فلسطين.. الحقيقة والأسطورة

موقع العهد الإخباري-

أحمد فؤاد:

لا بد من الاعتراف أن الإستراتيجية العليا التي انتهجها كيان العدو في مواجهة عالم عربي واسع ومترامي الأطراف، كانت –نظريًا على الأقل- تكاد تصل حد الكمال، ليس بسبب كفاءة التخطيط أو حجم الدعم الدولي الهائل، الدائم والمستمر، لكن الفضل الأكبر يعود إلى أن هذا العالم العربي كان دائمًا في موقف المفعول به والمتلقي، يتلقى الضربات ويبتلع الأفكار كفريسة سهلة، تسعى هي إلى صيادها بحماس وجدّ شديدين.

كانت الخطة الصهيونية بسيطة ومباشرة في مقاصدها، إذا كانت الأولوية القصوى هي تفريغ الأرض من شعبها، ومن أية عوائق بشرية قائمة، وكسر كل الدعاوى السابقة على احتلالهم، وبالتضاد مع أية حقوق سابقة تاريخية، أو إنسانية أو أخلاقية أو قانونية، فقد فهم الكيان وقادة عصاباته المقاتلة، أن هذا الهدف لا يتحقق سوى بالقوة والقوة المسلحة والقوة المسلحة وحدها.

وفيما بعد قيام الكيان كأمر واقع على أرض فلسطين العربية، فقد سخرت الحكومات المتتالية كل ما لديها من قدرات وإمكانيات وأصوات تأثير لصالح صناعة العقد وتصديرها، فمن عقدة الذنب والمحرقة أمام الألمان، إلى عقدة الاضطهاد أمام الكنيسة الكاثوليكية، كان الكيان يبتز كل من يمكنه ابتزازه، ويحصل مقابل دعاواه المشبوهة على الدعم وخرطوم ممتد من المساعدات والتعويضات، إلى جانب دوره الأساسي بالطبع كقاعدة متقدمة للولايات المتحدة الأميركية، تفرض على هذه الأخيرة حسابات مفتوحة ومنح لا تتوقف، وترتب عليها دور الظهير السياسي الدولي لكل مجازرها وآثامها.

وفي مواجهة الدول العربية، فإن الكيان أعاد إحياء الأوهام التوراتية كحقائق في الصراع المستمر، ففي مواجهة مصر بعد 1967 كان جيش فرعون الذي غرق قبل أن يعبر إلى سيناء مقولة تتردد وترعب، وفي مواجهة العراق ورغبة في تدمير مفاعله النووي “تموز/ أوزيراك” فقد كانت العملية بعنوان “بابل” استدعاءً لتاريخ بعيد جدًا، يكشف عن عقيدة عنصرية ترى نفسها وتريد أن يراها الآخرون متفوقة.

لا يمكن بالطبع القبول بهذا الطرح الصهيوني على الإطلاق، فالعديد من العلماء العرب وغيرهم سبقوا إلى دراسة الارتباط بين بني إسرائيل وجماعات المغتصبين في الكيان الصهيوني، وهؤلاء وجدوا بدل الدليل ألفًا على أن هذه القطعان لا تنتمي إلى منطقتنا، ولم تكن موجودة تاريخيًا فيها، في أي وقت مضى.

الباحث المصري الموسوعي جمال حمدان، الذي قُتل في حريق غامض بالقاهرة 17 نيسان/ أبريل 1993، قدم كتابًا جليلًا عنوانه “اليهود أنثروبولوجيًا”، فند فيه كل الروايات الصهيونية والدعاوي الكاذبة حول ارتباطهم السابق بأرض فلسطين، ومما قال فيه: “إن يهود هذا الزمان، لا ينتمون إلى بني إسرائيل ولا لهم أي صلة أو تاريخ بفلسطين، وإنهم من قبيلة الخزر التترية التركية، التي استوطنت شمال القوقاز في جنوب روسيا، في القرن الثامن الميلادي، وعندما سقطت المملكة انتشروا في شرق أوروبا وروسيا، وهم الذين يعرفون بيهود الأشكناز”. ولم يكن “حمدان” هو الوحيد الذي ذهب إلى هذا الرأي، فبعد 9 سنوات من نشر كتابه القنبلة، أعاد الباحث اليهودي “آرثر بونيسلر” مؤلف كتاب “القبيلة الثالثة عشرة” استنتاج نفس ما ذهب إليه العالم المصري الشهيد.

في الحقيقة فإن الكيان بأكاذيبه نجح أمام أنظمة ودول قد دخلت إلى مواجهته بغير عقيدة، لا دينية ولا وطنية، وبالتالي كانت تنتقل من فشل إلى كارثة، إذا ما توقفت ضُربت، وإذا ما قررت الحركة ضُربت أيضًا، حتى إذا تخلت عن كل شيء وتسولت الاستسلام فإنها تُضرب كل لحظة، وبلا رحمة.

لم يكن غريبًا أن يلتقط آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي طرف هذا الخيط، في إطار دوره الموجه للعمل الوطني والديني، ويقول: إن “سبب تصاعد النضالات في الداخل الفلسطيني هو التوجه نحو الإسلام، منذ ظهور التوجه الإسلامي في أوساط المناضلين الفلسطينيين، تحقق التقدم في المواجهة على هذا النحو. لقد أدرك العدو هذا الأمر، لذا فهو يناهض الإسلام”.

كان المشهد الأكثر دلالة على صدقية كلام الإمام القائد هو فعل جرى في خضم المواجهة الحالية على أرض فلسطين، في يوم العاشر من آيار، دكت المقاومة الفلسطينية القلب الصهيوني الهش بصاروخ من نوع “خيبر”، في استدعاء جليل للحقيقة الأكثر نبلًا في تاريخنا، وللوقائع الأكثر كمالًا وجمالًا، أعاد الفلسطيني المقاوم البطل الإمام عليًّا (ع) وسيفه في مواجهة التسمية الصهيونية لدفاعه الصاروخي الأحدث “مقلاع داوود”، هذا ليس نصرًا أو صمودًا فحسب، لكنه مؤشر على طريق جديد بالكامل نخطوه نحو مواجهة شاملة، مواجهة يقف فيها الإيمان كله أمام الكفر كله.

بإعادة توجيه بوصلتنا الحقيقية إلى الدين، فإننا أمام إضافات تراكمت على خنادقنا، ثم على بعضها بعضًا، لتخرج لنا في النهاية صورة جديدة، تمثل أولها في الاختيار الحر لطريق المقاومة، ثم صبغت أفعالنا روح المقاومة، ثم نوعية الرجال الذين حملوا عبء ريادة هذا الطريق وترجمة هذه الروح شواهد حية على الأرض، ثم طبيعتنا التي تغيرت فعلًا وحولت الخيار إلى أسلوب حياة متكامل ودائم، في كل لحظة وأمام أي عقبة طارئة وفي كل منحنى صعب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.