السعوديّة.. من مخالِبِ الغرب إلى خيارِ السلام
صحيفة المسيرة اليمنية-
عبدالرحمن مراد:
ثمة متغيِّرٌ يجري في المنطقة، وثمة سياساتٌ تتبدَّلُ، يبدو لي أن الصراعَ الدولي في جزيرة القرم قد ألقى بظِلاله على العالم بكله، والمنطقة العربية جزءٌ لا يتجزأ من العالم، تؤثر وتتأثر بكل العوامل والمناخات والطقوس.
السعوديّة تنافس إيران على موقع الدولةِ الإقليمية المركزية؛ أي الدولة المحورية التي تتحكم في مصالح الإقليم، وترى في نفسها مركز التأثير بحيث تعزز من محوريتها العالمية، وقد تبدلت سياستها بشكل مفاجئ تجاه الدول التي ناصبتها العداء وكان لها نشاط عسكري ملحوظ فيها من حَيثُ دعم الفصائل والجماعات في المواقف، وبالمال وبالسلاح مثل العراق وسوريا وليبيا، ومن حَيثُ التدخل العسكري المباشر كما حدث في اليمن.
اليوم المملكة تذهب شرقاً إلى الصين وروسيا وتُعرِضُ عن الغرب إعراضَ مَن يبحث عن ذاته من بين ركام الأحداث والخراب والدمار الذي أحدثه النظام الرأسمالي في البلدان، وكانت المملكة يداً طائلة فيه، من خلال الدعم المادي والعسكري والسياسي للجماعات التي تنتهج التدمير والخراب، ومن خلال المواجهة المباشرة، هذا التحول الكبير في السياسة الخارجية للمملكة بعد سنوات طوال من الغي والطغيان والظلم ليس دليل يقظة؛ فالسياسة لا تنام، ولكن دليل تجدد مُستمرّ وقراءة للتحولات الدولية، فالسياسة عالم متحَرّك وغير ثابت، ولذلك ذهبت المملكة إلى المصالحة مع إيران حتى لا تفقد البُوصلة وتجد نفسها تغرد خارج سرب المنطقة، فقد كانت الحرب المباشرة وغير المباشرة التي خاضتها في المنطقة كالقشة التي قصمت ظهر البعير، فهي لم تعزز موقفها كدولة محورية في المنطقة، بل كادت الحرب أن تترك ظِلالاً قاتماً على مستقبل المملكة ولذلك تداركت نفسها وذهبت إلى خيار السلام.
اشتغال المملكة على خيار السلام ليس منقصة في حقها بل هو التفكير السليم، والمسار السياسي الأصوب، خَاصَّة في المرحلة التي يشهد العالم فيها تبدلاً وتحولاً كَبيراً في موازين القوى، لكن هل يمكن للسلام الذي تشتغل عليه المملكة اليوم أن يطبب الجروح التي تركتها السنون والأعوام الخوالي؟؛ فالحروب لا تترك إلا ندوباً في نفوس الشعوب، وقد نال اليمن من شرها الشيء الكثير، وهي البلد التي تشكّل عمقاً استراتيجياً للمملكة إن أرادت أن تصبح دولة مركزية في الإقليم.
لا يمكن للمملكة أن تصبح شيئاً مذكوراً -في الخارطة السياسية العالمية ولا حتى في الإقليم- دون أن تنفذ إلى هذا الخيار بقوة اليمن الاستراتيجية وبأس أهلها، وبعمقها الحضاري والتاريخي؛ فالتكامل للمملكة لا يكون إلا من اليمن وباليمن، ولذلك فقد وقعت في الخطأ حين نابت عن أمريكا والصهيونية العالمية في تدمير اليمن، وارتكبت الذنوب الكبيرة، ولعل أمريكا ومن بعدها إسرائيل أرادتا أن تفصلا المملكة عن الأجنحة التي يمكنها من خلالها التحليق بعنفوان في سماء السياسة الدولية؛ فسوريا والعراق دولتان بعمق حضاري وتاريخي تشكلان الجناح الأيسر، واليمن بعمقها الحضاري والتاريخي تشكل لوحدها الجناح الأيمن، ولذلك حاول النظام العالمي الرأسمالي أن يعمق الهوة بين قلب العالم الإسلامي وبين جناحيه؛ فالغرب –كما نعرف- لم يدخر جهداً في دراسة وتحليل الواقع الإسلامي والعربي، وتلمس مكامن الضعف والثغرات المحتملة فيه لغرض فرض الهيمنة والاستغلال والتبعية، ومع أن الغرب قد تمكّن من الهيمنة الاقتصادية والعسكرية على بلدان العالم الإسلامي، إلا أنه لم يكتفِ بذلك بل استطاع أَيْـضاً ممارسة دور كبير في التأثير الفكري والتوجيهي في كثير من المجالات العلمية والفكرية والسياسية والثقافية.
وعلى الرغم من أن العالم الإسلامي، أصبح عالماً منزوعَ المخالب ومسيطَراً عليه فكرياً ومحتلّاً ثقافيًّا، إلا أن هذا لم يُحدِثْ تبدلاً في السياسة الدولية على أرض الواقع؛ بل ازداد عددُ الدراسات التي تتناول المنطقة بالبحث والتحليل، ولذلك وقعت المملكة في عمق الأزمات مع محيطها الإقليمي بتدبير أمريكي وصهيوني، فالبحوث والخطط الاستراتيجية تقول ذلك ضمنا وصراحة لكننا قوم لا نقرأ، وليس لدينا قدرات ذهنية على التحليل.
جنوحُ السعوديّة إلى السلام مع اليمن ومع سوريا لا يعني غُفراناً للذنوب والخطايا التي أحدثتها للبلدين، لكن ذلك يعد تصحيحاً للمسار الخطأ الذي انتهجته سياسة السعوديّة، وأحدث دماراً شاملاً في النفوس قبل المقدرات، ومثل ذلك الدمار يحتاج إلى شجاعة الفرسان في الاعتراف بالذنوب والاعتذار للشعوب حتى تجتاز الشعوب العقبات النفسية الكأداء، فالذاكرة الجمعية للشعوب تمتلئ بمشاهد الألم وخيار السلام لا يكتمل إلا باستيفاء جميع أركانه.