الأستاذ نصري الصايغ: تسييس المذاهب عقبة أمام قيام الدولة المدنية

مركز الفكر الإسلامي المعاصر ـ
حاورته: رحيل دندش:

منتم للفعل وليس للفكرة، “لا تهمني الأفكار والمعتقدات التي تسيّر الحركات والمجموعات، ما يهمني هو الوقائع والأفعال والحيثيات التي تقوم بها، وخصوصاً إذا كانت هذه الأفعال مرتبطة بقضايا هامة إنسانية أخلاقية وقيميّة، فالذي يجذبني هو دين الوقائع لا ما يعتقده الناس وعلماؤهم..”، “ما دامت قضيتك محقة، فأنا إلى جانبك، لا أسألك عن دينك ولا عن اسمك ولا هويتك ولا ثقافتك”.
إنه الكاتب والصحافي في جريدة “السفير” نصري الصايغ، الذي أجرينا معه هذا اللقاء حول مواضيع متنوعة تتعلق بمجريات الواقع العربي الراهن.

 

ما رأيك بالأداء الإعلامي حيال ما يجري في عالمنا العربي اليوم؟
لا أشاهد التلفاز، فزمن الإعلام قد انتهى وبدأ زمن الأدوات المُوظفة في اتجاهات طائفيّة وحزبية ضيقة جداً، حيث بات الجميع ينادي ويدعو من خلال وسيلته الإعلامية إلى حزبه أو دينه. لقد أصبحت الأداة الإعلامية تعمل جاهدة على نصرة فكرة أو قضية حزبية وطائفية ومذهبية لا تمت إلى الناس بصلة، فيما وظيفتها الأساس تتمثل في نقل المعلومات، إلا أنها توقفت عن إعطاء المعلومات ونقل المعرفة، وباتت تعطي أفكارها حول ما يمكن أن يعجبها من هذه المعلومات أو ما ترفضه منها، حتى إنها  أصبحت تنكر المعلومة إن شاءت، لذلك، اعتبر هذه المؤسسات الإعلامية مؤسسات طائفية.
إضافةً إلى ذلك، تم القبض على الإعلام من خلال الشركات الكبرى الَّتي هي أكبر من الدول، وخصوصاً بعد ثورة الاتصالات الهائلة. أما في الماضي، فكان يقبض على الإعلام الحكم الديكتاتوري أو تيارات ليبرالية.
اليوم، أصبح الإعلام مسيّراً وموجهاً وجزءاً من معارك الرأسمالية والمعارك الطائفية والمذهبية والنيوليبرالية، وأصبحت الحقيقة لا تؤخذ من مصادر الإعلام، إذ يجب بذل الجهد الكبير لأخذ معلومة صحيحة. من هنا، أصبح العالم الافتراضي المتمثل بالتلفزيون والعالم الإعلامي والشبكات العنكبوتية الطاغية، عالم الحقائق المزوّرة والسائدة في العالم، فيما عالم الحقائق والواقعية أصبح منسياً. وكنموذج أقدمه في هذا السياق، نرى أن من يشاهد التلفزيونات اللبنانية والعربية والعالمية، يفاجأ بالجمال والأمور الجميلة والديكور الجميل والآنسة الجميلة التي تتحدث عن الإنسان، علماً بأن في كل دقيقة يموت حوالى أربعة أطفال جوعاً في العالم، فهل يظهر ذلك على تلفزيونات العالم؟ إن هذه التلفزيونات وهذه الشاشات تقدم لنا 20% مما هو موجود في العالم وهو عالم الأثرياء، ويتحنّنون في بعض الأوقات بعرض تقارير عن المعذبين، وهذا كله إغفال للحقائق، لذلك أنا لا أهتم به.
من أين تستقي معلوماتك؟
عند كل معلومة أتلقاها أحكّم عقلي، وأتَّصل ببعض الأشخاص المحددين والموثوقين من هذا الطرف أو ذاك، حتى أكوّن صورةً تامة عن الموضوع، أما عدا ذلك، فلا أصدق ما يُعلن من معلومات.
الإعلام بالنسبة إليَّ شبيه بالطب، فالطبيب الذي يفحص المريض، من ثم يجري له التحليلات ويعطيه العلاج، لا بدَّ من أن يتيقَّن من صحة المعلومات التي توصَّل إليها، لأنَّ العلاج سيكون بناء على المعاينة، وسيترتب عليه الشفاء أو تفاقم المرض.
