مجزرة “كونيتيكت” وضحايا “التنمر” في أرض العنف

usa-massacre

موقع أنباء موسكو ـ
عامر راشد:
بصوت متدهدج وعيون دامعة نعى الرئيس الأميركي باراك أوباما ضحايا مجزرة مدرسة ساندي هوك الابتدائية في نيوتاون بولاية كونيتيكت، الذين لقوا حتفهم صباح الجمعة الفائت على يد شاب في العشرين من العمر فتح النار عليهم قبل أن ينتحر، في إحدى أكثر الجرائم دموية في السجل الطويل والمأساوي للجرائم المرتكبة في حرم المؤسسات التعليمية الأميركية.

القاتل أردى بأسلحته النارية ستة وعشرين شخصاً بينهم عشرين طفلاً بين الخامسة والعشر سنوات من العمر، مما أشعل مجدداً الجدل الدائر منذ سنوات بين المؤيدين لحيازة الأسلحة الفردية والمعارضين، المطالبين بالحد من التسلح وبتعديل الأنظمة القوانين الناظمة له، على مستوى الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات.

لكن ذوي الضحايا والمواطنين الأميركيين العاديين لا يتوقعون الكثير من دموع أوباما والجدل المتجدد، فذاكرتهم القريبة والبعيدة تختزن ما يفيض عن الحاجة من أمثلة مشابهة، روعتهم وروعت أبناءهم وأجدادهم في “أرض العنف” الوجه الآخر لتسمية أميركا بـ”بلاد الثروة والعالم الجديد” التي تحاكي الأسطورة الأوروبية في القرون الوسطى عن مكان خيالي يقال له (كوكين) أو “أرض الحليب والعسل”، ومن أجل بلوغ ذلك المكان يلزم الإنسان أن يعبر نهراً عصيّاً وقذراً. وكلّ من يجتاز ذلك النهر بنجاح، ينتهي به المطاف في أرض تتدفّق في جنباتها أنهار من الزيت والحليب والنبيذ مكافأة له على صبره وعزيمته. وفي تلك الأرض تتوفّر كلّ سبل الراحة والرفاهية.

أسطورة رسمها الفنان الهولندي بيتر بريغل في واحدة من اغرب لوحاته وأكثرها سخرية. صور فيها ثلاثة أشخاص: عالم وجندي ومزارع، وهم مستلقون على الأرض ويحدّقون في جذع شجرة ضخمة عليها آنية مليئة بالأطعمة. وفوق سطح الحانوت وعلى جانبيه اصطفّت أنواع الأكل والمؤن المعروضة بالمجّان لمن يريدها.

وفي الواقع تؤكد الإحصاءات الرسمية الأميركية أن أكثر من 30 ألف شخص يموتون سنوياً جراء استخدام الأسلحة النارية، سواء من خلال القتل أو الانتحار أو حوادث غير مقصودة، أي ما معدله 82 شخصاً في شكل يومي. وتشير أرقام وزارة العدل الأميركية إلى أن عدد الأسلحة النارية في أيدي الأفراد العاديين تبلغ أكثر من 200 مليون قطعة سلاح، والعدد يتزايد بواقع عدة ملايين من قطع الأسلحة الفردية كل عام.

وكنتيجة لهذا، يقول ديفيد هيمنواي مدير مركز أبحاث هارفارد للحد من الإصابات: “إن مستوى العنف المميت في الولايات المتحدة فاق كثيراً المستوى في الدول الصناعية الأخرى، كون أغلب أعمال العنف المميتة متعلق بالأسلحة النارية يضفي مصداقية على افتراض أن شيوع الأسلحة النارية هو السبب الرئيسي”، في انعكاس لما يصطلح علماء النفس على تسميته بـ”ظاهرة التنمر”، وهي “سلوك عدواني متكرر يهدف للإضرار بشخص آخر عمداً، جسدياً أو نفسياً. ويتميز التنمر بتصرف فردي بطرق معينة من أجل اكتساب السلطة على حساب شخص آخر”.

وفي عام 2002، بيّن تقرير صادر عن المخابرات الأميركية أن “التنمر” لعب دوراً هاماً في إطلاق النار في العديد من المدارس، ما يستلزم بذل الجهود للقضاء على هذا السلوك العدواني، إلا أن جوشوا هورويتز، المدير التنفيذي لائتلاف وقف عنف الأسلحة النارية، يرى بأن الإدارات الأميركية تعاملت بشكل سلبي مع هذا الموضوع، ويضيف: “الكونجرس في حالة من الإنكار بشأن عنف الأسلحة النارية، وهو يتحرك في الاتجاه الخطأ”، بينما “بلغ العدد السنوي من القتلى بسبب عنف الأسلحة النارية في الولايات المتحدة عشرة أمثال إجمالي عدد القتلى من الأميركيين في الأعمال القتالية في أفغانستان والعراق..”.

