اعتذر … أو اعتذر

najib-mikati

صحيفة الأخبار اللبنانية ـ
حسن خليل:

قليلون الذين تتحرّش بهم الفرص كما فعلت مع نجيب ميقاتي الذي كان أقصى طموحه وزارة ما، يشغلها بدل السنة ست سنوات، فإذا به رئيساً للسلطة التنفيذية، لا مرة بل مرتين، زاد في كل منهما الانهيار انهياراً.
كان جيداً، بل ممتازاً، انتهاجه سياسة النأي بالنفس في زمن الانزلاقات الخطيرة التي تطيح بدول في المنطقة. يمكن أصحاب النوايا الحسنة تعليل مواقفه في كل مرة يغوص فيها في زواريب المذهبية لحفظ مكانه في طائفته. يصرخ عالياً: اعذروني وافهموني لأنني أحمي بعض الفاسدين أو غير القانونيين في وظائفهم، وأدافع عن سوليدير وسوكلين والسوق الحرة ومجلس الإنماء والإعمار والهيئة العليا للإغاثة والأمانة العامة لمجلس الوزراء، وأعيّن قضاة وأمنيين وموظفين سابقين سيّئي السمعة، وأستقبل موقوفاً مطلوباً دولياً يأتيني في سيارة وزير المالية. هل تريدون أن يقال إنني أقلّ حرصاً من فؤاد السنيورة وسعد الحريري على مكاسب الطائفة؟ أنا أفخر بأنني مجرد ممارس لـ «استمرارية الحكم» بالطريقة اللبنانية البشعة، ولا يهمني رأي أحدٍ ممّن يسمّى بالمجتمع المدني. نعم سأطعن بمَن آمن وأمّن لي، وأموّل المحكمة الدولية وأنسى مَن رعاني، فأتناسى ملف شهود الزور. المهم صورتي في الغرب لا في الشرق.
ها هو نجيب ميقاتي، خريج الجامعة الأميركية، رجل الأعمال الدولي، المعاصر للتطورات الاقتصادية العالمية، البارز في مؤتمر دافوس مستمعاً ومحاضراً، رئيساً لحكومة لبنان كمَن تجرّه عربة من مئة حصان ولا يراها إلا حنطوراً في زواريب السياسة اللبنانية الطائفية المقرفة.
لم يستوعب نجيب ميقاتي أنه يمشي في هذه الزواريب بدل أن يستفيد من الفراغ الهائل لشخصية مميزة تبرز للعامة متعطّشة لوجودها تنتظر ولادتها. لم يرَ في نفسه هذا المولود.
ارتأى «استمرارية الحكم» في شلل وانهيار الدولة. تقاعس عن إنشاء فريق تقني معه لإيجاد آليات التصحيح المالي ووضع الموازنة على خط لم نشهده منذ السبعينيات. على العكس له تبريراته، باستمرار، بابتسامة مقنّعة والضرب على الطاولة بيد يعتقدها قاسية ولكنها رخوة جداً.
«استمرارية الحكم» جعلته لا يرى ارتفاع الدين العام وعدم إغلاق هدر الكهرباء (السر الغامض منذ 25 سنة). ضاقت به سلسلة الرتب والرواتب وتكلّم على الشاشة كعصف زمهرير بأنه لا يرضخ للضغوطات. ربما يجب على الهيئات النقابية الاستعانة ببعض ممّن يشكلون عنده نقطة ضعف.
غاب عن نجيب ميقاتي وفريقه «غير الموجود» أنه كانت لديهم فرصة ذهبية لخلق أو فرض نمط جديد في ممارسة الحكم تبدأ بالتعاطي مع شمولية الموازنة وإقرارها في مواعيدها، إلى مواجهة الدين العام بزيادة الموارد من خلال نظام ضريبي عادل يشمل إعادة تقييم الأصول والمضاربات العقارية وتعديل نسب الضرائب حسب شرائح الأرباح والدخل، إلى تخفيض نفقات وهدر وسرقات كما في الكهرباء والمرفأ والمطار والتربية. إجراءات كهذه لا تعالج فقط بسلسلة الرتب والرواتب، بل تضع الموازنة على الخط الصحيح لأول مرة منذ سنوات وتخفض عجزها كما تعالج توازن الدين العام مع نمو الناتج وتحيي الدورة الاقتصادية المشلولة.
