نصرالله و«لبنان الحقيقي»

sayed - hassan - nasrullah - ashura - huzbullah

صحيفة السفير اللبنانية ـ

نصري الصايغ:

السيد حسن نصر الله، حَسَمَ مسألة «شرعية» مشاركة حزب المقاومة، في معارك الدفاع عن النظام في سوريا، عسكرياً. لم تعد المواربة مقنعة. كانت مفيدة في المقدمات، وتجرّعها اللبنانيون على دفعات، عبر تبريرات مناسبة وإن لم تكن مقنعة. فالسيد تدرج في تفسير التدخل، عندما «تبنى» الدفاع عن قرى سورية سكانها لبنانيون، شيعة ومسيحيين، يتعرضون لعنف موضعي، نتيجة عنف معمَّم، أفرزته سلسلة المعارك الطاحنة بين النظام والمعارضة المتعسكرة.

لم تدم تلك المقدمة طويلاً، إذ حفلت الوقائع الميدانية، بازدياد الخطر من جهة، على هذه البلدات ومحيطها اللبناني، ما استدعى انخراطاً موضعياً ملائماً. تلك كانت مناوشات مكلفة.

انتقال المعارك إلى مقام الست زينب، دفــع حزب المقاومة إلى التوغل بعيداً عن حدود لبنان الدولية. بات في العمق الدمشقي وريفه المتاخم. حدود الطوائف لا جغرافية لها. حدود المذاهب معولمة. وما يجوز لأهل السنة من كل حدب وصوب، حلال على «آل البيت» كذلك. الدفاع عن المقدسات محفوف بالشرعية الدينية، كالهجوم على الاستبداد، مؤيد بالشرعية الفقهية والاجتهاد، من مدارسه كافة: القرضاوي وجماعته، آل «النصرة» وسلاحها، داعش وفتاويها المرعبة، السعودية ووهابيتها العبقرية، التي تتدفق سلاحاً ومالاً وعديداً من كل حدب وصوب.

حدث ذلك، بتبريرات تناسب المرحلة. كان التدخل يقتضي الاحتماء خلف ستارة عدم التدخل. كان التورط المتدرج يلتمس أعذاراً كثيرة، فيما الحقيقة الكامنة، معروفة ومسكوت عنها، بإرادة الأطراف جميعاً.

يتطلب تظهير الصورة الحقيقية علناً، وصول النظام السوري إلى الحافة. مأزقه أنه يقاتل ويتراجع ولا يُهزم. بلغ الخطر عليه حداً، بات يتطلب الجهر بالتدخل، لأن التستر بات فضيحة: إنقاذ النظام لم يعد يحتمل المواربة، بل إعلان المحاربة إلى جانبه. فكانت معارك «القصير».

sayed - hassan - nasrullah - ashura - huzbullah 1

الطرف الآخر في لبنان، وهو في مجمله سنيُّ المذهب، بطبقاته كافة، المعتدلة والسلفية والجهادية، منحاز إلى جانب المعارضة في سوريا، ويقدم تبريرات كثيرة لمواقفه الداعمة، متحاشياً الانغماس العلني بالحرب الدائرة، لعجز قواه السياسية عن ذلك. وقد عوَّض عن عجزه هذا، بغض الطرف عن تدخل جماعات مذهبية في مناسبات ومواقع متباعدة داخل سوريا، وحاضناً بلدات ومناطق، تقوم برفد المقاومة المتعسكرة، بالمدد الضروري والعتاد والمساعدات.

لا تملك السنية السياسية في لبنان عسكراً. لديها أتباع من المسلحين، الذين يعيشون على هواهم وعلى أهواء دول إقليمية. أما الإعلام فوظيفته في المعركة، التدليل على «حزب المقاومة» والتهويل الكلامي على النظام السوري، لا أكثر.

كل ذلك لم يعد مجدياً.

بعدما حَسَمَ السيد حسن نصر الله مسألة شرعية مشاركة حزب المقاومة في سوريا، دخل لبنان، عن جد، وموضوعياً، في صلب الحقيقة التي كان يتهرب منها: هذا هو لبنان الحقيقي، فاقبلوه كما هو، فقد قبلتم مقدماته. قبلتم كياناً طوائفياً، وهذه هي النتيجة. الطوائفيات لا تبني دولة.

التبريرات التي قدمها الطرفان المنخرطان في النزاع السوري، كانت تتأسس على كذبة أن لبنان دولة، فلنكف عن هذا الخداع. كل طائفة قوية دولة أقوى من الدويلة اللبنانية الرسمية.

من هنا تبدأ السياسة في لبنان، وليس من أي موقع آخر. تأليف الحكومة تفصيل بالأرقام. إجراء الانتخابات النيابية تفصيل مفاعيله التمديد. انتخاب رئيس جمهورية تفصيل باهت. الموازنات، تفاصيل مؤجلة. القضاء، تفصيل زائد عن الضرورة. الأمن الداخلي والقوى العسكرية تفصيل متعثر… كل القضايا المثارة تفاصيل، والكلام حولها لغط وزغل. الرئيس بري استنتج أن جعبته فرغت وأن أكمامه لم تعد ملجأ للأرانب والحمائم والحلول المفبركة. لبنان الحقيقي هو اليوم أمام حقيقته، وجهاً لوجه معها، وكل ما عدا ذلك، من سقط السياسة ومتاعها.

