الثّقافة الرّوسية عَريقة وصديقة للإنسانيّة

marina-soudah-russia-culture

موقع إنباء الإخباري ـ
مَارينا سوداح*:

قدّمت الثقافة الروسية الكثير من المكاسب للعالم، وأغنت حياة البشرية ثقافياً وفكرياً، ولهذا تشتهر بعَراقتها ومَكانتها المُصانة، وهي الى ذلك محل تقدير وتبجيل من لدن المُدركين والعارفين بأهميتها والدارسين لتاريخها. وتشابه الثقافة الروسية شقيقتها الثقافة العربية التي لم تبخل بتوفير الحَضرنة على مساحة القارات القديمة ولشعوبها التي نهلت منها وتهذّبت بها في عصور خوالي.

والثقافة الروسية معروفة في كل بلدان العالم منذ عهد بعيد يَسبق بكثير عهود تأسيس دول كبرى ما تزال وبرغم ضخامتها تحبو ثقافياً. وتتجذر المعرفة والثقة بالثقافة الروسية ليس من خلال الكتب والأدب والكلمة الروسية الموزونة والمشبعة بالانسانية فحسب، بل والى جانب ذلك، بصورة مباشرة من خلال ملايين الطلاب والعاملين  والسياح الذين تعرّفوا عليها في روسيا نفسها، وفهموا مراميها الانسانية. فروسيا لم تَبغض أحداً لم يُبغضها، ولم تقف ولا تقف بوجه أحدٍ يُصادقها ويَحترمها، أذ كانت دوماً وكما هي اليوم تنطلق من وحي مبادئها في علاقاتها مع الامم. وتعرض الى ذلك الواقع الثقافي الروسي ألوف المقالات والافلام وخبرات المشاركين في المجموعات السياحية الذين زاورا روسيا، وهي بمجموعها شواهد وأدلة على عظمة هذه الثقافة وشعبها، واهتمامها بأن تكون أحد روافع السلام وقواعد الأمان وجسور تقارب الشعوب من خلال قوس قزح ثقافي – إنساني.

ومِن الخِصال الأهم والأعظم للثقافة الروسية أنها أنجزت وحدة مئات الشعوب والامم الآسيوية والاوروبية، وجعلتها تتفاهم فيما بينها وتتآخى وتتوحّد بدون الحاجة الى عمليات ترجمة ومترجمين كما هو الحال في معظم الدول، وهي عملية  نادرة الحدوث، وقد نادت بها البشرية منذ أُلوف السنين بهدف تعزيز وحدة العالم وتفاهم شعوبه بدون معيقات.

لهذا كله، تولّدت لدي فكرة كتابة هذه المقالة  فور استماعي يوم السبت، 17 سبتمبر 2016، لكلمات الرئيس فلاديمير بوتين حول موضوع الثفافة الروسية ودورها في عملية التفاهم الشامل بين الشعوب، والتي عرض لها التلفزيون الروسي (ر.ت.ر). إضافة لذلك، مطالعتي لخبر وكالة تاس الروسية للانباء، مُصاغٌ بالاستناد الى نتائج دراسة عيّنة استطلاع محدودة العدد لمواطنين روس، أنجزها مركز دراسة الرأي العام في روسيا، وكشف الخبر عن أن 90% من الروس يَفاخرون بتاريخهم وثقافتهم وعلومهم وجيشهم والشخصيات الروسية البارزة.

نتائج استطلاع العيّنة التي أُعلن عنها مؤخراً والتي هي بالتالي “جديدة جداً” – ومن هنا تنبع أهميتها –  يَتبدى بمشاركة 1.6 ألف مواطن روسي للإجابة على أسئلتها، وهؤلاء يعيشون في 130 مدينة وبلدة وقرية، ويتحدرون من 46 مقاطعة وإقليماً وجمهورية، لِ9 دوائر فيديرالية روسية.

وتعرض نتائج  الاستطلاع لِ 88% من الروس في العيّنة المحدودة، ممن يُفاخرون بالثقافة الروسية، كما يُفاخر 90% منهم  بجيشهم الروسي القوي، و88% يُفاخرون بالرياضة الروسية، ويُفاخر 72% بمواقف روسيا على الصعيد العالمي.

وبشأن الأحداث البارزة التي حدثت في روسيا على مدى الـ 15 سنة الأخيرة، فقد رحّب 14% من الروس ضمن العينة بانضمام القرم لروسيا الأُم، كذلك أشاد 12% منهم بالدورة الأولمبية الشتوية في مدينة سوتشي الجنوبية، وأعرب 10% عن اعتزازهم بقدرات الجيش الروسي.

ورفضت غالبية الروس في العينة – ووصلت نسبتهم الى 70% – مغادرة روسيا والإقامة في بلد آخر، وبذلك ارتفع لدى المواطن الروسي مَنسوب الشعور الوطني بمواطنة وإخلاص مطلق للدولة، بخاصة بعد انضمام القرم إلى روسيا بإنسجامٍ مع القانون الدولي وفي إطاره، وانطلاقاً من الرغبة الديمقراطية التي أعرب عنها شعب القرم.

