السياسة بين الخفي والمُعلن.. من وحي الاتفاق بين السعودية وإيران

موقع قناة الميادين-

علي فواز:

عملياً، نعيش في عالمين متوازيين يؤثر كلّ منهما في الآخر ويتأثر به؛ أحدهما خفي، والآخر نعاينه في وسائل الإعلام. كيف ينطبق هذا الأمر على الاتفاق الأخير بين السعودية وإيران؟

إذا كان من خلاصات للاتفاق الموقع بين إيران والسعودية برعاية الصين، فواحدة منها هي أن السياسة تجري خلف الأضواء بقدر ما تجري على مرأى العالم. لا يقلّل ذلك أهمية الأحداث والتطورات والمواقف بجوانبها كافة، السياسية والعسكرية والاقتصادية وغيرها، التي تجد طريقها إلى العلن، سواء لناحية مفاعيلها وتأثيراتها أو لناحية ما تعكسه من موازين قوى ومحاولة تعديلها. رغم ذلك، فإن الجانب المُعتم أو غير المُعلن غالباً ما يُسبغ بدرجة من الخطورة والحساسية والأهمية، وإلا ما الداعي لأن يكون سرّياً؟

الجانب المرئي، المتداول والمتاح، لا تنحصر أهميته بالجانب المعرفي الإعلامي، لكن أيضاً بما له من تأثير في حياة الأفراد والشعوب والدول ومصائرهم. إذا كان الأمر كذلك، فإن الجانب المخفي يضاهي تأثيره الجانب الآخر ويفوقه خطورة في أحيان كثيرة.

ماذا يحدث خلف الأبواب الموصدة؟
عام 2006، تأسَّس موقع “ويكيليكس” ونشر منذ ذلك الحين تباعاً مئات الآلاف من الوثائق السرية التي تكشف الاتصالات والمداولات والبرقيات التي تبرز التناقض بين المواقف الرسمية المُعلنة وما يقال ويحدث خلف الأبواب الموصدة، وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية.

في بعض الأحيان، تبقى التحليلات والتقديرات قاصرة إذا اعتمدت على المعطيات المُتاحة والمُعلنة فقط. هل ينطبق هذا الأمر على الاتفاق الأخير بين السعودية وإيران؟ يسود التريّث في أبعاد هذه الخطوة ومدياتها من نواحٍ عديدة، وتبقى الأسئلة معلّقة حول مدى قدرة السعودية على الإبحار بعيداً من الرغبات والمصالح الأميركية، وعما إذا كانت تسعى إلى ذلك أصلاً أم أن الأمر لا يعدو كونه محاولة لتنويع الرهانات والخيارات في ظل تلمّس الرياض تراجع الحماية الأميركية لها وسط عالم متغيّر، إضافةً إلى وهن بنيوي في الجسد الإسرائيلي، معطوف على ضعف حكومة نتنياهو وعدم إمكانية تحقيق أي مصلحة سعودية عبر الانخراط المجاني في المسار الإبراهيمي التطبيعي حالياً، كما عبّرت الصحافة الإسرائيلية.

أيضاً، يجوز السؤال عما إذا فوجئت الإدارة الأميركية بإعلان الاتفاق، كما فوجئ نتنياهو به؟

يعيدنا هذا الأمر إلى ما سبق أن قاله الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما: “على السعودية وإيران تعلم مبدأ التعايش معاً والتوصل إلى سبيل لتحقيق نوع من السلام”. التصريح الذي ورد في مجلة “ذا أتلانتك” الأميركية عام 2016، عقب التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران أردفه أوباما بالقول إن “المنافسة بين السعوديين والإيرانيين التي ساعدت في إذكاء الحروب بالوكالة والفوضى في سوريا والعراق واليمن تتطلب منا أن نقول لأصدقائنا، وكذلك للإيرانيين، إنهم بحاجة إلى التوصل إلى طريقة فعالة للتعايش معاً”، بما يعني ظاهرياً عدم ممانعة أميركية بمستوى معيّن من العلاقات والتعاون بين طهران والرياض.

القصة أكبر بكثير من “إسرائيل”
يجافي التوجّه السابق ما عكسته الصحف العبرية وتقديرات عدد من مسؤوليها السابقين في أجهزة الاستخبارات. يجمع عدد كبير من المعلقين الإسرائيليين على أنَّ استئناف العلاقات بين السعودية وإيران لا يمثل ضربة لـ”إسرائيل” فحسب، إنما أيضاً صفعة لواشنطن.

