أزمة في أفق العلاقات الأميركية الإسرائيلية

موقع قناة الميادين-

حسن نافعة:

قد تخفق “إسرائيل” مرة أخرى في إقناع بايدن بعدم التوقيع على أي اتفاق جديد، وهو الاحتمال الذي أرجّحه، فالسياق التاريخي للعلاقات الإسرائيلية الأميركية يشير إلى أنه عندما تتصادم رؤى النخب الحاكمة في البلدين حول مصالحهما العليا، ترجح كفة المصالح الأميركية.

دخلت المفاوضات غير المباشرة، الدائرة حالياً بين الولايات المتحدة وإيران عبر الوسيط الأوربي في مرحلة حاسمة تشير إلى احتمال عودة قريبة للولايات المتحدة إلى اتفاقية عام 2015. فالتصريحات الرسمية الصادرة عن مختلف الأطراف المعنية، وخصوصاً الأميركية والإيرانية والأوربية منها، تؤكد أن الجولات الأخيرة من المفاوضات أحرزت تقدماً كبيراً، وأن التوقيع على اتفاق جديد يسمح بالعودة الأميركية إلى التزام الاتفاق القديم “لم يكن أقرب في أي وقت مضى مما هو الآن”.

ولكن الحذر ضروري في مثل هذه الأحوال، وينبغي أن يظل قائماً إلى أن يوقع الاتفاق المنشود فعلياً، خصوصاً أن التصريحات الصادرة أخيراً عن الجانب الأميركي تشير إلى أن التقدم الذي أحرز جاء نتيجة “تغير في الموقف الإيراني أسفر عن تنازلات في مسائل جوهرية”، فيما تشير التصريحات الصادرة عن الجانب الإيراني إلى أن المسائل المتبقية “تقلّصت كثيراً لكنها تتعلّق بقضايا جوهرية لم تحسم بعد”، ما يعني أن المفاوضات لا تزال تواجه عقبات لم يجرِ التغلب عليها بعد، وقد تصطدم تالياً في اللحظات الأخيرة بتعقيدات غير قابلة للحل قبل أن تنتهي بالفشل. وإذا حدث ذلك فالمرجح أن تكون “إسرائيل” هي المتسبّب الأول في الوصول إلى هذه النتيجة.

لم تخفِ “إسرائيل” قطّ رفضها التام لاتفاقية عام 2015، وفعلت كل ما في وسعها لمنع الولايات المتحدة من توقيعها، وذهب نتانياهو في هذا المسعى حدّ تحدي رئيسها علناً ومهاجمته من داخل الكونغرس الأميركي نفسه.

صحيح أن نتانياهو أخفق في مساعيه الرامية إلى حمل أوباما على عدم التوقيع على الاتفاق، غير أن تصرفاته المتهورة تسببت باندلاع أزمة مكتومة في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، ما لبثت أن انفجرت في أيام أوباما الأخيرة في البيت الأبيض، حين قررت الولايات المتحدة عدم استخدام الفيتو لحماية المصالح الإسرائيلية، ما سمح بإمرار قرار في مجلس الأمن في 23 من كانون الأول/ديسمبر عام 2016، وللمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، يدين بناء المستوطنات الإسرائيلية ويرى أنها غير شرعية ويطالب بوقفها فوراً. وصحيح أيضاً أن نتانياهو أمكنه بعد ذلك رد الصاع صاعين لأوباما، حين نجح في إقناع ترامب عام 2018 بالانسحاب من الاتفاقية التي وقّعها أوباما عام 2015، وبفرض عقوبات قصوى على إيران، لكن، ها هو مكر التاريخ يعيد إنتاج نفسه، فقد رحل ترامب، واعترف بايدن بأن سلفه ارتكب خطأ كبيراً يستوجب التصحيح، وبأن تصحيحه يتطلب عودة أميركية إلى التزام الاتفاق وإلغاء العقوبات، وهو ما ترفضه “إسرائيل” رفضاً قاطعاً وتسعى من جديد لإحباطه بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة.

ليس لدى “إسرائيل” حالياً زعامة سياسية بحجم نتانياهو وقوته وعناده، وتفتقر قيادتها الحالية إلى إرادة تمكنها من الدخول في تصادم مع بايدن، على نحو ما قام به نتانياهو مع أوباما، خصوصاً أنه يصعب التشكيك في نيات رئيس أميركي يرى نفسه “صهيونياً”. ولأنّ رئيس وزراء “إسرائيل” الحالي، الذي يستعد لخوض انتخابات برلمانية بعد شهرين، حريص على إثبات أنه لا يقل عن نتانياهو شجاعة أو اهتماماً بأمن “إسرائيل”، فمن الطبيعي أن يسعى لحشد وتعبئة المؤسسات الصهيونية للضغط على إدارة بايدن وحملها على الامتناع عن توقيع اتفاق بات شبه مكتمل.

