إنّها الأيديولوجيا قبل السلاح

موقع الخنادق-

د. احمد الشامي:

منذ انطلاقة حزب الله، والسمة البارزة والوحيدة التي يَعمل خصومه على تكريسها، بأنّه تنظيم سياسيّ يتوسّل العنف لتحقيق أهدافه، فدائماً ما يحرصون على التلازم بين ذكره والسلاح، مع تركيز أكثر على الأخير للنيل منه – عنوةً أو احتواء- وبذلك يفقد الحزب بنظرهم مسوّغات استمرارية وجوده.

يجمع المحب والمبغض، على أنّ هذا الحزب الأربعيني من العمر، والذي نشأ في الأطراف، قد صار واحداً من أكثر الأحزاب اللبنانيّة تنظيماً وحضوراً وفاعليّة، ورقماً مهماً في معادلة المنطقة، نظراً لما أحدثه من انعطافة تاريخيّة في حركة الصراع مع العدو الإسرائيلي، وإلى كثافة ونوعيّة ما يحقّقه في ميادين شتى.

لكنّ ارتقاء تجربته إلى مستوى النموذجيّة في حركات المقاومة، لم تعد مقنعةً بأسبابها إلى ما يتوافر له من قدرات مادية على الرغم من أهميتها، فقد سبق أن توافرت هذه القدرات – وأكثر منها- لدول وحركات مقاومة، ومع ذلك، لم يشهد الصراع العربي الإسرائيلي هذا الشكل من الانعطافات الكبرى.

تلك الحقيقة جاءت على لسان قادة العدو، منها، ما قاله رئيس وزراءه الأسبق إسحاق شامير: ما الذي حدث؟ كيف تجري الأمور على هذا النحو؟ بضع مئات من مقاتلي حزب الله يجبرون الدولة الأقوى في الشرق الأوسط على الظهور بهذا الشكل الانهزامي. ثمّ يكمل، لقد أثبتنا للعرب دوماً أنّه يجدر بهم ألّا يحاولوا إرغامنا على تقديم تنازل لهم بالقوّة، لأنّهم في النهاية هم الطرف الذي سيقدّم تنازلاً، لكنّ حزب الله أثبت أنّ هناك عرباً من نوع آخر.

وهنا، يصير بداهة السؤال عن ماهيّة حزب الله، فهل تكمن في قواه العسكرية، أم أنّها تكمن في جانب آخر بوصفها جوهره وحقيقة مشروعه؟

يكشف العقل الغربيّ بوجهه الرأسماليّ عن استراتيجيّة تتجذر في وعي إنسانه – من القيادة حتى القاعدة – والتي تقوم على أنّ الغلبة في الاقتصاد والأمن والسياسة، هي أساس في حركة الاجتماع البشري، فالحياة للأقوياء، ولهم الحقّ في استخدام شتّى الوسائل لتحقيق غاياتهم، وما الأيديولوجيا إلّا إحداها، فهي على تنوّعها واختلاف عناصرها بدل أن تكون مجالاً لاتساع دائرة الوعي، تصير وفق هذه الاستراتيجيّة أداة غزو للعقول وتثبيت ما أنجزته القدرات العسكرية من غلبة، عبر إدامة مطواعيّة الشعوب وتبعيّتها.
تحضر إحدى الدلالات على هذه الاستراتيجية، وما أكثرها، قول لضابط كبير في الاستعمار الفرنسيّ عام 1846: إنّ أساس ما نفعله هو في جعل الشعوب المُستعمَرة قابلة للسيطرة، بالقبض على عقولهم بعدما قبضنا على أجسادهم، وقد تمّ ذلك بنجاح، فأهل الشرق الذين أُخِذوا بسطوة الغرب – الاقتصاديّة والعسكريّة- يجلسون إلى الغربيّ ويتعلّمون منه الأفكار.