رئيس “أمان” السابق اللواء احتياط عاموس يادلين يشير إلى دلائل متزايدة على أنَّ موقف “إسرائيل” في المنطقة تضرر، ومعه ضعف كلّ المحور المعادي لإيران في الشرق الأوسط بأكمله، ويعتبر أن القصة أكبر بكثير من “إسرائيل” وأن من الصحيح فهم أهميتها على مستوى المنافسة بين القوى العظمى في الساحة العالمية، وعلى مستوى انتشار المعسكرات في المنطقة.

رئيس مركز “ديان” التابع لجامعة “تل أبيب” عوزي رابي يؤكد الخلاصة السابقة من خلال القول إنَّ اللعبة كبيرة، وإن “وصيفة العروس الكبيرة هنا هي الصين التي تستفيد من الفراغ الأميركي”، مشيراً إلى أن الصين لا تزال تدوس على أصابع قدم الولايات المتحدة هنا، مردفاً: “إنها بالتأكيد تقوم بخطوة لها أهمية جيوسياسية”.

القراءة الإيرانية للحدث عكسها مستشار المرشد الإيراني علي خامنئي للشؤون العسكرية، اللواء يحيى رحيم صفوي، الذي وصف الاتفاق بأنه زلزال في مجال السياسة و”نهاية الهيمنة الأميركية على المنطقة”، مضيفاً أن “الاتفاق بوساطة الصين هو الضربة الصينية الثانية للولايات المتحدة”. وشدد صفوي على أن “مرحلة ما بعد الولايات المتحدة بدأت في منطقة الخليج مع الاتفاق الإيراني السعودي”.

“ويكيليكس” والغرف المغلقة
كما أظهرت “ويكيليكس” التناقض في المواقف الأميركية بين المعلن والمستور، فإن هذا الأمر ينسحب أيضاً على بعض دول الخليج التي كان بعض مسؤوليها يصرّح في العلن بخلاف ما كان يدعو في الغرف المغلقة.

صحيفة “الغارديان” البريطانية نشرت وثائق حصلت عليها من “ويكيليكس”، جاء في إحداها أن العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله دعا الولايات المتحدة إلى مهاجمة إيران لوقف برنامجها النووي، ناصحاً إياها “بقطع رأس الأفعى”.

أما ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان، فقال، بحسب الوثائق، خلال لقائه وزير الخزانة الأميركي السابق تيموثي غايتنر في تموز/يوليو 2009 إنَّ “حرباً تقليدية مع إيران على المدى القريب أفضل بشكل واضح من التداعيات الطويلة المدى لحصول إيران على السلاح النووي”.

ووفقاً لبرقية أُرسلت من السفارة الأميركية في أبو ظبي في نيسان/أبريل 2006، أبلغ حكام الإمارة المسؤولين الأميركيين بأنَّ عليهم عدم السعي للحصول على مساعدتهم إلا “كملاذ أخير جداً. إذا استطعتم حل شيء ما دون إشراك دولة الإمارات، أرجوكم افعلوا ذلك”.

ما كشف عنه إدوارد سنودن المتعاقد السابق في وكالة الأمن القومي الأميركية من عمليات تجسس واسعة النطاق نفذتها الولايات المتحدة وطالت أقرب حلفائها، يقع في سياق عالم الظل الذي يُحدد السياسات العلنية ويؤثر فيها.

سنودن فاجأ العالم عام 2013 عندما كشف أن الولايات المتحدة الأميركية تُخضع جميع المحادثات الهاتفية والرسائل الإلكترونية للتجسس، معتمدةً على نظام مراقبة جماعي غير مسبوق، لم يستثنِ حتى حلفاءها من زعماء وسياسييين أوروبيين في ألمانيا والسويد والنرويج وفرنسا بين عامي 2012 و2014.

تقصّي الدول عن المعلومات
ليس ما تقدّم سوى أمثلة قاصرة عن تقديم صورة شاملة عمّا يجري بين الدول وداخل أروقتها في الخفاء. لا تشذّ عن ذلك المحادثات والاتفاقيات التي تجري بين الخصوم أو بين الأعداء أحياناً، سواء بطرق مباشرة أو عبر وسطاء. الاتفاق النووي الذي وُقع عام 2015 بين إيران ومجموعة 5+1 ما كان ليظهر إلى العلن لو لم تسبقه جولة مباحثات سرّية.

