الولايات المتحدة تضحي بأوروبا مجدداً

صحيفة البعث السورية-

عناية ناصر:

شدد البيان المشترك الذي صدر بعد محادثات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع الرئيس الأمريكي جو بايدن على العلاقة “الطويلة” بين البلدين، لإظهار أن الخلاف السابق لم يعد قائماً. فقد عرض بايدن على ماكرون كل شيء جميل المظهر، ما جعل فرنسا مستعدة لتلبية احتياجات الولايات المتحدة. وقد أبدى الرئيسان خلال البيان المشترك، موقفاً مشتركاً في التعامل مع “تحديات” الصين. ومع ذلك، فإن كل ما حدث لا يمكن أن يخفي أزمة الثقة المتزايدة عبر الأطلسي، حيث كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قد انتهج بشكل أعمى سياسة “أمريكا أولاً”، كما أنه دفع العديد من حلفائه الأوروبيين إلى التشكيك فيما إذا كانت الولايات المتحدة لا تزال حليفة لأوروبا.

بعد انتخاب بايدن، لم يستطع الأوروبيون الانتظار لإظهار ولائهم وإخلاصهم للولايات المتحدة، وأعلن بايدن أن “أمريكا عادت”. ومع ذلك، فإن الأوقات الجيدة لم تدم طويلاً، والانسحاب المذل والمحرج للولايات المتحدة من أفغانستان مرة أخرى أذهل الأوروبيين. والأسوأ من ذلك، انتزعت الولايات المتحدة طلب الغواصة النووية الأسترالية من فرنسا، وحرضت أستراليا على إنشاء اتفاق “أوكوس”، وهو اتفاق أمني ثلاثي مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

هذا كله يظهر أنه تم “التضحية” بالأوروبيين من قبل الولايات المتحدة مرات عدة، ما جعل الأوروبيين مصممين بشكل متزايد على بناء الاستقلال الاستراتيجي. ومع ذلك، فإن اندلاع الصراع بين روسيا وأوكرانيا قضى على الفور على إرادة وقدرة الأوروبيين على متابعة استقلالهم الاستراتيجي، حيث لم يؤد احتضان أوروبا للولايات المتحدة إلى النتيجة المتوقعة، فمع استمرار إدارة بايدن في تنفيذ الإجراءات التي تخدم المصالح الأمريكية فقط، بدأ الأوروبيون في الشك فيما إذا كانت الولايات المتحدة تضع مصالحهم في الاعتبار حقا،. وقد تجلى ذلك من خلال:

أولاً: لدى الولايات المتحدة وأوروبا مطالب مختلفة بشأن كيفية التعامل مع الصراع الروسي الأوكراني، حيث تأمل الولايات المتحدة في إمكانية إطالة أمد الصراع من أجل تعزيز التبعية الأمنية للدول الأوروبية، وتوسيع عضوية الناتو. لكن بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي، فإن روسيا تعتبر جارة لا يمكن إبعادها، وخاصة بالنسبة لدول أوروبا الغربية الكبرى، الذين ما زالوا يأملون في تخصيص مساحة للمناورة في العلاقات بين روسيا وأوروبا، ولا يريدون أن يتصاعد الصراع ويخرج عن نطاق السيطرة.

ثانياً: فيما يتعلق بمسألة الطاقة، لطالما اعتبرت الولايات المتحدة خط أنابيب “نوردم ستريم” بمثابة شوكة في خاصرتها، لذلك عملت بشكل مستمر على المبالغة في التهديد المتمثل في تسليح روسيا لطاقتها، وعملت على إحداث “فصل” كبير لموارد النفط والغاز بين أوروبا وروسيا، حيث أدت عقوبات الطاقة التي فرضتها أوروبا على روسيا في رد فعل عنيف كبير، مما تسبب في سقوط أوروبا في أزمة طاقة وتضخم.

ثالثاً: فيما يتعلق بمسألة التجارة، تتزايد المناقشات حول إمكانية نشوب حرب تجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا، حيث يمنح قانون خفض التضخم الذي أقرته الولايات المتحدة إعانات مالية عالية للشركات الأمريكية، وبذلك سيتم جذب العديد من الاستثمارات في أوروبا إلى الولايات المتحدة، الأمر الذي جعل أوروبا غير راضية للغاية عن إجراء الحماية التجارية هذا.

وخلال لقائه مع ماكرون، أقر بايدن بوجود “ثغرات” في القانون، وقال إنه يمكن إجراء “تعديلات” لإرضاء حلفاء واشنطن. ومع ذلك، يعتقد العديد من المحللين أن هناك احتمال ضئيل بأن تقوم واشنطن بمثل هذه التعديلات.

وأما، فيما يتعلق بقضية الصين، تشعر أوروبا بشكل متزايد بأنها لا تستطيع مواكبة الولايات المتحدة، على الرغم من أن أوروبا لديها بعض المطالب المشتركة مع الولايات المتحدة بشأن القضايا المتعلقة بالصين مثل تعزيز المنافسة مع الصين في مجال التكنولوجيا الفائقة لضمان مكانتها الرائدة، إلا أن أوروبا لا تريد ولا تستطيع تحمل عواقب “الانفصال” الكامل عن الصين.

ومن خلال الخداع الأمريكي، عاد مرة أخرى صوت الانحياز إلى جانب الولايات المتحدة لاحتواء الصين في أوروبا. ونظراً لأن الولايات المتحدة تستخدم أوروبا فقط في محاولة لقمع الصين، وإجبار الشركات الأوروبية على الانحياز إلى جانب معين، هناك اختلافات واضحة داخل أوروبا حول قضية التشدد مع الصين والحفاظ على التواصل والعمل معها، ففي الآونة الأخيرة، زار قادة مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وبعض الدول الأعضاء الصين، و أعرب آخرين عن رغبتهم في زيارة الصين، مما يدل على أن أوروبا تدرك أنه لا يمكن السماح للعلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي بالاستمرار في التدهور.

في الماضي، غالباً ما كان الأوروبيون يخدعون أنفسهم، ويتخيلون أن الولايات المتحدة ستغير رأيها يوماً ما. ومن المحتمل جداً أن العديد من الأوروبيين ما زالوا يتمتعون بهذه العقلية حتى اليوم، إلا أنهم سيستيقظون عاجلاً أم آجلاً، وأن سياسة “أمريكا أولاً” التي أقرتها واشنطن سيتم تعزيزها في المستقبل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.