العلاقة إذاً قائمة على قاعدة الحقائق والمعلومات التي استقاها من التجربة والاختبار والعلم والتحاليل، بعيداً عن تزوير المرض وخصائصه.
في رأيي، السياسة أقدس من جسد الإنسان، لأنها تهتم بمجموعات بشريَّة كبيرة، فإذا كنت تعطيني معلومات خاطئة، سوف أتخذ قرارات خاطئة، وبالتالي، سيكون هناك مجموعة من التداعيات والتبعات المترتبة عليها. من هنا، أعتبر أنَّ هذا الإعلام هو إعلام مجرم!
لعب الإعلام بوسائطه المتعددة خلال الثورات العربية دوراً كبيراً في نجاح الثورات، فهل يرتقي إلى أن يكون هو نفسه صانع الحدث؟
من يملك الإعلام اليوم يملك أفدح أنواع الأسلحة، فعندما يتحوّل الإعلام إلى سلاح لبثّ وتصوير وقائع من وجهة نظر معينة، فإنه يستطيع أن يؤثر في الشعوب والسياسة وصنع القرارات.
لقد لعب الإعلام دوراً سياسياً بامتياز، وكان فاعلاً، وخصوصاً في إنجاح الثورات في تونس ومصر وليبيا، وفي تأجيج الثورة في سوريا، ولكنه في الوقت نفسه، لعب دور الأعمى في ثورة البحرين، ما يدل على أنَّ هذا الإعلام ليس إعلام الوقائع، إنما هو إعلام الغايات السياسيَّة، الذي يستفيد من بعض الوقائع لنصرتها، ويطمس أخرى لإضعافها.
قد يبرر البعض هذا العمل بذريعة أنَّ للإعلام وجهات نظر سياسية؟
لكن هذا لا يبرر توانيه عن نقل المعلومات. نعم، قد ينحاز إلى وجهة نظر سياسيّة، ولكن ممنوع عليه إبراز أحداث دون أخرى، وقد وقع الجميع في هذا الخطأ خلال الثورات العربيَّة من دون استثناء.. من هنا، أرى أنَّ الإعلام مُزوَّر ومُزوِّر، لا يكفي ألا يكذب، يكفي أن يتعامى عن موضوع ما حتى تنطبق عليه هذه المواصفات.
بعيداً عن الخلفيّات التي أسهمت في اندلاع الثورات العربيّة، هل يمكن القول إنَّ الثورات العربيَّة أحيت الشّعور القومي لدى الشّعوب العربيَّة، ما يمكن التعويل عليه في خدمة القضايا العربيَّة؟
القوميَّة قتلها القوميون، والعروبة قتلها العربيون لا الإسلاميون، ولكثرة ما أسيء إلى القومية والعروبة، جراء الاستبداد العربي، أصبح الناس بعيدين عنها.
من طبيعة الاستبداد أن يحصر الناس في مكان يفتشون فيه عن الخلاص منه وليس من أي شيء آخر، وأن يحوّل الناس إلى كتلة حاقدة ومناهضة له، وهذا ما نشاهده في الأحزاب القوميَّة والنضاليَّة والعروبيَّة التي تراجعت كلياً، ولم يبق أمام الناس إلا الملاجئ الدينيَّة الَّتي تحتضنهم في فرحهم وأحزانهم وضعفهم والظلم الذي يقع عليهم، فالدين هو المكان الطبيعي الذي يشكّل ملجأ من الاستبداد.
من هنا، جاءت الثورات، لا لتستعيد العروبة المفقودة بسبب الاستبداد، إنما لتستعيد الحياة الطبيعيَّة التي لا يمكن استعادتها إلا بإزالة الاستبداد، فكان طبيعياً أن تزيله، ومن ثم تذهب إلى البحث بالطرائق الديمقراطية عن مسالكها في السياسة الداخليَّة والخارجيَّة، فالمطلب الأساسي الأول هو الحريَّة، والمطلب الثاني هو الكرامة، إنها المطالب التي انحرموا منها على مدى عشرات السنين.
وهل وصلوا إلى تحقيق هذه المطالب؟
في البلاد الَّتي أزيل فيها الاستبداد نجحت الثورة، فما حصل في تونس ثورة حقيقية أزالت طغياناً واستبداداً، وفتحت المجال العام للحريَّة والحوار أمام الجماعات المتنوّعة، وهو أمر ديمقراطي، حيث يعبّر الجميع عن رأيهم، سواء الإخواني أو الليبرالي أو السلفي.
نعم، هناك صدامات ولكنَّه أمر طبيعي. أما الأهم، فزوال الطغيان والسجون، الأمر الذي يؤكد مقولة الانتصار الكبير على الاستبداد.
