عام 2019 باستثمار 90% من أرباحها في الصين في مجالات البحث والتطوير داخل الصين، علاوة على إقامة شركة BASF للكيميائيات الألمانية مشروعاً بقيمة 10 مليارات دولار أميركي في مقاطعة جواندونج، وقيام شركة الكيمائيات الدنماركية Hempel ببناء مصنع بقيمة 100 مليون يورو في مقاطعة شاندونج في عام 2019.

وتُعد استثمارات الشركات الأوروبية ضرورية للتنمية الاقتصادية في الصين؛ حيث تقوم بدور كبير في خلق فرص عمل داخل الصين. وتشير الإحصاءات إلى أن الشركات الألمانية قد تمكّنت من خلق أكثر من مليون وظيفة في الصين، كما قامت شركة “فولكس فاغن” بتشغيل 26 منشأة إنتاج في الصين، وظّفت أكثر من 100 ألف صيني في عام 2019، علاوة على ما تحققه فروع هذه الشركات للشركة الأم في أوروبا من أرباح هائلة، اعتماداً على انخفاض تكلفة الأيدي العاملة في الصين إلى جانب الحوافز والإعفاءات من الضرائب والرسوم الجمركية، وغيرها من التسهيلات التى تقدمها الصين للشركات الأجنبية عموماً، والأوروبية بصفة خاصة.

ومن جهة أخرى، بلغ رصيد استثمارات الأوروبيين (ما عدا المملكة المتحدة) في الصين ما يقرب من 150 مليار يورو، فيما يصل حجم الاستثمار المتعلق بالصين في الاتحاد الأوروبي إلى 113 مليار يورو، وهو ما يجعل الاتحاد الأوروبي ثالث أكبر مصدر ومقصد للاستثمار بالنسبة إلى الصين في الوقت الراهن.

6- كما قامت الصين بتوقيع المئات من اتفاقات التعاون الاقتصادي مع هذه الدول، وتُعدّ ألمانيا المثال الأبرز في هذا الشأن، حيث حدثت الطفرة الكبرى في العلاقات الصينية الأوروبية عموماً، والألمانية بصفة خاصة في نهاية عام 2004، بعد قيام المستشار الألماني الأسبق “جيرهارد شرودر” بزيارته التاريخية للصين، والتي تم فيها التوقيع على أكثر من 27 اتفاقاً لتوطيد العلاقات السياسية والدبلوماسية، وتحرير التبادل التجاري من معوقات التعرفات الجمركية المتعددة، وجذب وتوطين المشروعات الصناعية المشتركة، واحترام الصين والشركات الصينية لحقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع الخاصة بالشركات الألمانية، ومنع الازدواج الضريبي، وتشجيع التصنيع المشترك، وخاصة للمعدات ووسائل النقل الثقيلة (قطارات – سفن – سيارات النقل الثقيل وسيارات الركوب – المعدات الصناعية الوسيطة).

ومع تولِّي المستشارة أنجيلا ميركل مقاليد الحكم في ألمانيا، تبنّت سياسة تعزيز العلاقات الاقتصادية الشاملة مع الصين؛ حيث شهدت الفترة من عام 2010 حتى نهاية شباط/ فبراير 2017 توقيع الجانبين لأكثر من 57 اتفاقاً وبروتوكولاً لتعزيز التعاون الصناعي والزراعي والسياحي والخدمي في ما بينهما، والقضاء على أي معوقات أو عراقيل تقف حائلًا أمام التعاون الثنائي، وقد أثمرت هذه الاتفاقات تحقيق نتائج اقتصادية مبهرة للصين، أهمها حصول الصين على التكنولوجيا الألمانية المتقدمة، والمستخدمة في عمليات التصنيع لأجهزة ومعدات تكنولوجيا الجيل الرابع والجيل الخامس، وهي التكنولوجيا والاستثمارات التى تعتبرها الصين ضرورية لاستمرار التنمية الصينية، والحفاظ على الأسواق الهائلة المعتمدة على هذه التكنولوجيا في الداخل الصيني، أو في أسواق الدول النامية التي تتجه إليها السلع الصناعية، وذلك في مقابل التزام الصين باحترام حقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع الألمانية. وقد قدمت الحكومة الألمانية للشركات الألمانية الكبرى ما يُسمّى “الضمانات السياسية” لمخاطر الاستثمار والتجارة مع الشركات الصينية؛ حيث تعهدت الحكومة الألمانية في ظل قيادة “ميركل” للشركات الألمانية بتعويضها عن أيّ خسائر تلحق بها أثناء نشاطها وعملها في الصين (7).
رابعاً: طبيعة علاقات التعاون والتحالف الصيني – الروسي

على عكس علاقات الصين الشعبية بدول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبقية دول التحالف الغربي، التي قامت أساساً، ومنذ عام 1978، على التعاون الاقتصادي بكل مشتملاته وجوانبه، التجارية منها أو المالية أو التعاون التقني والتكنولوجي، فإن علاقات الصين بروسيا، ومن قبلها الاتحاد السوفياتي، كانت وما زالت متعددة الأبعاد، عميقة الجذور.

