أميركا تخسر معركة آسيا الكبرى

صحيفة الوفاق الإيرانية-

حسن عبدو:

الهزيمة الأميركية في أفغانستان وآسيا الوسطى هي حدث تاريخي ومفصلي نادر. لقد خسرت الولايات المتحدة الأميركية، ولم تنجح، ومن ورائها الدول الغربية.

أوصى زبغنيو بريجنيسكي، المفكر الاستراتيجي وخبير الجيوبوليتيكا ومستشار الأمن القومي الأميركي في عهد كارتر، والمعروف برؤيته الثاقبة وهدوئه العلمي، بوجوب السّيطرة الأميركية على القارة الأوراسية والشّرق الأوسط، كضرورة لديمومة السيطرة الأميركية على العالم، وضمانةٍ لاستمرار الأحادية القطبية الأميركية في قيادة العالم.

وفي كتابه “واجب أميركا السيطرة على العالم”، يؤكد بريجينسكي “أنَّ منطقة وسط آسيا والشرق الأوسط هما مسرح التنافس والصراع الدولي القادم”. وحتى تنتصر أميركا في هذا الصّراع، بحسب رأيه، عليها أن “تضع العقبات والصعوبات على طريق العلاقات الصينية الإيرانية الروسية”، كما يؤكد ضرورة فك عزلة إقليم وسط آسيا بعيداً عن إيران، وخصوصاً الدول الثلاث في وسط آسيا، وهي أوزباكستان وطاجيكستان وكازاخستان، والَّتي تملك مقدّرات اقتصادية هائلة، وترغب في منفذ بحري ينهي عزلتها عن طريق البرّ الإيراني، بينما تفضّل أميركا الطريق الجنوبي عبر أفغانستان إلى ميناء جوادار الباكستاني على المحيط الهندي.

وفي هذا المنحى، يلتقي بريجنسكي مع صموئيل هنتغتون في كتابه “صدام الحضارات” الَّذي أوصى بمنع التحالف الصيني الإيراني أو ما يسميه تحالف الكنفوشيوسية والإسلامية ضد الحضارة الغربية، لما يشكله ذلك من خطر على هيمنة الحضارة الغربية.

كما يتوافق كلّ من المفكر وأستاذ النزاعات الدولية مايكل كلير وأستاذ التاريخ وليم هملتون على “أن نقطة الارتكاز المركزية للتنافس الدولي هي منطقة وسط آسيا والشرق الأوسط”. هذه هي الأفكار المؤسسة للجيوبوليتيكا الأميركية في نظرتها إلى المنطقة والعالم، والتي شكلت الرؤية الاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية ودورها لضمان سيادتها الكونية.

واعتمدت أميركا سياسة تدخّلية تسمح بالتدخل العسكري في دول وسط آسيا والشرق الأوسط بذرائع مختلفة، أهمها ذريعة “الإرهاب الإسلامي” المخترع، وقامت بغزو أفغانستان، ليس من أجل بناء دولة حديثة فيها، قائمة على الحق والقانون، كما كانت تقول الدعاية الأميركية إبان الغزو، إنما من أجل السيطرة على وسط آسيا والهيمنة الكاملة على القارة الأوراسية.

كما احتلَّت العراق عسكرياً بذريعة أسلحة الدمار الشامل المخترعة، للسيطرة الكاملة على شرق المتوسط وإسقاط نظام الثورة الإسلامية في إيران، وساعدت على إضعاف الدولة العربية وتفكيكها وإعادتها إلى عصر ما قبل الدولة، من خلال عسكرة النزاعات المحلية وتدويلها في ما سُمي بـ”الربيع العربي”.

الهزيمة الأميركية في أفغانستان وآسيا الوسطى هي حدث تاريخي ومفصلي نادر. لقد خسرت الولايات المتحدة الأميركية، ولم تنجح، ومن ورائها الدول الغربية، في إحدى أكبر المعارك الجيوسياسية لهذا القرن؛ معركة ربط آسيا الوسطى بالعالم الخارجي، وبالتالي فشل مشروع الهيمنة والسيطرة على قارة آسيا الكبرى.

