وارتعشت يد الجمهورية.. الاحتجاجات الفرنسية بين ترهل الدولة والانقسام السياسي!

صحيفة الوطن السورية-

فراس عزيز ديب:

«كل السيناريوهات مطروحة بما فيها إمكانية فرض حظر للتجول في المناطق الأكثر عنفاً»، عبارة حظر التجول لأسبابٍ أمنية لم يسمعها الفرنسيون منذ زمنٍ طويل، لكنَّ هذهِ العبارة قد تسمعها هذه الأيام من أي مسؤولٍ فرنسي، بما فيهم أعضاء المجالس البلدية للمدن التي زحفَت إليها الاحتجاجات وجولات العنف والنهب والسرقة بعدَ مقتل مراهقٍ على يدِ شرطي في مدينة «نانتير» وهي عادةً ما تكون بعيدة كل البعد عن فوضى كهذه.

وسط فرنسا هو الأنموذج الأكثر وضوحاً الذي يشرح لنا بما لا يدع مجالاً للشك بأن الاحتجاجات هذهِ المرة ليست كما كل مرة، محافظة كـ«آندر أي لوار» التي خسرَ على أطرافها العرب معركة «بواتييه» بالقرب من مدينةِ «تور» والتي كانت في السابق ملكاً للنبلاء وتضم عشرات القصور التاريخية التي تُعتبر عاملاً للجذب السياحي من كل دول العالم وتضم في ريفها المترامي، أحد أكبر المفاعلات النووية المخصص لإنتاج الطاقة الكهربائية، هي محافظة عادةً ما تكون هادئة في مثلِ أحداث كهذه، اليوم لم يعُد الأمر كذلك، ليسَ لأن من هم من جذورٍ عربية قرروا الثأرَ لأسلافهم، لأن ربط الاحتجاجات بمن يحملون جذوراً عربية هو ابتعاد عن الواقع يكررهُ من يجهل تماماً تركيبة المناطق التي انطلقت منها الاحتجاجات والمشاركين بها، قطع الطرقات باتَ يفرض شبهَ حظر تجول مسائي، حرق السيارات لم تسلم منه حتى حافلات السياح، أما عمليات النهب والسرقة للمراكز التجارية فهي في تصاعدٍ، واللافت في الأمر أن عمليات السرقة تلك لا تقتصر على المراهقين أو العاطلين عن العمل بل يشارك فيها حتى الأمهات والآباء، لدرجةٍ تجعلكَ تتساءل وأنتَ ترى ما تراه: إذن كيف هو الحال في المدن الأكثر اشتعالاً؟

لكن كل هذا الندب اليوم لم يعد مجدياً، فالبحث عن جذورِ المشكلة سيكون بمثابةِ الكابوس الأكبر لكل من يتعاطى اليوم مع هذهِ الأحداث بشيءٍ من التبسيط لأنه يتجاهل مسلمتين أساسيتين:

أولاً: الإسقاط السياسي للحدث

لو عدنا لبدايةِ الأحداث في سورية، وبعيداً عن كل التفاصيل دعونا نسأل: أينَ هي نقطة الضعف الأهم التي ضغطت على القيادة السورية؟ الجواب هنا بسيط، أن أحداً لم يثق بما كانت تقوله السلطات الرسمية عن وجودِ إرهابيين ومتطرفين ولصوص لديهم كل المصلحة بحدوث الفوضى بما فيهم بعض الأصدقاء، لم يقف الأمر عندَ هذا الحد بل أن أكثر من عتاة المعارضة بما فيهم من كانوا يحملون أفكاراً يسارية محترمة خرجوا لينادوا «تكبير»، أما قتل رجال الجيش والشرطة فإن المعارضة بررته بدافع الثأر، حتى وصلنا إلى اللحظة التي يسمي فيها الإعلام الفرنسي شخصاً ارتكبَ مجزرة «باتاكلان» في باريس بـ«الإرهابي» فيما يسمي التنظيم الذي خرجَ منه هذا الإرهابي، وهي جبهة النصرة في إدلب بـ«المعارضة المسلحة»! هكذا يحدث ببساطة عندما يكون هناك من يبرر للقاتل، للمجرم، للإرهابي، وهذا السيناريو اليوم أو لنقل هذا الانقسام هو ما تشهده الحالة السياسية الفرنسية، فكيف ذلك؟