صحيح أنها مرّت بفترات صعبة تباعدت فيها المسافات بين الدولتين، وخصوصاً في الفترة من عام 1964 حتى عام 1991، وحرصت السياسات الغربية والأميركية على تعميق هذا الخلاف والتباعد، بيد أن السنوات التي أعقبت تفكك الاتحاد السوفياتي، قد شهدت محاولات خجولة وحذرة للتقارب بين الدولتين الكبيرتين، وخصوصاً بعدما بدت طبيعة السياسات العدائية، وسياسات المقاطعة التي اتّبعتها الولايات المتحدة، ومن خلفها دول الاتحاد الأوروبي وكندا واليابان وأستراليا، مرة ضد الصين، ومرات أخرى ضد روسيا الاتحادية، فتقاربت الدولتان نحو «شراكة استراتيجية»؛ وفي عام 2001، وقّعتا معاهدة «صداقة وتعاون». واتخذت هذه الشراكة أبعاداً كثيرة، أبرزها زيادة التعاون والتبادل التجاري، وتعميق التعاون العسكري والتقني، والتنسيق السياسي في كثير من المواقف الدولية والإقليمية.

وهكذا زاد التبادل التجاري بين البلدين من حوالى 5 مليارات دولار إلى 8 مليارات دولار سنوياً في تسعينيات القرن العشرين، وتكثّفت العلاقات الاقتصادية بين البلدين في العام 2004، وبلغت حوالى 21،2 مليار دولار بزيادة 35% عن السنة السابقة لها، حتى بلغت 63.6 مليار دولار في عام 2015، ثم 66.1 مليار دولار في عام 2016، وأخيراً وصلت إلى 146 مليار دولار عام 2021، (حيث اشترت الصين من روسيا بقيمة 79 ملياراً، والروسي اشترى من الصين بقيمة 67 مليار دولار)، محقّقة فائضاً تجارياً لصالح روسيا قدره 12.0 مليار دولار في ذلك العام.

ويأتي أكثر من نصف صادرات روسيا إلى الصين من قطاع التعدين والبتروكيميائيات، والوقود المعدني، والنفط والمنتجات البترولية (60.7%)، تليها الأخشاب والمنتجات الخشبية (9.4%)، حيث تُعتبر روسيا المصدّر الأول للأخشاب إلى الصين (بنسبة 64،7% من جميع واردات الصين من الخشب)، والمعادن غير الحديدية (9%)، والمعادن الحديدية 13،9%، والأسماك والمأكولات البحرية (3.5%)، والمنتجات الكيميائية (3.3%). وكذا الملابس (13.7%)، والمنتجات الكيميائية (9.1%)، والفراء ومنتجاته (5.6%)، والأحذية (5.3%)، والأثاث (3%)، إضافة إلى الآلات والمعدات والأسلحة المتطورة.

والمفارقة أنه بينما تُعدّ الصين الشريك التجاري الأول لروسيا، إذ تمثل 16% من قيمة تجارتها الخارجية، وفقاً لبيانات منظمة التجارة العالمية والجمارك الصينية، فإن أهمية روسيا أقل بكثير بالنسبة إلى الصين، حيث لم تشكل التجارة بين البلدين 2% فقط من إجمالي حجم التجارة الصينية.

وعلى كل حال، فإن هذا المستوى من التبادل التجاري يبقى متدنياً مقارنة مع حجم التبادل التجاري الصيني مع الولايات المتحدة، البالغ 755 مليار دولار (بحسب غلوبال تايمز الصينية)، ومع الاتحاد الأوروبي الذي تجاوز 709 مليارات دولار عام 2020 (بي بي سي)، ومع دول مجموعة آسيان البالغ 310 مليارات دولار (وكالة شنهوا الصينية).

