«قصبــة الـودايــة»: أنـدلــس المـغــرب

قصبة الوادية المغرب
السفير ـ الأناضول :
تزخر العاصمة المغربية الرباط بالمباني التاريخية التي تشهد على حقبات زمنية حافلة بالأحداث والوقائع. وعلى الرغم من التشابه الكبير بين المدن المغربية، من حيث الطراز المعماري والأسوار والأبواب الخشبية السميكة والمساجد والقصور الشامخة، إلا أن لكل منها سحرها الخاص وجمالها الفريد.

وفي قصبة الوداية، التي تتوسط المدينة البيضاء والمطلة على وادي أبي رقراق في المحيط الأطلسي، تغرق الأزقة الضيقة باللونين الأزرق والأبيض، لتذكر أهلها بمدنهم الأندلسية، خصوصا أن القصبة كان يأوي إليها سابقا «المورسكيون» الذين لجأوا إلى المغرب هربًا من حكام إسبانيا الجدد بعد انهيار الحكم الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبرية (إسبانيا والبرتغال). أما الطراز المتفرد لمنازل القصبة فيعكس تأثير الطراز العربي الأندلسي، وذلك من خلال الشرفات الصغيرة المشرعة على السماء التي تتدلى منها الورود والنباتات المتسلقة على الجدران.

وتعتبر قصبة الوداية المشرفة من بين الحصون العسكرية الأولى التي شُيّدت في مدينة الرباط، حيث بناها مؤسسو المدينة في زمن الدولة الموحدية خلال القرن الحادي عشر، بعدما أمر الخليفة الموحدي عبد المؤمن بن علي في العام 1150 بإنشاء قلعة تدفع غزو الإسبان والقراصنة في البحر عن ثغور المغرب الساحلية.

لكن الشهرة التي تميزت بها القلعة فضلا عن دورها الدفاعي فقدت بريقها بعدما توفي مؤسسها. ولم تعد القلعة تتصدر واجهة الأحداث التاريخية إلا بعدما أتى إليها سكان الأندلس، في أوائل القرن السابع عشر.

وشيّد المورسكيون في القصبة أندلسهم المفقود، إذ حرصوا على أن تشبه الأزقة والمساجد والنقوش على الأسوار، تلك التي رحلوا عنها في مدنهم وقراهم. وفي مدينة الرباط، عمد المورسكيون إلى زخرفة أبواب مداخل القصبة بنقوش أندلسية أصيلة، فيما حافظت المنازل على بنائها القديم الذي كان سائدًا في المدن الأندلسية، خصوصا الجنوبية منها المشرفة على البحر. وطغى اللونان الأبيض والأزرق على فضاء القصبة، حيث استنسخا منها أيقونات معمارية تشبه مثيلاتها في غرناطة وأشبيلية.

وفي القصبة، كانت النساء يمضين وقتهن بحياكة المناديل الأندلسية المخططة بالأبيض والأحمر، التي اشتهرت بها المدينة. وقد ورثت النساء هذه المناديل عن أجدادهن، وحملن فيها أمتعتهن في رحلة الهجرة القسرية من الأندلس إلى الضفة الجنوبية من البحر المتوسط.
وأغوت القصبة كثيرا من زوارها الأجانب، خصوصا الأوروبيين والأميركيين، ليصبحوا في ما بعد بعضا من سكانها العاشقين.

وعلى غرار مدينة أصيلة، التي تشتهر بمهرجانها الثقافي شمالي الغرب، أصبحت قصبة الوداية موطنا لاستقرار الكثير من الرسامين، والموسيقيين، والشعراء المغاربة والأجانب الذين يستوحون من طرازها المعماري المميز مادة لإبداعاتهم.

ويتوسط القصبة مسجد كبير، فضلا عن أن في داخلها حديقة ساحرة من الطراز الأندلسي الخلاب، يطلق عليها المغاربة اسم «الرياض». وتتميز بمزروعات متنوعة من بينها أشجار النخيل والحمضيات والأشجار الزهرية، فضلا عن البرك المائية.

وتغلب على المتجول بين بساتينها مشاعر الشوق والحنين إلى الماضي المجيد وأمجاد غرناطة وطليطلة وقصر الحمراء في الأندلس.

ويقع متحف المنتجات التقليدية بمحاذاة الحديقة، حيث يعرض إبداعات الحرفيين المغاربة من بينها المجوهرات والآلات الموسيقية. ويجد الزائر نفسه مندلفا من باب جانبي إلى المقهى المشهور في القصبة، المطل على نهر أبي رقراق والذي يعج بسياح من مختلف بلدان العالم. ويحرص هؤلاء على الاستمتاع بالشاي المغربي بطعم النعناع وحلويات يقدمها نادل بزي تقليدي خاص، وسط سحر وطقوس خاصة تمتزج فيها هيبة المكان التاريخية بروعة مشهد البحر والنهر معا.

يذكر أن قصبة الوداية تؤرخ لفترة مضطربة من تاريخ المغرب، حيث لم تتمكن الدولة من بسط سلطتها، ما دفع المورسكيين في الرباط إلى أن يعلنوا عن تشكيل دويلة صغيرة على ضفاف أبي رقراق أطلق عليها اسم دويلة أبي رقراق. وتمكن ملوك الدولة العلوية من بسط سيطرتهم على القصبة وإنهاء سيطرة المورسكيين عليها، لتغدو معلمًا أثريًّا مميزًا لمدينة الرباط وتاريخها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.