الانتخابات الإيرانية: الحماس والحيوية.. ’والديموقراطية الدينية’

 

موقع العهد الإخباري ـ
محمود ريا:
بقدر ما كانت الانتخابات الإيرانية حيوية، حماسية، متغيرة النتائج وغير متوقعة الاحتمالات، بقدر ما كانت بالمقابل “روتينية”، عادية، متوقعة الحصول، دقيقة الموعد.

لقد كانت العملية الانتخابية مزدوجة، لمجلس النواب ومجلس الخبراء، وانتظر الكثيرون نتائجها ووضعوا توصيفات مختلفة لها، بين مرجح فوز هذا الفريق، وراغب بفوز آخر.

لكن الكثيرين أيضاً تجاوزوا عن حقيقة واضحة وظاهرة تتمثل في كون هذه العملية هي السادسة والثلاثين التي تشهدها الجمهورية الإسلامية منذ قيامها في العام 1979.

إن هذه الحقيقة تحكي قصة هذه الجمهورية، التي شهدت خلال سنواتها الخمس والثلاثين هذا العدد من الاستحقاقات الانتخابية، ومن الوقوف عند رأي الشعب في من يحكمه، ومن يضع له التشريعات، ومن يسيّر أموره، دون أي تأخير، أو تقصير أو تبرير لزحزحة استحقاق انتخابي عن موعده.

ايران

لا الاعتداءات التي تعرضت لها الثورة الشعبية الناهضة في وقتها أخّرت الاستفتاء الشعبي الكبير على إنشاء الجمهورية الوليدة، ولا التفجيرات وعمليات الاغتيال كانت طريقاً لفرض الطوارئ وتعليق الدستور ومنع الناس من اختيار رئيس بدل الرئيس المعزول، أو الرئيس الذي اغتيل، ولا “الحرب المفروضة” التي استمرت أكثر من ثماني سنوات كانت فرصة لمصادرة صوت الناس، بالرغم مما شهدته هذه الحرب من غارات ومن صواريخ طاولت المدن وخلّفت الدمار والشهداء والجرحى، ولا المؤامرات الخارجية ومحاولات الاستهداف السياسية والأمنية شغّلت في عقول المسؤولين فكرة الاستغناء عن اللجوء إلى الشعب لتقرير ما يشاء ولاختيار من يشاء، ولا العقوبات الاقتصادية الخانقة وما خلّفته من أزمات كانت مبرراً لـ “توفير” أموال الانتخابات لصرفها على مواجهة العقوبات والحصار.

باختصار، كانت الانتخابات مجدولة، مبرمجة، معروفة البداية والنهاية، غير معروفة النتائج. لم يفاجأ أحد بموعد حصولها، ولكن فوجئ الكثيرون، وفي أكثر من مرة، بما نتج عنها، أي أن الانتخابات كانت كما يجب أن تكون، وكما هي الانتخابات في البلاد التي تؤمن فعلاً بأن للشعب الحق بأن يقرر، وللشعب الحق في أن يختار، وللشعب الحق في أن يحاسب، وللشعب الحق في أن يُبقي أو يغيّر. ولم يسلب أحد هذا الحق من الشعب، تحت أي عنوان، كما يحصل في الكثير من بلدان العالم الأخرى.

لقد أشار الإمام السيد علي الخامنئي لهذه الحقيقة في الخطاب الذي ألقاه بعد إجراء الانتخابات الأخيرة، لا بل وضعها أول نقطة في خطابه حين قال: “لقد استطاع هذا الشعب للمرة السادسة و الثلاثين بعد انطلاق الثورة الإسلامية أن يشارك في انتخابات عامة بعزيمة راسخة وحماس وحيوية لا تنسى، وأن يقرّر مصير البلاد في الفترة الحالية، ويختار نوّابه لتشكيل مجلسين مقتدرين عظيمي الأهمية، ويعرض على العالم مرة أخرى الديمقراطية الدينية في وجهها المشرق المقتدر”.

في عبارة الإمام الخامنئي إشارة هامة إلى نقطة أخرى ميّزت الانتخابات الإيرانية الأخيرة، هي مسألة العزيمة الراسخة والحماس والحيوية. هذه قضية حساسة لمن جرّب العمليات الانتخابية بأشكالها المختلفة: الحقيقية والصورية، الفاعلة وغير الفاعلة. فعندما تصبح العملية الانتخابية مجرد ترف يمارسه الناخب، فيصبح غير مؤثر في مجرى هذه العملية، يخف حماسه للمشاركة فيها، لا بل إنه يفضل قضاء يوم العطلة الذي تجري فيه الانتخابات في نشاطات “أكثر فائدة” من الوقوف في طوابير طويلة دون أن يكون له القدرة على “التأثير” في مجرى الانتخابات.

أما عندما يكون لصوت الناخب قيمته، ويكون مقتنعاً بأن هذا الصوت لن يذهب هدراً، وإنما سيكون “محسوباً” في صندوق الاقتراع، وفي اختيار النائب الذي سيمثل الدائرة، ومن ثم في تشكيلة المجلس المنتخب بشكل عام، فإنه لا يعود غريباً أن يتدفق الناخبون بهذا الحماس إلى المراكز الانتخابية، ولا يكون خارقاً للعادة أن تمدّد فترة الانتخابات لعدة ساعات في الليل، وصولاً إلى منتصفه تقريباً، تماماً كما حصل في الانتخابات الإيرانية الأخيرة، التي وصلت نسبة الاقتراع فيها إلى 60 بالمئة، وهي من النسب المرتفعة جداً في عمليات الانتخاب في أعرق الدول الديموقراطية “الحقيقية”، حيث لا تتجاوز نسبة المشاركة في انتخاباتها الخمسين بالمئة، إلا بقليل.

هذه المشاركة استحقت الشكر من القائد الخامنئي، كما استحقت التوقف عندها مطوّلاً من قبل المحللين والدارسين ووسائل الإعلام في العالم، لأنها تمثل إشارة واضحة إلى مدى التصاق الشعب في إيران بالدولة التي تقدم له فرصة التعبير عن رأيه دون خوف ودون استهانة بهذا الرأي، بل بكل احترام لما يقوله في صندوق الاقتراع الذي يتحوّل إلى حاكم وفيصل، يُدخل الندوة النيابية وجوهاً لم تكن معروفة، ويخرج منها أكبر الكبار، دون أن يخلق هذا أي مشكلة في بنية النظام وفي طريقة عمله.. وفي مستقبله.

لقد كانت هذه الانتخابات درساً في “الديموقراطية الدينية في وجهها المشرق المقتدر”، كما قال الإمام الخامنئي، وهذه العبارة تحتاج إلى الكثير من الدراسات والأبحاث التي تفسّر معانيها، وتضع البنى العملية للفكرة التي تحملها.

Source link

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.