ولأن التوقيع لم يجرِ بعد، فستظل كل الاحتمالات مطروحة، بما في ذلك احتمال نجاح “إسرائيل” في إحباط المفاوضات في اللحظة الأخيرة، خصوصاً بعد نجاحها في إقحام الوكالة الدولية للطاقة الذرية على خط الأزمة من جديد ودفعها إلى إثارة عقبات قد يستحيل التغلب عليها. لكن ماذا لو أخفقت في مساعيها، وفي ممارسة ضغوطها، ووقع بايدن الاتفاق في النهاية؟ هل تندلع أزمة جديدة في العلاقات الأميركية الإسرائيلية تماثل لتلك التي كانت بوادرها قد بدأت تلوح في الأفق في أواخر عهد أوباما؟ وكيف يمكن لأزمة من هذا النوع، إن اندلعت فعلاً، أن تؤثر في مسار الصراعات الأخرى المحتدمة في المنطقة؟ تلك وغيرها أسئلة تستحق أن تشغل اهتمامنا وأن نتوقف عندها بالتحليل.

من الواضح أن الموقف الحالي للولايات المتحدة الأميركية، الذي يميل نحو العودة إلى اتفاقية عام 2015 وإلغاء العقوبات المفروضة على إيران، ينبع من رؤية إدارة بايدن لمسؤوليات الولايات المتحدة العالمية، باعتبارها قوة عظمى تحرص على إطالة هيمنتها المنفردة على النظام الدولي ما أمكن.

ولأن التحولات الجارية حالياً في هذا النظام تدفعها إلى التقارب مع إيران، بدلاً من شن الحرب عليها كما تريد “إسرائيل”، فضلاً عن أن الولايات المتحدة تخشى اندفاع إيران نحو تحالف إستراتيجي شامل مع روسيا والصين، تعتقد إدارة بايدن أن الدبلوماسية باتت الخيار العقلاني الوحيد لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي.

أما “إسرائيل” فترى الأمر من منظور مختلف، فمشكلتها مع إيران لا تقتصر على البرنامج النووي، وإنما تدور أساساً حول علاقة إيران بمختلف مكونات “محور المقاومة”، وبقدرة إيران على تزويد الدول والأحزاب والفصائل المشكلة لهذا المحور بأسلحة ذكية ومتطورة ترى فيها “إسرائيل” خطراً وجودياً عليها.

لذا، يبدو لي أن الهدف الحقيقي لـ”إسرائيل” لا يقتصر على السعي لتدمير البرنامج النووي الإيراني، وإنما يمتد ليشمل تدمير “محور المقاومة” ككل، من خلال تدمير العقل الذي يقوده، والقلب الذي يضخ له ما يحتاج إليه من دماء، وهو ما لا يتحقّق إلا بتغيير النظام الإيراني نفسه.

وقد بذلت “إسرائيل” جهوداً مضنية في السنوات الأخيرة لإقناع الولايات المتحدة بأن الحل العسكري هو الخيار الوحيد الصحيح للتعامل مع التهديد الإيراني، وحاولت جرها في غير مناسبة للاشتراك معها في توجيه ضربة عسكرية إلى إيران، لا تفضي إلى تدمير برنامجها النووي وحسب، إنما تُحدث ما يكفي من التدمير في بنية هذا البلد الأساسية ليبدأ العد التنازلي لتغيير النظام فيها.

ولأنها أخفقت في هذا المسعى حتى الآن، فمن الطبيعي أن تعلن في كل مناسبة أنها ليست طرفاً في أي اتفاق يوقع مع إيران، ولن تلتزمه على أي نحو، ثم تعطي لنفسها الحق في اتخاذ كل ما تراه ضرورياً للدفاع عن أمنها وحماية مصالحها.

