معنى الوطن حول البحيرة المتوسطة البيضاء

egypt-violence1

صحيفة الخليج الإماراتية ـ
نسيم الخوري:

عندما تتحوّل رقعة عربية إلى فسيفساء دموية يقف فوق كلّ مربّع منها مجموعة مسلحين يتقاتلون أو يقاتلون من هم في الضفة المقابلة، كما يحصل في طرابلس فيحاء الشمال في لبنان، تتشظّى الألسنة بين مطالب بالحسم الفوري للجيش أو مطالب بالتهدئة أو القائل بالأمن بالتراضي . ليس هناك من حلول جذرية لمعضلات مشابهة، فقد نصّت وثيقة الوفاق الوطني على أنّ “الجيش يخضع للسلطة السياسيّة” . الفعل “خضع” له معان كثيرة، والسلطة في لبنان ليست وطناً بصيغة المفرد، بل بصيغة الجمع لصعوبة تعداد الأحزاب ووجهات النظر بما يجعل لبنان ساحة مفتوحة . والساحات تناقض الأوطان وتورث المتاعب لمواطنيها ولجيوشها .

قد لا يكون هذا الموضوع حصراً بلبنان بما يجعلنا نفهم معضلة التردّد السياسي في حسم المخاطر الناتئة، بل إنه يتجاوزه ونجد ما يشابهه في هذه المثلّثات الدموية المنغلقة فوق الرقعة العربية من تونس ومصر واليمن والصومال والعراق إلى سوريا وغيرها من بلاد العرب، وأعني بها المثلّثات التي يحضن كلّ منها زوايا ثلاثاً قائمة على الجيش والشعب والنظام، سواء  أكان هذا النظام قديماً أم مستحدثاً أم في طور التحديث على طريقة “الثورات” الجديدة في الحكم المتداخلة مع التجارب والمحاولات الغربية غير المحسومة نهائياً لا في الغرب ولا في الشرق لملامح خرائط توزّع السلطات الدولية المبهمة . النقطة الأصعب على الفهم في تلك المثلّثات المنعزلة والمتداخلة في وقت واحد، هي زاوية الجيوش، سواء جاءت الأسباب أو النتائج دموية كما حصل في العراق بعد حلّ الجيش وتشرذمه ما إن رفع رأسه من حروبٍ دامت عقداً كاملاً مع إيران، أو في دفاعه المستقتل عن الحاكم كما حصل في اليمن، أو في ضمان حياديته المبهمة المتحيّرة بين القصر والساحات كما حصل ويحصل في مصر، أو في انخراطه المتجذّر الكامل في معارك الداخل كما يحصل في سوريا، أو بالتلويح المتكرّر به خشية كشف الأغطية الفعلية عن عجز الحكّام كما يحصل في لبنان، وتحديداً في شماله المتداخل مباشرة مع سوريا بالمعنى الجيوستراتيجي، أو بشكلٍ غير مباشر بتداخله مع الكثير من الأنظمة والرؤى البعيدة التي تتقاتل فوق أرض سوريا . فالحكّام الذين يتبوأون الأنظمة أو يسكنون أو يدافعون عن زواياهم لا يعرفون النوم الهادئ بعد مقتل صدّام حسين في الحفرة صبيحة أضحى مبارك، وياسر عرفات الذي نبش ترابه، ورفيق الحريري الذي اغتيل حرقاً في قلب مدينته التي أخرجها من الخرائب والحرائق اللبنانية الطويلة، وسبحة الاغتيالات الكثيرة في لبنان، وبعد مقتل معمّر القذافي وجعل جثّته معرضاً للمواطنين وللعالم أمام الشاشات، وبعد زين العابدين بن علي الذي طوت تاريخه الصلب نفحة ياسمين، وتمديد حسني مبارك فوق فراش ممدود وراء القضبان، ومغادرة علي عبدالله صالح جريحاً من اليمن، والسلسلة تطول وكلّها صور منقوعة بالمرارات بالمعنى القومي . إذاً، زاوية الحكّام هي الزاوية المبعثرة المتغيّرة المهدّدة والمتحوّلة، ومثلها الزاوية الثانية التي تحضن الشعوب المتشظية بين غرب وشرق لم يبق منها سوى البؤساء الذين لا قدرات لهم مادية أو ثقافية أو نفسية أو قومية للتحرك الذي يخرجهم من مثلثات هذه الأوطان المهدورة . ما يعنينا هو تلك الزاوية الثالثة التي تمثل الجيش التي تبدو الأقوى مكوثاً وثقةً بالنفس، على الرغم من كلّ هذا العصف في المتغيرات والتحولات . ليس مطلوباً الجهد في البحث عن أحجام الثروات الهائلة التي أنفقت وينفقها العرب على السلاح، فالأرقام كبيرة قد نجد غبارها في خزائن الإنترنت وأبوابها الإلكترونية الكثيرة، لأننا لن نعثر عليها صافية من المصادر العسكرية .