لكنّ السرّية أشمل من ذلك بكثير، وهي تطال إلى جانب المباحثات والتجسس والعلاقات الدولية، ملحقات في اتفاقيات دولية، ومعلومات تحوزها مؤسسات وأجهزة الأمن القومي ودوائر التخطيط والقرار داخل الدول، إضافة إلى تقنيات وأسلحة وخطط وطموحات وعمليات استغلال للبشرية أحياناً تلامس السؤال عمن يحكم العالم وكيف يُحكمه.

عملياً، نعيش في عالمين متوازيين يؤثر كل منهما ويتأثر بالآخر: عالم خفي وآخر نعاينه في وسائل الإعلام.

وفيما يسعى الأفراد والمواطنون إلى المعرفة الخبرية للتقصّي عما يجري في العالم وفي بلدانهم، إلا أنَّ الدول وأجهزتها القومية تسعى وراء المعلومة لأسباب أكثر عمقاً وأهمية. في نهاية المطاف، تُبنى السياسات والخطط العسكرية والاستراتيجيات على أساس القدرات، وأيضاً على أساس المعلومات. كلا الأمرين متداخلان، لكن من دون المعلومات لا إمكانية للوصول إلى تقديرات واقعية وصحيحة. العملية العسكرية الروسية خير مثال على ذلك إذا تحدثنا عن نوع خاص من المعلومات، أي تلك المرتبطة بالاستخبارات العسكرية.

“إسرائيل” آخر الشتاء
الاستخبارات التي تتقصّى الشؤون السياسية تعدّ أساسية في عمل أجهزة الدولة، وتغدو ضرورية للوصول إلى تقديرات مبنية على معطيات ومعلومات، شأنها في ذلك شأن الاستخبارات العسكرية. في حالة الاتفاق الأخير بين السعودية وإيران، دلّت المعطيات على وقوع “إسرائيل” في عمى استخباري.

تتيح تصريحات بنيامين نتنياهو خلال زيارته إيطاليا عشية الإعلان عن الاتفاق، كذلك آراء وتصريحات مهنية إسرائيلية أعقبته، تكوين صورة تتمتع بمصداقية حول وجود قصور إسرائيلي في التقاط ما جرى. تنبع أهمية هذا الأمر من كونه يتعلق مباشرة بالمصالح الإسرائيلية وبمشاريع “إسرائيل” في المنطقة وبصراعها مع إيران.

يتوجّه موقع “يديعوت أحرنوت” إلى من يبحث عن دليل على مدى تفاجئ “إسرائيل” بهذا الاتفاق بأن عليه أن يستمع إلى كلمات نتنياهو صبيحة الإعلان عنه. قال نتنياهو: “هدفي هو تحقيق التطبيع والسلام مع السعودية. الاحتمالات الاقتصادية واضحة. ربط سكة قطار السعودية وشبه الجزيرة العربية عبر الأردن إلى مرفأ حيفا”.

وأضاف: “هذا الأمر يتطلّب فقط زيادة 200 كيلومتر من سكك القطار لربط أنبوب النفط مباشرة من شبه الجزيرة العربية إلى البحر المتوسط عبر إسرائيل. هذا يعني أننا نستطيع التقليل بشكل كبير من زمن تزويد الطاقة التي تحتاجها أوروبا والتخلي عن قناة السويس. أعتقد أن هذه الاحتمالات حقيقية”.

نتنياهو الذي تعهد بأن ينجح خلال ولايته الحالية بتحقيق السلام مع السعودية، تؤكد وسائل إعلام إسرائيلية أن هذا الهدف يبتعد الآن، واصفة الاتفاق السعودي الإيراني بأنه “بصقة في وجه إسرائيل” وضربة قاسية لجهود نتنياهو لتوسيع اتفاقات أبراهام.

أبعد من ذلك، يصنف رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق غيورا آيلند “دولة “الكيان باعتبارها لاعباً صغيراً في ظل ما جرى، ويعبّر عن اعتقاده بأنه لم يكن لدى “إسرائيل” القدرة الحقيقية لتغييره قائلاً: “إنها لعبة كبار. ليست السعودية وإيران فحسب، بل أيضاً الصين وروسيا”. بدوره، يقول معلق الشؤون العربية في القناة 13 العبرية إن المفاجأة لم تقتصر على “إسرائيل”، بل شملت “الكثيرين في الغرب”.

“إسرائيل” آخر الشتاء لا تذكّر بـ”إسرائيل” في منتصف الخريف؛ يكتب يوفال كارني في صحيفة “غلوبس”. عبارة تلخّص أموراً كثيرة في ضوء ما حدث.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.