ورغم أن كلا البلدين (روسيا والصين) كانا يتوقعان قبل الأزمة الأوكرانية الأخيرة زيادة حجم التجارة بينهما إلى 200 مليار دولار بحلول عام 2024، فإن من المرجّح أن تغير الأزمة الأوكرانية مسار العلاقات الاقتصادية الدولية عموماً، والعلاقات الاقتصادية الروسية الصينية خصوصاً، بعد بيان الشراكة الاستراتيجية “بلا حدود”، الذي وُقّع بين الرئيسين الصيني والروسي في الـ 4 من شباط/ فبراير عام 2022، وقد تضمّن هذا البيان المشترك عقد اتفاقيات يتجاوز عددها 15 اتفاقية، أهمها اتفاقية لتوريد الغاز الروسي إلى الصين، عبر خطّ أنابيب جديد طاقته 50 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً. ونصّت أهم بنود الاتفاقية على توريد 10 مليارات متر مكعب من الغاز الروسي إلى الصين، سنوياً، على مدى 30 عاماً، بدءاً من عام 2026، وتسوية مبيعات الغاز بين الجانبين باليورو بدلاً من الدولار الأميركي.

وكذلك التعهد الذي أعلنته الدولتان بمعارضة أي توسّع للحلف الأطلسي، ودعم إحداهما الأخرى في مواجهة “الهيمنة” عبر العقوبات الأميركية الأحادية. وفي السياق، أبدت الصين دعمها المطلب الروسي المتمثّل في ضرورة عدم ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، كما أكدت روسيا دعمها الموقف الصيني بشأن قضية السيادة الصينية على تايوان. وهنا سوف تحتضن الصين الجزء الأكبر من صادرات روسيا من الغاز والنفط والصناعات التعدينية والفحم والبتروكيميائيات تعويضاً لها عن الحرب الاقتصادية الشاملة التى تمارسها ضدها دول التحالف الغربي الاستعماري. وهكذا ستجد الصين نفسها في مواجهة مباشرة مع دول التحالف الغربي المفتقد للبصيرة الاستراتيجية حتى الآن.

إذاً، من ناحية الحساب الاقتصادي المجرد، تكون مصالح الصين الاستراتيجية مع دول التحالف الغربي الاستعماري، بيد أن هذه النتيجة لا تعكس حقيقة وأهمية العلاقة الاستراتيجية بين الصين وروسيا، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار موقع “جزيرة تايوان” في العقل السياسي والاستراتيجي الصيني، وعدم القبول أبداً بانفصالها واستقلالها عن الصين الأم، إضافة إلى التحرشات المتكررة للأسطول الأميركي في بحر الصين الجنوبي بالصين، وتأسيسها “ناتو” آخر في المحيط الهادئ مع أستراليا وبريطانيا تحت مسمّى “أوكوس”، الذي يُعدّ موجَّهاً بصورة لا تقبل الشك ضد الصين.

كما أن الصين تدرك المخاطر الاستراتيجية الكامنة في استمرار هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي، سواء على المستوى السياسي أم الاقتصادي، والتهديدات الهائلة للصين في حال نجاح التحالف الغربي الاستعماري الراهن، المتمثّل في تحالف (الناتو)، في كسر روسيا والانتصار عليها في هذه المعركة الكبرى الدائرة حالياً في أوكرانيا.

وهنا سوف تجد الصين نفسها – شاءت أم أبت – طرفاً في هذه المعركة الكبرى، وعبر وسائل الحكمة الصينية العميقة، سوف تبحث عن وسائل لمساندة روسيا اقتصادياً لكسر حالة الحصار والحرب الاقتصادية ضدها، من دون اصطدام مباشر وصريح بالتحالف الغربي الراهن، وسوف تبحث الصين عن وسائل دبلوماسية للتموضع في مكانة الوسيط سياسياً، لإيجاد الحلول للأزمة العاصفة الراهنة.

إن التقارب المتزايد بين الصين وروسيا يمثّل مؤشراً استراتيجياً واضحاً على كبح جماح الهيمنة الجيوسياسية التي كان يتمتع بها النصف الغربي من الكرة الأرضية، وبالتحديد هيمنة الولايات المتحدة (تقرير الكونغرس الأميركي 2019). ومن هنا تعزّزت العلاقات الاستراتيجية بين الصين وروسيا طوال السنوات العشر الأخيرة، وتجسّدت في تأسيس الدولتين لأطر تعاون مؤسّسي مثل منظمات (بريكس) ومنظمة التعاون (شنغهاي)، ومنظمة R.I.C (روسيا والهند والصين).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.