هذه النتائج الموضوعية التي عرض إليها الاستطلاع تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك – وقد أجريت قبل الانتخابات لدوما الدولة الروسي – البرلمان، ان المجتمع الروسي برمته يتمسك بكل ثوابته الوطنية، ثقافته وحضارته والنقلات المضيئة في تاريخه الطويل، ويُجلُ قياداته السياسية، وبأن الدولة الروسية قد تعافت تماماً من التقلبات الاجتماعية السابقة للاتحاد السوفييتي، وها هي تؤكد اليوم بُنيتها القوية، رفعتها وعلوميتها وتجذّر ثقافتها التقدمية بالمعنى العلمي والثقافي – الانساني العام لهذا المصطلح، وإشغالها مكانة رفيعة في هذا المِضمار، لتعترف برقيّها البشرية وتقف مشدوهة أمامها.

الولاء المُطلق الذي يتحلّى به الشعب الروسي لروسيا – الدولة والرئيس والتاريخ والمستقبل والثقافة والعلوم والقوات المسلحة، الى غيرها من العناصر المُكمّلة للبلاد المُوحَّدة، يُشير الى اندغام الروس بتاريخهم العريق وانصهارهم في ثقافتهم، التي انطلقت لتأكيد نفسها وقسماتها وبُنيها وآمالها إلى فضاءات العالم منذ عهد القيصر بطرس الأكبر، وتعزّزها في العهد البوتيني الزاهر.

ففي عهد بطرس الاكبر، تحقق للقيصر إنجاز عدة إصلاحات في الإدارة والمالية والصناعة والمجتمع، فشرعت الثقافة الروسية بمزيد من الانتشار وبخطوات متسارعة في مختلف البلدان، بخاصة في اوروبا وأسيا، من خلال أنشطة مختلفة، إذ جهد بطرس الاول للتقارب الفاعل مع شعوب القارة الاوروبية، وتوظيف كل ما أمكنه  خدمةً لهذا الهدف النبيل، وبضمنه على سبيل المِثال فن العَمارة الذي يعكس علو مكانة الثقافة الروسية، ناهيك عن بنائه مؤسسات إنتاجية للسفن، وتنفيذه عدة إصلاحات في الإدارة والمالية والصناعة والمجتمع، وكان تأسيسه قوات مسلحة قوية عاملاً رئيساً وهاماً لبناء روسيا برمتها مُستنداً إلى عقيدة جديدة وشاملة للإعمار الوطني، أدّت الى اكتساب الجديد الذي مَكَّن في مختلف الحقول إفادة روسيا في طريق تحديثها ونقلها الى ذرىً متصاعدة.

كانت الثقافة الروسية في عهد بطرس الأكبر قد أنجزت كيانية متميزة للدولة والشعب، فتحلّقت حَولها بمغناطيس قوي الشعوب السلافية برمتها، ذلك ان تلك الشعوب عاشت ردحاً طويلاً في كنف هذه الثقافة، التي صاغت نمط تفكيرها وسُبل توجهاتها ورغباتها، ووثـّقت وعمّقت في خضم هذا الواقع عملية التبادلات الإنسانية والتجارية والاقتصادية والاجتماعية فيما بينها، ورَست بالتالي عُروتها الوثقى.

كان القيصر الاكبر يرتقي بروسيا بجهود شخصية مُبتكرة، و يُسَرّع بعملية انتشار وتمكين الثقافة الروسية وأنشاء المدارس وتأسيس أكاديمية علمية، لجعلها كلها في متناول الجميع، ولإبراز الوجه الانساني والواقع الحضرني الذي يُميّزها، بخاصة انتمائها لقارتين قديمتين وعريقتين جغرافياً بشعوبهما الشقيقة والصديقة لروسيا، واخلاصها للشرق الواسع بكل عناصره الثقافية والحضارية، ومنه “الشرق العربي”، ما وفّر تربة خَصبة لتقبّل الشعوب مَكنونات وجوهر هذه الثقافة، وبالتالي اعتبارها رديفاً وصديقاً موثوق الجانب في سياقات عملية الأنسنة التي كان القيصر يُشدّد على ضرورتها للسلافيين، وكذلك لغيرهم من الأُمم على حد سواء، ومنهم شعوب الدول التي ناصبت روسيا العداء، فقد كان القيصر يفصل ما بين الدولة المُعتدية على روسيا، والشعب المَغلوب على أمره بالقتال ضد روسيا بأمر حاكمه النهم!

 

 لقد ولدتُ في روسيا، وأعتبر نفسي محظوظة جداً بحمل الثقافة الروسية الى جانب ثقافتي العربية الاردنية، فقد غدا الجَمع بين الثقافتين فرصة ذهبية بحق لممارسة نشاط متصل للتعريف بالجوانب الانسانية في الثقافتين، وإتحادهما بالثقافة العالمية للانسانية، ضمن عائلة واحدة كبيرة، تتطلع الى تعزيز المشتركات والقواسم والتقاطعات بين الجميع بدون استثناء.  

 أن يَحمل المرء في ذاته أكثر من ثقافة واحدة، هو تعبير حقيقي عن محبة طاغية للانسانية، والأهم أن يعمل في نطاقهما بنشاطٍ لتعزيز التطلعات الجامعة  لثقافات العالم، ليَجد نفسه من خلالها ويُحققها، فيندغم الخاص بالعام، والشخصي بالاجتماعي، فتكون خدمة المجتمعات الندّية على أرفع مستوى، وهوية إنسانية هي الاهم في كل الأزمان.

 * كاتبة وعضوة ناشطة في رَاَبِطَة الَقَلَمِيِّين الاَلِكْتْروُنِيّةِ مُحِبِّيِ بُوُتِيِن وَرُوسيِّهَ فِيِ الأُردُن وًالعَالَم العَرَبِيِ ومتابعة للمجال السياحي ومسؤولة ديوان السياحة الاردنية والعربية الروسية في الرابطة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.