بينما بالمقابل، فإنّ استراتيجيّة الإسلام – الأصيل وليس المحرّف- تعمل على التمهيد لزمن تسود فيه العدالة الاجتماعيّة بين البشر كافّة، والذي لا يتحقّق إلّا ببناء الإنسان السويّ المتحرّر من شرّ ذاته والمتسلّح بمنظومة قيميّة تعبر به بسلام نحو الآخر، بعيداً عن منطق الغلبة والقهر والاستعباد، وما الاقتدار العسكري والمادي سوى وسيلة للدفاع عن الوجود ومحاصرة النزعة الفوقيّة بوصفها تناقض الفطرة الإنسانية.

وفيما يبدو التناقض جلياً بين الاستراتيجيّتين، لكنه يتيح في آن، اتضاح المشهد لحركة الصراع والمواجهة المحتدمة بينهما، فصحيح أنّهما يلتقيان على أهميّة الثقافة في حركة الانتظام الاجتماعي، لكن شتّان بين ثقافة هزيلة تستظل بالغلبة العسكريّة والاقتصاديّة لإدامة الهيمنة والمطواعية، وبين ثقافة غنية حين تستعين بالقدرات المادية إنّما لتحقق مطلب تحرير الإرادة الإنسانيّة في حسن الاختيار.

يسهم هذا الوضوح في كشف الخلفية التي تحكم عقليّة خصوم حزب الله في تقديرهم لموقفه، إذ أنهم مع كلّ انتصار يحقّقه في ميادين المواجهة التي تفرض عليه، نراهم يسارعون إلى إطلاق النفير والتحذير بأنّه سوف يحكم قبضته على لبنان، ولمّا لم يفعل، راحوا يوهمون الرأي العام أنّه المتحكم الخفيّ بالبلاد والعباد.

لا يعدو هذا التقدير الخاطئ لموقف حزب الله بسبب جهل بأيديولوجيته الحاكمة لسلوكياته، وإنّما عن سابق علم ومعرفة بأنّها تتناقض مع أيديولوجيتهم، وتفضح زيفها، فحقيقة خصومه بدا توحّشها جلياً في أكثر من مشهديّة: في تماهيهم مع الجماعات التكفيرية المعادية بثقافتها للإنسانيّة، وفي تطبيعهم مع العدو الإسرائيلي ومحاولة التعمية على حقيقته الهمجيّة، في وقوفهم إلى جانب الحرب العبثية والظالمة ضد الشعب اليمني المظلوم، وليس آخرها الحصار الاقتصادي على الشعب اللبناني لتجويعه وتركيعه.

في الحقيقة، إنّ التفسير العقلاني لهذه الهجمة الشرسة ضد حزب الله وبيئته الاجتماعية، هي بدوافعها الأساسية ثقافية، وما التصويب على السلاح إلّا لأنه يحول دون القضاء على هذه الثقافة التي انطلقت من جديد بعد عقود طويلة من زمن الغلبة العسكرية والاقتصادية التي كان لها الدور الأساس في إعاقة دور هذه الثقافة من تأدية دورها في الحياة، وكربلاء أوضح شاهد.

لذلك، وبعدما يئسوا من معزوفة السلاح نراهم اليوم، يصوبون نحو شيطنة الحزب والتوهين من أيديولوجيته ومنظومته القيمية، فهو حامي الفساد، ومروج المخدرات، وسبب مآسي اللبنانيين، وعدو العرب، إنها محاولة لاستعادة استراتيجية جرى تطبيقها في الزمن الرديء، حيث صار وسم الإمام علي ابن أبي طالب(ع) بالكافر وسبّه واجب ديني، كمقدمة لقتله والخلاص منه.

إنّ حزب الله وهو يتمسك بسلاحه يتطلّع إلى اليوم الذي تلجم فيه سطّوة السلاح والاقتصاد، ليسود النقاش بين الأيديولوجيّات على اختلافها مناخ من الحريّة والمساواة، وهنا بالنسبة إليه، يحلو النزال، إيماناً منه بأنّ هذا الميدان هو المجال الأوحد للبشريّة حيث ستنجلي الحقيقة بالرسالة الحقّة التي هي قبلة العقل البشريّ منذ البداية وإلى الأزل.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.