يكفي القول إنّه منذ سنة 2000 يكشف التوازن الجيوسياسي والجيوستراتيجي العالمي عن تحولات هائلة  بالنسبة إلى عمر الحرب الباردة أهمها الآثار الجغرافية والسياسية الناجمة عن عولمة التبادلات التي ازدادت وأظهرت أشكالاً متنوعة من العنف والضغوطات على الشرق العربي وموارد الطاقة واحتلال الأراضي بما ولّد توترات جديدة . وبموازاة ذلك، عاد السباق نحو التسلح أو نحو تجديد الأسلحة القديمة والاستثمار الهائل في تكنولوجيا السلاح، إذ تم تخصيص 2146 مليار دولار في سنة 2010 مقابل 839 ملياراً سنة  ،2001 وهنا يفترض الإشارة إلى أن العرب سوق لا يشبع من اقتناء السلاح لكنه الخاضع بالطبع، لمقتضيات الصراع العربي “الإسرائيلي” . وازدادت وتزداد الضغوط على الدول التي تمتلك الموارد وخصوصاً النفط والغاز، بعدما يدفع العالم إلى تدمية رأسه بحثاً عن الملامح والتدابير الضرورية لمواجهة المستقبل مع التبشير الغربي بنهاية عصر البترول .

ومن يتابع منشورات مراكز الدراسات في هذا الميدان، يتصوّر نفسه وكأنه في عالم من خيال عندما يكتشف أنّ الذهن الغربي يبحث فيه عمّا يذيب القطب الشمالي من الكرة كي يحفر طرقاً جوفية للإمدادات البترولية والغازية من القوقاز وبلدان الشرق الأقصى، من دون المرور في دورة منطقة الشرق الأوسط توفيراً للوقت والنقل والتكلفة . ما يثيرني هو أنّ الجيوش التي وجدت أساساً للذود عن حدود الأوطان والدفاع وصيانة السيادة الوطنية والاستقلال وحماية أبناء الوطن أيّ وطن، نرى الكثير منها منذ ال 1967 وال ،1973 متوقفاً جامداً في الصراع الحقيقي مع العدو “الإسرائيلي”، غارقاً يستهلك تاريخه والسلاح المكدّس ودماءه للقتال الشرس والعنيف داخل هذه المثلثات من الأوطان . يمكن إيراد قصّة معبّرة من لبنان في هذا المجال حيث تبادل السلطات مسألة ديمقراطية باتت مألوفة ومطلوبة ومتميّزة، في بلد تتجاوز زعاماته الحزبية التاريخية كلّ السلطات التي تلتصق بها بالمعنيين الطائفي والمصلحي الضيّقين:

منذ عقودٍ ثلاثة ونيّف، جمعتني بوزير الخارجية الفرنسية جان فرنسوا بونسيه علاقة حميمة كان راعيها مدير مكتبه ميشال ميناشوموف من أصلٍ بولوني . تعمّقت تلك العلاقة لأنّ لبنان كان يحتضن بداية اللهيب في حروبه المتعددة التي خلّفت أكثر من مئة وخمسين ألف قتيل وجريح ومعاق ومشوّه ومسجون . . إلخ، من الكلمات التي لاتزال تقطر دماً . يمكن للباحث أن يعاين مدى القيود والتقنين والصقيع الذي يحكم منطق ممثّلي الدول الكبرى عندما يدور النقاش عن أرض المناقش ولحمه وأهله وحدوده . تعثّرت العلاقة وأوصدت الأبواب على نصيحة مدير المكتب الذي قال عند حزم الحقائب للعودة إلى لبنان: للجيوش أدوار لم ولن تنتهي من حول هذه البحيرة التي تسمّونها البحر الأبيض المتوسط . من شاء أن يحفظ وطنه ورأسه فليقعد قريباً من الجيش .

نصيحة قد تكون منطقية فأغلبية المواطنين في البحيرة البيضاء المتوسطة تنادي الجندي ب: يا وطن!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.