قد تخفق “إسرائيل” مرة أخرى في إقناع إدارة بايدن أو حملها على عدم التوقيع على أي اتفاق جديد، وهو الاحتمال الذي أرجّحه وإن كنت لا أستبعد حدوثه كلياً. فالسياق التاريخي للعلاقات الإسرائيلية الأميركية يشير إلى أنه عندما تتصادم رؤى النخب الحاكمة في البلدين حول مصالحهما العليا، ترجح كفة المصالح الأميركية في النهاية، على الرغم من كل ما يملكه “اللوبي” الصهيوني من وسائل ضغط هائلة ليس داخل مراكز صنع القرار الأميركي وحسب، ولكن داخل مفاصل المجتمع الأميركي أيضاً، فماذا تصنع “إسرائيل” في هذه الحال، خصوصاً أنها، كما هو معروف، لا تهتم بأي شيء سوى مصالحها وأمنها فقط، حتى ولو كان ذلك على حساب الولايات المتحدة الأميركية وأمنها ومصالحها، وهي أقرب حلفائها على الإطلاق وركيزة وجودها نفسه؟

في اعتقادي الشخصي أنها ستلجأ إلى التصعيد والضغط من خلال ثلاثة مداخل متوازية:

الأول: مواصلة إدارة الصراع مع إيران بالوسائل السابقة نفسها من اغتيال للعلماء النوويين ورموز لحرس الثورة الإيراني، وتوجيه ضربات عسكرية إلى المواقع الإيرانية أو التابعة لحزب الله في سوريا، ومواصلة حرب السفن في أعالي البحار كلما كان ذلك ممكناً، وزيادة وتيرة الحرب السيبرانية…

ولأن “إسرائيل” تدرك يقيناً أنه لن يكون في مقدور هذه الوسائل وحدها إحداث تغيير يذكر في توجهات إيران وسياساتها تجاه المنطقة، وأن ليس في وسع إيران فقط التعامل بفاعلية مع هذه الوسائل المحدودة والتقليل من تأثيراتها السلبية إلى أقصى حد، وإنما زيادة وتعظيم نفوذها الإقليمي من خلال ما يتيحه رفع العقوبات من إضافة إمكانات تساعدها على تقديم مزيد من المعونات إلى حلفائها في المنطقة، يرجح ألا تكتفي بهذه الوسائل وأن تزيد من وتيرة التصعيد، حتى لو أفضى التصعيد هذه المرة إلى حرب إقليمية شاملة تعتقد “إسرائيل” أن الولايات المتحدة لن تتركها تخوضها وحدها.

المدخل الثاني: العمل لإضعاف إدارة الرئيس بايدن في الفترة المتبقية من ولايته، بحشد وتعبئة كل القوى الصهيونية لمساعدة الحزب الجمهوري على الحصول على أغلبية المقاعد في انتخابات التجديد النصفي التي ستجرى في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، حتى لو كان الثمن المخاطرة باندلاع أزمة في العلاقات الأميركية الإسرائيلية في هذه الفترة، لأن “إسرائيل” تعتقد أنها ستكون في جميع الأحوال قادرة على التعامل معها واحتوائها عاجلاً أو آجلاً.

المدخل الثالث: متابعة كواليس الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة منذ الآن، بهدف البحث عن مرشح رئاسي بمواصفات ترامب نفسها، حتى ولو كان ترامب نفسه، إن استطاعت مساعدته على تجاوز محنته الحالية، بحيث يكون هذا المرشح مستعداً وجاهزاً لاتخاذ مواقف متشددة تجاه إيران، حتى ولو أدت في النهاية إلى انسحاب الولايات المتحدة مرة ثانية من الاتفاق الجديد، مع حشد وتعبئة كل القوى الصهيونية لضمان فوزه في هذه الانتخابات.

في ضوء ما سبق، يمكن القول إنه سواء نجحت أم أخفقت في عرقلة العودة الأميركية إلى الاتفاقية النووية مع إيران، فستظل “إسرائيل” في جميع الأحوال مصدر عدم الاستقرار الرئيس في منطقة الشرق الأوسط.

ومع ذلك، أظن أن إقدام بايدن على توقيع هذا الاتفاق، وعدم مبالاته بالتحفظات الإسرائيلية، سيؤديان إلى اندلاع أزمة في العلاقات الأميركية الإسرائيلية، قد تكون أكثر حدة من تلك التي نشبت في أواخر أيام أوباما في البيت الأبيض، وأظن أنها ستكون أزمة مرشحة للاستمرار طوال العامين المقبلين على الأقل، ما يساعد على تهيئة مناخ جديد في المنطقة، قد يؤدي، إذا ما أحسنت إيران والدول العربية استغلاله، إلى تمهيد الطريق أمام إدارة أكثر عقلانية للصراعات المحتدمة في المنطقة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.