هل توافق على تسمية “الربيع العربي”؟
نعم، اسمه “الربيع العربي”، ومن لا يؤيده هو مع الاستبداد. بالطبع، هناك مخاض عسير، ولكن أهم ما فيه أنه مفتوح على الإنجاب الدائم، كالثورة الفرنسيَّة التي لا تزال إلى اليوم حيّة وتنجب.
لو أن هذه الثّورات لوحدها لأنجبت ما يطمح إليه الشَّعب، ولكن هناك من يركب موجة الثورات ويسيّرها وفق مصالحه؟
هذا ليس صحيحاً، فالأنظمة الَّتي ثار عليها الناس حتى سقطت، هي أنظمة محمية بكاملها من قبل الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة.
ليس المقصود أنهم صنعوا الثورات وأحدثوها، ولكنهم ركبوا موجتها.
لا يمكن لأحد أن يركب الموجة بدون موافقة الشعب وقبوله. في السابق، كانوا يركبون الدولة من خلال النظام والرئيس، أما الآن، إذا أرادت أمريكا أن تركب الموجة، فسيتم ذلك عن طريق الناس.
ولكن يمكن أن يكون الشَّعب مضللاً!
فليأخذني الشَّعب إلى حيث أراد، هو صاحب القرار وليس أنا، والشَّعب لا يضلّ فهو سيِّد خياراته.
عندما تتخلى عنه أدوات الضغط ويصبح حراً بنسبة ما، وقادراً على التفكير، فليذهب الشعب إلى حيث يشاء حتى لو كان عكس عقيدتي ومعتقدي وآرائي، فمن أنا حتى أقرر عن هؤلاء! التحكّم بمصير الشّعوب هو من طبيعة الاستبداد، يقول محمَّد الفيتوري: “يا أخي قد أصبح الشَّعب إلهاً”، وهذا ما يسمونه بالديمقراطية: “السّلطة للشَّعب”.
إذاً ما الحاجة هنا إلى المفكرين والمتنورين والمنظّرين؟
المجال مفتوح أمامهم بكل تأكيد، ففي تونس على سبيل المثال، هناك الليبرالي والإخواني والسلفي، كلهم متواجدون اليوم على الساحة التونسية، يختلفون ويتصارعون، وفيما بعد يلجأون إلى الاقتراع والإعلام  وإلى الفكر.
وفي النهاية، إذا تقرَّر إقامة دولة إسلاميّة بالديمقراطيّة، فأنا معها، ولكنَّني سوف أناضل ضدها في الداخل، وسأخوض معارك فكريَّة وثقافيَّة وإعلاميَّة على قاعدة تغيير ذلك بالديمقراطية.
ألا تخشى من الصّعود السلفي بعد هذه الثورات، فعلى الرغم من أنهم قلة، إلا أنَّ لهم التأثير الكبير على جميع المناحي، السياسية والاجتماعية وغيرها؟
في ظلِّ الاستبداد، كان كلّ هذا العالم مجهولاً، ولكن من هم هؤلاء السلفيون؟ إنهم من الشعب، كما أنَّ الليبراليين أيضاً من الشَّعب، فماذا فعل السلفيون إلى اليوم إزاء ما فعله الليبراليون والقوميون عندما استلموا السلطة؟! أنتم تحاكمون قوى لم تحكم بعد، وتبررون لقوى حاكمة.
هناك استبداد منذ 100 سنة وأكثر، ولا يمكن أن نحاكم السلفيين خلال 6 أشهر، فهل قُمع الناس؟ هل أُدخلوا إلى السجون؟
العالم العربي قد انفتح ليقول الكل فيه ما يشاء، وليفكر كيف يشاء، وليطمح إلى ما شاء، واليوم أمامنا صعوبات هائلة وعذابات قصوى، ولكنَّ الأمر الأساسي هو أنَّ الطَّريق أصبح مفتوحاً ولم يعد مقفلاً.
كيف تفسرون التخوّف الأمريكي من المدّ الإسلاميّ في سوريا؟
أميركا متخوّفة كثيراً من القاعدة، فهي خصمها الأساسي، وممن هم على كتف القاعدة، أي من السلفيين ولكن ليس كلهم، فهناك توجهات مختلفة داخل التيارات السلفية.