حصل نجيب ميقاتي على ما حصل عليه المرحوم رفيق الحريري في حينه وبهر الغرب بسياسة النأي بالنفس ودافع عنه المحور الآخر الذي أعاد ولادته. لكنه، وللأسف، لم يرَ هو في نفسه ما رآه الآخرون فيه. وتبيّن أنه محقّ. فهو يعاني بشدة من عقدتين لا يقدر على معالجتهما: عقدة سلفيه السنيورة ـــ الحريري، لذلك يتصرف وكأنه يصارع من أجل زعامة زواريب، غير مدرك أن شريحة كبيرة من كل الطوائف رأت فيه البديل عن طبقة سياسية أقرفتها. وهنا تلحق العقدة الثانية بالأولى إذ إنه لا يخفي إعجابه برموز قادة هذه الطبقة، محاولاً تقليدها بفشل مستمر، متناسياً أنه لن يكون واحداً منهم بل مُستغَلاً من قبلهم. فهو، كما حليفه في السدّة الأول،ى طارئان على الساحة الزعامتية، طامحان لزعامة يريدها أحدهما من خلال موقعه الرئاسي والآخر بالمال والصدفة، وكلاهما ببيع المواقف للداخل والخارج، متناسيين كلاهما أنهما في مركزهما فقط نتيجة تسويات داخلية ودولية، لا «لتاريخ نضالهما»، وأنهما مهما باعا من التزامات لن يكونا في مصاف الرموز السياسية التقليدية. عجيب هذا الإعجاب من قبلهما، وعجيب أن يدخل أحد ما في معادلة: خاسر ـــ خاسر، أو خاسر ـــ غير رابح. وغريب أن يضع أحد ما نفسه بين خسارة مَن دعمه وعدم ربح مَن يتودّد إليهم.
هل من المعقول أن يقول نجيب ميقاتي على الهواء بأنه لا يريد أن يكون مسؤولاً في عهده عن سكب آخر نقطة في كوب يطوف فيُحَمّل مسؤولية كل الماضي، بدل أن يظهر ليفتخر بأنه بدأ في عملية تنظيف كل أوساخ العشرين سنة المالية الماضية فيصنع إرثاً لنفسه لأجيال قادمة. فكيف يناقض بين سلوكه في عضوية مجلس أمناء الجامعة الأميركية أو في إدارة شركاته مع سلوكه في إدارة البلد؟ أليس البلد جديراً بالمعايير نفسها؟ وهل غاب عن باله أن عدم الوقوف على إشارة السير أو مخالفة قانون التدخين هي ثقافة قد تروج في أرقى الديموقراطيات إذا ما غابت هيبة رجل الأمن التي يستنبطها من هيبة السلطة التنفيذية أو لا يستنبطها بسبب أنانية هذه السلطة؟
أحسن أنواع الصديق والخصم هو الصادق، لا الذي يخالف العهد. لقد خالف نجيب ميقاتي عهد مَن دفع به إلى السلطة وخالف عهد عامة الناس الذين فرحوا بهذا الدفع. فطعن في ظهر الأول وخيّب آمال الآلاف ممّن رأوا فيه نموذجاً منقذاً. لم تعد تفيد الابتسامة العريضة خلف النظارات السميكة. لقد خاصم حلفاءه فخسرهم، وحالف أخصامه فلم يربحهم.
سيقول له البعض، رجاء ألا يهدد بالاستقالة، فلا زيارة حليفه أفريقيا ستثبّت أكثر مغتربي المئة سنة في أوطانهم البديلة، ولا استقالته ستهزّ الأسواق العالمية. هذا خياره، ولكن على الأقل ربما وجب منه الاعتذار لمَن آمنوا به بينما هو لم يؤمن بنفسه سوى أنه رجل الوقت الضائع وانتهاز الفرص. لذلك عليه أن يعتذر بدل المواربة مع حليفه للتمديد المتبادل في وطن ينهش منه الميت والحي، أو أن يعتذر من المواطن البائس التائه بين اليوم والغد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.