الاقتصاد اللبنانيّ بين الواقع المرير وحلم الإنقاذ مؤتمر اقتصاديّ تأسيسيّ بلهجة لبنانية…

جريدة البناء اللبنانيّة-

د. أحمد الزين:

«من الخطأ ما يرتكبه كثير من الاقتصاديين الذين يدرسون اقتصاد البلاد المختلفة وينقلون إليها المناهج الأوروبية للتنمية دون أن يأخذوا بعين الاعتبار درجة إمكان تفاعل شعوب تلك البلاد مع هذه المناهج ومدى قدرة هذه المناهج المنقولة على الالتحام مع الأمة»… من كتاب «اقتصادنا» للسيد محمد باقر الصدر.

بعيداً عمّا نعيشه اليوم من ظروف صعبة… بعيداً عن الغلاء الفاحش والارتفاع الجنونيّ في سعر الدولار… بعيداً عن الترهّل في المؤسّسات العامّة والخاصّة، بعيداً عن جشع التّجار، والاحتكار، بعيداً عن الصفوف الطّويلة أمام محطّات الوقود… بعيداً عن كلّ مظاهر الانهيار الّتي نشهدها، ونشاهدها بأم العين، وحرقة القلب… بعيداً عن الشعب الغارق في سبات عميق، بعيداً عن كلّ ذلك، ورغم كلّ ذلك يبقى لبنان ذاك الوطن الجميل الّذي يستحقّ الحياة، ونبقى نحن أولئك الناس الّذين صمدوا فيه منذ الحرب الأهليّة إلى الآن رغم النّكسات وخيبات الأمل، لذلك فإنّ لبنان وشعبه يستحقّان وقفة وفرصة للدّعم والثبات، فالأرض غالية ونحن ليس لنا عن هذا الوطن من بديل.

واقع الحال أنّ هذا الوطن الصّغير لم يعش، منذ نشأته، فترات استقرار طويلة… إلاّ أنّ ما شهده من انهيارات اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة في السنتين الأخيرتين لم يكن له من مثيل حتى في أسوأ أيام الحرب الأهلية… لقد كان خبراء اقتصاديّون كثر يتوقعون وصول لبنان إلى الحالة التي هو عليها اليوم، ولم يبدأ البحث عن حلول إلا بعد أن شهد هذا البلد الجميل في طبيعته وتعدّد طوائفه انهياراً أوصل نسبة العاطلين عن العمل إلى ما يزيد عن 50% ونسبة الفقر إلى أكثر من 70% من مجموع الشعب اللبناني.

مما لا شك فيه أنّ جذور الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية تعود إلى تاريخ طويل من المحاولات الفاشلة لإثبات مصداقية السياسات الاقتصادية، وأنّ إخفاقات الدولة تعود إلى عوامل سياسية أساسية في الاقتصاد وضعف مؤسّسي كبير.

وحول مسبّبات هذا الانهيار الكبير لا بدّ لنا أن نتوقّف عند ستة عوامل أساسية هي:

أولاً: ارتفاع نسبة الفوائد في العقود الماضية إلى ما يزيد عن الأربعين في المئة وهذه النّسبة هي الأعلى عالميّاً… في الغالب، يقوم البنك المركزي برفع أسعار الفائدة عندما يُتوقع أن يرتفع التضخم فوق مستوى التضخم المستهدف، ومن أسوأ تداعيات الفائدة المرتفعة الارتفاع في تكلفة الاقتراض، والتقليل من الدخل المتاح، وبالتالي الحدّ من نمو الإنفاق الاستهلاكي.. تميل أسعار الفائدة المرتفعة إلى تقليل الضغوط التضخمية وتتسبّب في ارتفاع سعر الصرف مما يؤثر سلباً على الاستثمار ويؤدي حكماً إلى انخفاض الطلب الإجمالي.. إذا حصلنا على مستوى أقلّ من الطلب الإجمالي، فسوف يؤدّي ذلك إلى انخفاض النمو الاقتصادي (النمو السلبي – الركود) وبطالة أعلى حيث أنّه إذا انخفض الإنتاج، ستنتج الشركات سلعاً أقلّ وبالتالي ستطلب عدداً أقلّ من العمال.