لو أردنا تعريف العنصرية لقلنا إن التعريف الأكاديمي لها والاعتقاد بأن مجموعة معينة هم أرفع مستوى من مجموعاتٍ أخرى، ما يعني أن التعبير عن العنصرية بشكل علني قد يظهر على شكلِ افتراء أو جرائم كراهية يمكن لها أن تكون متجذِّرة أكثر في المواقف والقيم والمعتقدات النمطية.

انطلاقاً من هذا التعريف قد لا نستطيع أبداً تبرئةَ أي مجتمعٍ بعينه من تهمة وجود من يحملون الأفكار العنصرية، غربية كانت أو بما فيها تلك المجتمعات التي تدَّعي بأنها ضحية للعنصرية فيما تجد في نفسها بأنها «الفرقة الناجية» أو «شعب اللـه المختار»، أو حتى الشعوب التي سيخصها اللـه بالرحمة، كل هذا أكاديمياً يندرج في إطار العنصرية.

لكن لنعترف بأن التعاريف الأكاديمية شيء والممارسة على الواقع شيء آخر مختلف تماماً، فلا يمكن لنا تحت أي ذريعة محاسبةَ مجتمعٍ على خطأ ارتكبهُ فرد، هل يمكننا وصفَ السوريين بأكلةِ الأكباد لأن هناك إرهابياً أو «معارضاً مسلحاً» كما يسميه من يشتكون من الإرهاب اليوم، أكلَ كبدَ مقاتلٍ سوري؟! هذهِ المقاربة اليوم هي التي تشكل أساس الانقسام السياسي في فرنسا بالتعاطي مع هذا الحدث المتمثل بمقتلِ مراهق على يد شرطي بدمٍ بارد، فالطرف الأول يرى بأن الشرطي أخطأَ لكن الخطأ لم يكن أساسهُ أن المراهق من أصولٍ غير فرنسية، كما أن هناك من يتعمد تجاهلَ أمرٍ مهم حسب بيان الشرطة بأن الشاب كانَ يقود سيارة مسروقة بسرعةٍ جنونية ورفضَ الانصياع لمطالب الشرطة بالتوقف، أي إن الحدث برمتهِ قابل للحدوث في أي دولةٍ من دول العالم، لكن وحسب المدافعين عن وجهةِ النظر تلك هناك من يمتلك الكثير من المصلحة لرفعِ حالة التوتر لا أكثر فكيف يمكن لنا أن نصف المجتمع الذي تقبل كل أولئكَ المهاجرين بالعنصري؟!