إنَّ الأمريكيين عمليون، يتعاملون مع الوقائع ولديهم مصالح يبحثون عن تحقيقها بواسطة القوى الموجودة. بمعنى آخر، لا تخطط أمريكا لتحدث أمراً ما، وإنما تأخذ بعين الاعتبار ما يحدث وتضع خططاً جديدة بناءً عليه، فالسّياسة ليست علم المبادئ، ولكنَّها علم التّعامل مع الواقع.
بعد الثورات العربيَّة، حصل أول عدوان إسرائيلي على غزة، فما رأيكم بالموقف العربي منه؟
أولاً، هم لا يرتبطون ببعضهم البعض بمعنى السبب والنتيجة، يضاف إلى ذلك أنَّ المنطقة اليوم تعيش حالةً من التغيّر والتبدل تجعل من المشهد السياسي في غزة وفي إسرائيل مختلفاً عما كان عليه في السابق، وهذا ما يدل على فشل ضرب غزة؛ الفشل الذريع منذ البداية، والتعويل على نتائج كبيرة غير ممكنة.
وفي هذا السياق، يمكن قراءة إيران ومصر، فمصر ما زالت تتصرَّف على قاعدة أنها دولة أجنبيَّة، وأنها تستطيع أن تقوم بدور سياسي وخدماتي إنساني ليس إلا، فيما المطلوب منها أن تقوم بدور أهم من ذلك، لأنَّ لديها أوراقاً يمكن أن تلعب بها على مستوى العلاقة بينها وبين إسرائيل، وبينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، كما أنَّ الدول العربيَّة قادرة على شنّ ثورة، والقول للولايات المتحدة الأمريكية بأنَّ لا مشكلة لدينا معكم، ولكن مشكلتنا هي إسرائيل.
لماذا لا يتحرك العرب ويلعبون بهذه الأوراق؟
لأنَّ هذه السلطات التي نشأت بعد الثورة ليست سلطات متينة بحكم الواقع، بل هي سلطات هشّة ما زالت تبني نفسها بنفسها، هي تختلف عن ثورة إيران الَّتي نشأت كثورة كاملة قامت على مستوى شعب أمامه قائد يحمل عقيدة، فأطاحت بالنّظام وجاءت بنظام آخر هو نظام ولاية الفقيه؛ النظام الحالي، فهذا النظام استطاع أن يكرّس ثوابته منذ البداية، وطرد من ليس مع هذه الثوابت. أما هذه الثورات، فقامت فقط من أجل مواجهة الاستبداد، بعد أن كان قائدها هو المستبد الذي ولّد هذه الثورات، إنها ثورة شعب توحد لإسقاط النظام، لكنه ليس واحداً بكل توجهاته، فهو ليس موحداً في الديمقراطية والعلاقات الخارجية التي تأتي فيما بعد..
بالنسبة إلى إسرائيل، فإنها تدرك أنَّ الصواريخ التي سقطت جاءت إلى غزة من إيران، ما يدل على أنَّ إيران أصبحت على مقربة من إسرائيل أكثر مما كانت عليه في السابق.
هل ما زال هناك إجماع عربي على القضية الفلسطينية؟
لا يوجد إجماع على شيء في هذا العالم، وغير هذا الكلام هو كلام إعلامي يُلقى على التلفزيونات، ولكن المطلوب أن تبقى هذه القضية حيّة ويبقى هناك من يخدمها..
هناك محاولات حثيثة من بعض الأطراف لخلق عدو جديد غير العدو الإسرائيلي، ما رأيكم بذلك؟
كما ذكرت سابقاً، لا يوجد إجماع على شيء في العالم، وكون المقاومة في لبنان شيعيَّة، لم يأت رد الفعل عليها بالسياسة، وإنما بالطائفة، وهذا عمل أمريكي في الدرجة الأولى خدمته دول الخليج. زيادة على ذلك، هناك حركات تشيع سخيفة في المنطقة، تقوم بها بعض المرجعيات في النجف وقم، وهي ليست جزءاً من السلطة، ما أثار بعض ردود الفعل، بينما في المجتمع المدني، حيث لا توجد طوائف، فهذه الأمور كلها لا معنى لها.
هل من إمكانيَّة لتأسيس دولة مدنيَّة في دولنا العربيَّة؟
لا يمكن ذلك، لأننا لسنا مدنيين، والمذاهب مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالسياسة.. عندما تخرج المذاهب من السياسة، يمكننا أن نتحدث عن دولة مدنيّة، أما عند البقاء في السياسة، فلا حديث إلا عن قبائل وطوائف ومذاهب، كما أنَّ هناك مشاريع في المنطقة نحن من يقدم لها المواد الأوليَّة.

 

التعليقات مغلقة.