ثانياً: وصول ديون القطاع العام إلى مستويات مرتفعة وخطيرة، بالنظر إلى أنّ الدين العام قد نما مؤخراً بشكل أسرع من حجم السكان في لبنان، فمن العدل أن نتساءل كيف يؤثر هذا الدين المتزايد على الأفراد العاديين؟

تؤثر مستويات الدين الوطني بشكل مباشر على الناس بطرق عديدة، فبداية، مع زيادة نصيب الفرد من الدين الوطني، تزداد احتمالية تخلف الحكومة عن الوفاء بالتزامات خدمة الدين كما حصل مع الحكومة اللبنانية مما يؤدّي الى فقدان ثقة المجتمع الدولي بالإصلاح الاقتصادي.. وحالياً، مع نهاية العام 2020 تخطّى الدين العام حدود الـ 95.5 مليار دولار (موزع بين 62.26% بالليرة اللبنانية و37.34% بالدولار الأميركي)، وتراجع تصنيف الدين السيادي لدى الوكالات الدولية (فيتش، موديز، ستاندر أند بورز) إلى أدنى المستويات، وبات لا بدّ من تفنيد أبرز مكوّناته والعوامل المؤثرة بتزايده، لا سيما منها الكلفة المرتفعة للدين، والتي بات لبنان يستدين لإيفائها… ومن الآثار السلبية لذلك أن تفقد الحكومة القدرة على تنفيذ المشاريع التي تعود بالفائدة على الاقتصاد اللبناني.

ثالثاً: اعتمد لبنان على القطاع السياحي منذ نشأته حتى يومنا هذا. ومما لا شك فيه أنّ السياحة مورد مهمّ جداً لكن ممّا يؤسَف له، أنّ الحكومة اللبنانية لم تستثمر اكثر من 20 % من مقومات هذا القطاع فلم يشهد القطاع السياحي في لبنان الذي كان أساس الاقتصاد منذ تأسيسه خطة سياحية تلبّي أدنى الشّروط والتّطلّعات.

رابعاً: بات القطاع المصرفي، بعد أن أقرض ثلاثة أرباع الودائع للحكومة، يعاني إفلاساً وظيفياً وفقداناً للسيولة بشكل متزايد.. ومع أنّ أصحاب المصارف استفادوا على مدى سنين طويلة بمليارات الدولارات إلاّ أنّهم الآن يرفضون تحمّل المسؤولية.

خامساً: لم يشهد الاقتصاد الإنتاجي أيّ نمو فعليّ طوال عقود سابقة مع أنّ العديد من الجهات المحلية والدولية طالبت بتحويل الاقتصاد اللبناني الريعي إلى اقتصاد إنتاجي.

سادساً: وربّما هذا هو العامل الأهم في الانهيار الّذي نعيشه في لبنان، هو أنّ البلاد كانت بلا دفة سياسية: لم يكن هناك رئيس للجمهورية بين عامي 2014 و2016، وكانت هناك تأخيرات متعدّدة وطويلة في تشكيل الحكومات، فصحيح أنّ الانتخابات البرلمانيّة تمّت في العام 2018 ولكن بعد تأخير دام خمس سنوات.

كل هذه الأزمات ولدت شعوراً بالإحباط بحلول تشرين الأول 2019، وقال المواطنون كفى وبدأت مرحلة من الوعي «الشعبوي» أو هكذا خُيّل لنا… شعر مئات الآلاف من الناس بأزمة تلوح في الأفق فنزلوا إلى الشوارع مطالبين بتغيير سياسي جذري… استقال مجلس الوزراء وألقى بالبلاد في أزمة سياسيّة. ومن غير المستغرب أنّ تدفقات رأس المال توقفت فجأة. البنوك، المتعسّرة بالفعل، تعرّضت لأزمة سيولة حادة، مما أجبرها على إعلان «عطلة مصرفيّة» وفرض قيود صارمة على عمليات السحب المصرفي. ظهرت سوق سوداء للعملات الأجنبيّة وانخفضت قيمة العملة الوطنية (الليرة) بشكل حاد، في المقابل، ارتفع التضخم وانهارت الأجور الحقيقية للأفراد وانخفضت، بالتّالي، القوة الشرائية بشكل كبير… وكأنّ كلّ هذه المشاكل لم تكن كافية، فضربت البلاد أزمة COVID-19 الشديدة، ووقع انفجار المرفأ في 4 آب الذي صنف كثالث أقوى انفجار في العالم، مما أدى إلى تدمير ثلث وسط بيروت لكن للأسف لم يخدش هذا الانفجار ضمير الفاسدين في بلدي الذي تردّد صداه الى قبرص ولا أيقظ صوته شعبي من سباته العميق.

أدّى التقاء هذه الصدمات السلبية الكبيرة إلى انهيار الاقتصاد، وتشير التقديرات إلى تقلّص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 25% في عام 2020، مع توقع انخفاض إضافي بنسبة 10 -15% لعام 2021. وعند قياسه بالدولار الأميركي، قد ينتهي الأمر بالاقتصاد اللبناني إلى التقلص من 60 مليار دولار في عام 2018 إلى 15 مليار دولار في عام 2021.

هذا ويحدث شكل متطرف من تدمير الثروة مع خسارة اللبنانيين بحكم الأمر الواقع لغالبية مدّخراتهم المصرفية، وفي الوقت نفسه، فإنّ خمسة من كلّ عشرة لبنانيين باتوا عاطلين عن العمل، وأكثر من ثلثي السكان باتوا تحت خط الفقر.