ويشكك المواطنون الأميركيون في أن مجزرة مدرسة ساندي هوك الابتدائية، في نيوتاون بولاية كونيتيكت، ستكون الأخيرة من نوعها، حيث سبقها الكثير من المجازر المروعة ذات طبيعة مشابهة لها لم تغيير من سلوك الإدارات الأميركية في التعاطي مع قضية اقتناء الأفراد العاديين للأسلحة النارية، لوقوع مؤسسات القرار في واشنطن وحكومات الولايات تحت سطوة نفوذ “الرابطة الأميركية للأسلحة النارية”، التي استطاعت عام 2004 دفع الكونغرس إلى إلغاء حظر فرض عام 1994 على إنتاج وبيع أسلحة فردية.

ومن سجل الجرائم في المدارس الأميركية مذبحة ثانوية كولومباين في نيسان (أبريل) 1999 في ولاية كولورادو، المدرسة ومذبحة مدرسة ويست ساير في جونسبورو، ومذبحة مدرسة الفتيات في مدرسة تابعة لطائفة الاميش في بنسلفانيا 2006، ومذبحة جامعة فرجينيا للتكنولوجيا 2007.. الخ. وهناك أمثلة كثيرة على مدى اتساع دائرة العُنف في أميركا، ففي مدينة لوس انجلوس يقتل شهريـاً (13) طفلاً بيد (13) طفلا آخر، وجاء في دراسة صادرة  عن البيت الأبيض أن “مدرسة من كل عشر مدارس أميركية تشهد أعمال عنف خطيرة”.

وتعيش الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية تصاعداً في موجة الإرهاب العنصري والأيديولوجي الداخلي غير مسبوق في تاريخها، وبات متأصلاً في سلوك أفراد المجتمع الأميركي، وتؤكد الدراسات والأبحاث على انتشار الحركات والميليشيات والمنظمات العرقية والعنصرية والإرهابية في الولايات المتحدة بصورة ملحوظة، ولهذه الجماعات دور فعال في تزايد أعمال العنف والإرهاب. ففي لوس أنجلوس وحدها 800 عصابة، تضم في عضويتها تسعين ألف خارج عن القانون، ويتواجد في  113 مدينة على امتداد 32 ولاية أميركية وكلاء للعصابتين الأشهر في كاليفورنيا، (بلوودس) و(غريبس)، ويقترف سنوياً 3 ملايين عمل إجرامي من كل الأنواع في المؤسسات التعليمية الأميركية، ويقتني أكثر من 270 ألف طالب في المدارس المتوسطة والثانوية أسلحة نارية، ويقتل كل شهر بالأسلحة النارية ما معدله 1468 طفلاً تقل أعمارهم عن ثمانية عشر عاماً..

وقائع وأرقام تبعث على الصدمة في بلد يدعي أنه بلد الديمقراطية والحريات الأول في العالم، ادعاء تكذبه ظواهر مروعة أفرزتها (ثقافة العنف) في المنتج الاستهلاكي الثقافي الأميركي، وتقاعس الإدارات الحاكمة عن الحد من انتشار وسائل العنف وأدواته، وترهل الهوية القومية الأميركية بالغرق في التمسك بمبدأ “الديمقراطية غير المدافعة”، التي لا تمنع تنظيم جماعات عنصرية أو جماعات غير ديمقراطية طالما أنها تصرح عن أهدافها دون إقران القول بالفعل، وهو قيد نظري لا يمنع تلك الجماعات من التحول إلى منظمات إرهابية سرية تهدد أمن المجتمع والنظام الديمقراطي.

ظواهر يقول الكاتب الأميركي ديفيد تي .كورت رايت في كتابه “أرض العنف”: إن المجتمع الأميركي عانى منها على مر العصور، كمشكلة تاريخية لم يتسنَّ التخلص منها والقضاء عليها نهائياً، فالأفراد يستمرون بأعمالهم تلك دون مبالاة بالقانون والسلطة لأنهم يفلتون من العقاب أكثر الأحيان، في بلد توشح تاريخه بوشاح من الدم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.