وما نراه اليوم من تراجع وهزيمة تاريخية مرّة على كلّ الجبهات، سواء في أفغانستان أو في العراق أو في سوريا، وكذلك أمام إيران في مشروعها النووي أو الصاروخي أو الإقليمي، يؤكد قرب انتهاء المشروع الأميركي للسيادة العالمية.

لقد أصبح التراجع والانكفاء الأميركي الظاهرة الأكثر وضوحاً في المنطقة والعالم، وتداعياته تتسارع مؤذنة بنظام عالمي جديد أكثر عدالة، وتكون للفواعل الآسيوية الكلمة الأولى فيه.

وعبَّرت أنجيلا ميركل عن هذا الانكسار المهين والتاريخي بقولها: “إنَّ الانسحاب المذلّ من أفغانستان يعدّ أكبر كارثة للحلف الأطلسي منذ تأسيسه”، ووصفته بـ”التحوّل التاريخي”. وقالت المستشارة الألمانية لزعماء حزبها “إن الانسحاب الغربي من أفغانستان سيكون له تأثير الدومينو”، وحمّلت الولايات المتحدة الأميركية مسؤولية هذه الهزيمة.

أما ديفيد هيرست، فقد كتب في 18 آب/أغسطس 2021 عن نتائج وتداعيات الهزيمة والهروب الأميركي المذل، قائلاً: “إنها تؤذن بنهاية الإمبراطورية الغربية كنظام عالمي عسكري واقتصادي مهيمن”، وأضاف: “ليس من المبالغة القول إنَّ الهزيمة في أفغانستان تتجاوز في نتائجها حدود هذا البلد المنهك، وإن الغرب ما زال يعيش حالة إنكار”.

ويقول الكاتب البريطاني بيتر أوبورن في مقال له في موقع “مديل إيست آي”: “إنَّ ما حدث في أفغانستان لا يعتبر إذلالاً للولايات المتحدة فقط، وإنما يعدّ أيضاً نقطة تحوّل في تاريخ العالم ومستقبل الإمبراطورية الأميركية كقوة عالمية، وما جرى سيفزع حلفاء أميركا ويريح خصومها”.

لم تنجح الولايات المتّحدة الأميركية في السيطرة والهيمنة على وسط آسيا وما لديها من مقدرات هائلة تعادل خليجاً جديداً من النفط والغاز، كمقدمة للسيطرة على القارة الأوراسية، وفشلت في فك عزلة إقليم وسط آسيا بوصفه إقليماً حبيساً جغرافياً عن طريق أفغانستان وباكستان، وصولاً إلى المحيط الهندي، بعيداً عن إيران، كما أن العراقيل والمعوقات التي طالب بريجنيسكي بوضعها في طريق العلاقات الصينية الروسية والإيرانية تجاوزتها الاتفاقيات الاستراتيجية بين الفواعل الثلاثة. لقد انتهى كل شيء، على عكس ما أوصى زبغنيو بريجنيسكي.

الاتفاقية الصينية الإيرانية الاستراتيجية تؤسّس لشراكة اقتصادية عميقة بينهما، وربما تحالف – إن لزم الأمر – في وجه المركزية الاستعمارية الغربية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية، على عكس ما أوصى به صموئيل هنتغتون في كتابه “صدام الحضارات”.

لقد حذَّر هنري كيسنجر قبل عقد من الزمن من الانزياحات المالية العالمية نحو جنوب شرق آسيا والصين، الّتي أصبحت على وشك أن تتحوَّل إلى مركز الثقل الأول عالمياً مالياً واقتصادياً، في ظل تردٍّ اقتصادي أميركي، وتوترات اجتماعية، واستقطابات سياسية داخلية حادّة ممتدّة. يقابل ذلك نهوض واضح وثابت للفواعل الآسيوية، رغم التضييق والعقوبات الأميركية على الصين وإيران وروسيا والهند. هذا الأمر يؤسّس عملياً لعملية تحول تاريخي نادر في النظام العالمي وانتقال إلى مركز ثقله من الغرب إلى الشرق.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.