لكن ما لا تكشفه هذه الأرقام هو الندوب الهيكلية، إذ يشهد رأس المال البشري تآكلاً سريعاً بسبب هجرة الأدمغة الهائلة للشباب والمهرة. ومما يثير القلق بالقدر نفسه، وربّما أكثر هو فقدان القدرة الإنتاجيّة المادية الناتج عن إغلاق الأعمال على نطاق واسع.. ناهيك عن العواقب الأمنية التي ستترتّب من دون شكّ على الانهيار الاقتصادي.. فتاريخ لبنان الطائفي مليء بالصراعات وسيوفر الانهيار الاقتصادي بيئة مثاليّة لعودة العنف… في مواجهة هذه الصدمات المؤلمة، كانت الطبقة السياسية اللبنانية غائبة بشكل مروّع. تمّ تشكيل حكومة جديدة في كانون الثاني 2020 لكن هذه الحكومة امتنعت عن السير بالإجراءات الاقتصاديّة والمالية المطلوبة وأعطتنا شعارات رنانة الى ما لا نهاية، ممّا أدّى بدوره إلى توقّف مفاوضات صندوق النقد الدوليّ.. في هذه الحالة، أصبحت الحكومة غير فعّالة، وبعد انفجار 4 آب، قدمت استقالتها، ممّا خلق فراغاً سياسياً آخر.

يتساءل المراقبون لمَ تتّجه كلّ الأمور نحو التّأزيم دون بوادر حلحلة؟

هنالك ثلاثة تفسيرات محتملة:

أولاً: بيئة سياسية فاسدة مستعصية تجعل صنع القرار الجماعي صعباً، لا سيما بالنظر إلى حجم الخسائر التي تحتاج إلى تقسيم.

ثانياً: ارتهان معظم الأحزاب السياسية اللبنانية للخارج «وكلاء لا مديرين»، وهي تعمل فعلياً كرسول للاعبين إقليميين ودوليين غير متحمّسين حالياً لحلّ الأزمة اللبنانية. مع العلم أنّ بعض الأحزاب لديها ارتباطات خارجية، لكنها لا «تنبطح» أمام الخارج.

ثالثاً: هذا الشلل يعكس قراراً نشطاً من جانب الطبقة السياسيّة بعدم القيام بأيّ شيء: التضخم المرتفع، وانخفاض سعر الصرف، و»ديون» الودائع يحوّل العبء على السكان عموماً ويبتعد عن مصالح الأوليغارشية…

بغض النظر عن أيّ من هذه الأسباب هو الرّاجح، فإنّ إهمال السياسة يخلق تحوّلات سياسية زلزالية ستهدّد في النهاية بقاء الطبقة السياسية الحالية.

من الصعب التنبّؤ بكيفية تطور الأزمة، ولكن يمكننا تأطير ملامح النتائج المحتملة حول سيناريوات مختلفة.

لبنان أمام لحظة وجودية على المدى القصير، فإنّ أفضل ما يمكن للمرء أن يأمل فيه هو سيناريو «التشويش» (بدعم مالي أجنبيّ محدود) الذي يوقف الانهيار الاقتصادي، على المدى المتوسط​​، قد تفتح الانتخابات البرلمانية لعام 2022، إذا تمّ إجراؤها في موعدها، نافذة أمام ظهور قيادة جديدة يمكنها أخيراً وضع البلاد على مسار الازدهار.

وبعد… فإنّه مع كلّ هذه المؤشّرات السّلبيّة، هل يمكن أن تكون هنالك حلول تضع لبنان على سكّة الحلّ؟ ربّما فالانهيار واقع لكنّ بعض الحلول ممكنة وهنالك دائماً طاقة للأمل في حال صدقت النيات وشدّت الرّحال صوب العالم شرقه وغربه.. في خطط واضحة.. في النهاية إذا أردنا للعالم أن يمدّ لنا يد العون… فيجب أن يكون لدينا ما نقدّمه له بداية أن نكون «عوناً» لأنفسنا ليكون العالم «عوناً» لنا.. فهل نحن فاعلون؟

ختاماً، نعود الى القول المستقى في بداية المقالة من الكتاب المرجع «اقتصادنا» للسيد محمد باقر الصدر الذي يقودنا الى نظرية قد أكون أول من يطلقها…. حلّ أزمة لبنان لا ينطلق من حلول طبّقت في بلاد عانت من نفس ظروفنا الاقتصادية كما ينادي جميع الخبراء الاقتصاديين… لبنان بحاجة الى «مؤتمر اقتصادي تأسيسي» لوضع خريطة طريق للنهوض من الأزمة لا تشبه أية حلول سابقة بل تشبه وطني «المعقد» والمنهوب لبنان…

«نحن لا نعاني من شح الأموال بل من وفرة اللصوص» ـ غاليانو.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.