أما الطرف الثاني فيرى بأن الشرطي أخطأ، لكن هذا الخطأ بالأساس تتحمل مسؤوليته الحكومات المتعاقبة التي فشلت بالتعاطي مع تجمعاتِ المهاجرين ومحاولة نقلها واندماجها بالمجتمعات الفرنسية، اللافت أن وجهة النظر تلك تمثلها المعارضة السياسية بأغلبية كتلها بما فيهم اليسار الفرنسي، ربما قد تكون وجهة النظر تلك محقة في بعض التفاصيل بما فيها الوظائف الحكومية الرفيعة وما يعانيهِ القادمون من أصولٍ غير فرنسية للحصولِ عليها رغمَ أحقيتهم العلمية والعملية بها، لكن بالوقت ذاته تبدو وجهة النظر تلك هي للابتزاز السياسي وتسجيل النقاط لا أكثر في إطار الصراع السياسي المحتدم بعدَ إعادة انتخاب إيمانويل ماكرون رئيساً لفترةٍ جديدة، لأنها ببساطة ربطت المشكلة بالاندماج ونسيت أن أغلبية المحتجين هم من الذين وُلدوا في فرنسا وهم ليسوا بحاجةٍ لاندماجٍ أكثر من ذلك، ثمَّ إن الواقعية تفرض علينا النظر للطرف الآخر من المشكلة وهم المنحدرون من أصولٍ غير فرنسية ويعيشون حياتهم بشكلٍ طبيعي من ناحية الاندماج بما يضمن التمسك بالعادات والتقاليد، هل كل من قبل الاندماج يقبل الشذوذ الجنسي مثلاً؟ لا، لا أحد يستطيع إجباره على ذلك لدرجةِ أن معظم هؤلاء يرفضون ما يجري من نهبٍ وتكسير، إذن كيفَ نجحت الحكومات هنا وفشلت هناك؟

ثانياً: يد الدولة لن ترتعش!

هذهِ العبارة قالها يوماً نهايةَ العام 2018 سكرتير الدولة لشؤون البيئة الفرنسي سباستيان لاكورنو تعقيباً على احتجاجاتٍ قامت بها مجموعات مدافعة عن البيئة، مؤكداً قوة الدولة في قمع أي حالات مخلة بالأمن، يومها قلنا للسيد لاكورنو في مقال بعنوان: «عندما ترتعش يد الدولة: فرنسا حرة حرة.. ماكرون اطلع برا» بأن هناك من ينتظر ارتعاش يد الدولة تحديداً عندما يسقط أول قتيلٍ على يد قوات الأمن والشرطة وهو ما حدثَ حرفياً، المشكلة بأن الدولة الفرنسية خارج سياق فرض حالة الطوارئ تبدو مكبلة حد الترهل، مكبلة بالمنظمات الحقوقية، القوانين الأوروبية، هناك من المعارضة مثلاً من بدأ يُتاجر ويشتكي حتى من أن عدد المعتقلين الكبير يعني عدم حصول المعتقل على حقه بالتالي يجب إطلاق سراحهم، علماً أن بينهم متورطين بعملياتِ نهب وسرقة، فهل يكون فرض حالة الطوارئ هو الخلاص لإطلاق يد الدولة من جديد قبل أن يعم الخراب؟ أم أن هناك من يريد تعمد الإمعان في ترهل الدولة؟

مما لاشك فيه بأن هذه الأحداث لن تتطور لتصبح ثورة عارمة تُطيح بالجمهورية الخامسة، هي ليست احتجاجات على مسار السترات الصفراء أو الاحتجاج على إصلاح قانون التقاعد التي وحَّدت الجميع، السبب في ذلك برأيي هو جذر المشكلة والسلوك الذي تبناهُ المحتجون، هناكَ من يتهم المحتجين بانتقاء السيارات التي تم حرقها بعناية، حيث تكون مملوكة لمواطن فرنسي لا ذنب له إلا أن هذا البلد بلده وبلد أجداده، لكن بالسياق ذاته قد تبدأ بالظهور مجموعات ترى بأن ما يحدث من إقفال وسرقة ونهب وتعطيل لمشاغل الناس لا يمكن له أن يستمر فهل سنجد إمكانية لحدوث صدام في الشارع؟ كل شيء وارد لكن الأكثر إيلاماً الآن أن نقرأَ خبراً عاجلاً عن مقتل عدد من المحتجين؟ هل هناك من صاحبِ مصلحة بإشعال البلد أكثر قبل عامٍ على انطلاق دورة الألعاب الأولمبية باريس 2024؟ بالطبع كثر تحديداً أن فرنسا بسياساتها المتعاقبة لم تترك لها صديقاً والأهم أن هناكَ حكمة تقول: قد يأتيك العدو بهيئةٍ لم تتوقعها!

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.