قال بري: اللبنانيون عاجزون عن إنتاج حل. المعونة الخارجية ضرورية ولكنها مفقودة… وهكذا تكون الساحة السياسية قد عبرت عن فراغها ولغوها وبلاهتها. كل كلام سياسي خارج حقيقة الصراع اللبناني، السوري، السعودي، الإيراني، الديني، المذهبي، هو جعجعة. نصاب الحقيقة، أن لبنان ليس دولة، إلا على الورق، يشبه محطة قطارات. المحطة له والقطارات تعبره ذهاباً وإياباً، وهي ليست ملكه… نصاب الحقيقة، وبعيداً عن أي ايديولوجية قومية، هو كيان ناقص، ودولة ناقصة، ووجود ناقص. ونقصان الدولة اللبنانية من طبيعتها. ليس نقصاناً بسبب اعتداء من خارج، بل بسبب تسرُّب الداخل الدائم إلى الخارج. حدود لبنان أصغر من انتماءات جماعاته. جماعاته، وهي من زمان، طائفية ومذهبية، بصيغ مارونية وسنية وشيعية ودرزية، عابرة للحدود والدول… لبنان ليس كياناً مضافاً إلى الإقليم، بل هو أساس فيه، والإقليم مستقر في ربوعه، لا مفر من الخارج في الداخل.

لبنان الإمارة الشهابية شبيه بلبنان الإمارات الطائفية الراهنة. توازنات إقطاعية، جنبلاطية، يزبكية، عمادية، شهابية، داخل إمارة تتنازعها ولاية عكا وولاية دمشق. كل إقطاعية تتحالف مع والٍ وتدعمه بالسلاح والمال والضرائب، إذا احتاج. اشتداد النزاع، دفع الأمير بشير للنأي بنفسه عن بونابرت والجزار. انتظر الفائز لينحاز. قدوم نابليون (شبيه بالضربة العسكرية التي كانت مزمعة على سوريا) قسَّم اللبنانيين: الموارنة مالوا إليه، برغم الحرم الفاتيكاني عليه، وعلى رجالات الثورة الفرنسية الذين عادوا الكنيسة الرومانية وحاربوها وحطموا نفوذها. فبرغم هذا الإيمان الكاثوليكي المبرم، وجد المسيحيون في بونابرت حليفاً مسيحياً، معادياً للكنيسة، ولكنه أقرب إليهم من الدروز. أرادوا تحسين مواقعهم في التوازنات الإقطاعية اللبنانية. الشيعة، انحازوا إلى نابليون كذلك، فالجزار عدوّهم. نكَّل بهم وهجَّرهم من بلادهم. دفعهم ظلم الاستبداد، ليكونوا إلى جانب من ليس من ملّتهم. (الاصطفاف إبان الضربة الأميركية التي كانت مزمعة، له تفسيره هنا. الظلم دفع أعداء أميركا التاريخيين، ليصيروا جنرالات في الحرب الأميركية على سوريا).

الدروز، خافوا من صعود المارونية المنافسة، كما خافوا من السطوة العثمانية، فانحـازوا إلى والي عكــا، الذي عاد وقتل بشير جنبلاط ورما جثته لثلاثة أيام على الشاطئ، ليكون عبرة. أما الأمير بشير فقد انتظر نهاية المعارك. غض الطرف على الموارنة الذين رفدوا بونابرت بالرجال والطعام والنبيذ، وغض الطرف على الجنبلاطيين الذين دفعوا ببعض قواتهم لمساعدة والي عكا.

هذا هو لبنان. ينتصف دائماً بين معسكرين. لبنان، هذه حقيقته. سياسته الفعلية، هي التورط. سياسته اللفظية، هي تغطية هذا التورط بالتمويه. لقد سقطت الأقنعة:

حيلة «لا شرق ولا غرب» سقطت. أكذوبة، «لا لحماية فرنسا ولا للوحدة مع سوريا» انتهت. لبنان في تحولاته ومنعطفات السياسات الإقليمية، أثبت أنه جزء فيها ومنها. لبنان الواقعي، ليس هو اللبنان الذي يتعاطاه اللبنانيون، في السياسة والثقافة. إنه اللبنان المنخرط بصراعات المنطقة. لا يصح عليه حياد ولا يطيب له النأي بالنفس. هو نقطة ارتكاز في صراعات المنطقة. كانت له حصة صغيرة في حرب فلسطين الأولى، وحصة أكبر في النزاع الناصري العربي. له حصة في القضية الفلسطينية. تبناها لبنانيون، وأخذوا أكثر من نصف لبنان إلى فلسطين. له حصة في قتال اسرائيل. عمر المقاومة في لبنان، أكثر من نصف عمر الاستقلال. «حزب الله»، بات معادلاً إقلميمياً ودولياً. من ينظر إليه أنه حزب حكومة ومجالس نيابية وبلدية، قصير النظر وضئيل الذكاء. «حزب الله» قوة بامتداد إقليمي. وهذا طبيعي جداً.

هل يدرك منظرو السياسة هذه الحقيقة، ليجدوا لها حلاً، أو ليعلنوا أن لبنان حالة عاصية على الحل؟

هذا لا ينتقص من وزن لبنان أبداً. فلبنان في حضنه الإقليمي، قيمة كبرى، بكلفة باهظة، تحددها قيمته. أما لبنان السياسيين فقيمته ضحلة.

لبنان الكبير، كبير جداً في مساراته الإقليمية. ولكنه، للأسف الشديد، لا يعيش في إقليم هادئ. لذلك، محكوم عليه أن يظل في عين العاصفة.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.