بين الفلوجة واتلانتا

images
صحيفة الأخبار اللبنانية_
عامر محسن

مع استلام الحشد الشعبي لقيادة المعركة في العراق تنطلق، فعلياً، الحملة لاستعادة الأنبار من تنظيم «الدولة». حرب المدن لن تبدأ قبل زمن، والحشد، بحسب تصريحات قادته، لن يدخل الرمادي والفلوجة مباشرة، بل سينشغل بقطع أوصال خطوط الامداد بين المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، ومنع التواصل بين الموصل والأنبار، وسوريا وقواعد «داعش» في العراق، وتحويل مناطق سيطرة التنظيم الى «بؤر» معزولة محاصرة، قبل اقتحامها.

مسار الحرب، كأي حرب، سيكون قاسياً ومريعاً، وهي تجري ضد عدوٍّ يخوضها الى النهاية، بلا أفق للتسوية، ولا نية للتعايش والتسالم مع المجتمع العراقي. الأحداث القادمة ستوفّر للاعلام الخليجي، من دون شك، مادة للبروباغاندا التي يبثها منذ زمن لصالح «داعش»؛ والعديد من مراسلي هذه الوسائل الاعلامية، بالمناسبة، هم «دواعش» حقيقيون. يكفي الاطلاع على حساباتهم الشخصية على وسائل التواصل لمعرفة تطرفهم الطائفي الكريه (وبعضهم أجبره رؤساؤه على حجب حساباته عن العموم، من أجل المظاهر) ــــ هؤلاء هم من يمدّكم بالتقارير والأخبار من العراق.
الّا أنّه، بعيداً عن دعاية أعداء العراق، لا يوجد عراقي يسعد بتحويل مدنه الى ساحات حربٍ وأحياء من ركام، وهو، بالقطع، يهتمّ لبلده ومصيره أكثر من امراء الخليج وأبواقهم. غير أنّ هناك مقارنة، يصعب تجنبها، بين الاتجاه الحالي للأمور وحادثة جدالية تاريخية تعود الى الحرب الأهلية الأميركية: يوم دخل جيش «شيرمان» عمق الجنوب وأحرق عاصمته الاقتصادية اتلانتا (وهو ما تمّ تخليده في مشهد شهير من الفيلم الكلاسيكي ذهب مع الريح»).
في الذكرى المئة والخمسين لمسير جيش شيرمان نحو البحر، مشعلا النيران، في طريقه، في مزارع الملاك البيض وصولاً الى اتلانتا، كتب جنوبي في «نيويورك تايمز» مشتكياً من قسوة الجنرال والعقاب الجماعي الذي أرساه على المدينة. ردّ كاتبٌ عسكريّ يستعمل اسماً مستعاراً، هو «غاري بريتشر»، على المقال موضحاً أن عمل شيرمان لم يكن مبرراً عسكرياً فحسب (تدمير المرفأ الأساسي وعقدة مواصلات الجيش الكونفدرالي)، بل كان ايضاً ضرورياً لصدم مجتمع العبودية الأبيض، العنصري، المتعالي، في الجنوب، وافهام هذه النخبة أن نظرتها الى العالم لم تعد ممكنة أو قابلة للاستمرار.
شيرمان، يقول بريتشر، لم يكن دموياً بطبعه، بل كان يحمل كرهاً شديداً لمبدأ الحرب (وقد عبر عن ذلك مراراً في كتاباته وخطاباته)؛ وهو كان استاذاً في كلية عسكرية في لويزيانا، في عمق الجنوب، قبل الحرب الأهلية، وقد حاول تحذير أترابه الجنوبيين من المضي في اتجاه التصادم مع الشمال، مؤكداً لهم أن الشماليين لن يسمحوا لهم بازهاق وطنهم من دون قتال، وأنهم سيخسرون الحرب لا محالة: «انتم تخوضون حرباً لستم متحضرين لها الا بمعنى الروحية والعزم، وليس بأي شيء آخر، وخلفها ايضاً قضية سيئة».
وصف زميل شيرمان في قيادة جيش الشمال، الجنرال غرانت، القضية الكونفدرالية كـ «أسوأ قضية، طرّاً، قاتل من أجلها رجال». كأنه يتكلم على قضية «الثورة» في العراق اليوم، منذ ابتدأت في ساحات الكراهية بالفلوجة والرمادي (والتي تماهى معها، بالطبع، اعلام الخليج)، وصولاً الى الحكم الأسود لـ «داعش» و»ثوار العشائر». مثل نخب الجنوب في اميركا منذ قرنٍ ونصف، لم تنتبه هذه الفئة، الممتدة بين الفرات ومشيخات الخليج والتي بنت عالمها على الحقد الطائفي، الى انحطاط خطابها وعدم مقبوليته في دنيا اليوم. ولم تمتثل حتى الى الحقائق الجلية حول موازين القوى والنتائج المتوقعة لأفعالها، فمجتمع هذه النخبة يقوم، بقده وقديده، على سرديات من الزيف وعلى رفضٍ مبدأي للقبول بالواقع كما هو.
ما لم يستوعبه قادة الجنوب هو أن شيرمان كان يهدف الى انهاء الحرب\المذبحة التي أطلقها الانفصاليون، بالطريقة الوحيدة الممكنة، لا الى تعنيفهم والانتقام منهم (تماماً مثلما أن المصاب بالبارانويا والسكيزوفرينيا لا يمكنه أن يقتنع بأن أحداً لا يضطهده، يقول بريتشر). الحرب لم تكن لتنتهي لو لم يدخل جيش الشمال الى عمق مواطن هذه الفئة الحاكمة ويثبت لها، بالقوة العسكرية، أن ثقافتها وايديولوجيتها واسلوب حياتها لا تنتمي الى هذا العالم.
المواجهة مع الوحوش البشرية التي تمسك بالموصل والفلوجة والرمادي، وامتداداتها في الثقافة والاعلام، فيها شيءٌ من حرب شيرمان. ونظرة سريعة الى العالم الكريه الذي يعيش فيه هؤلاء كافية لاقناع أي عراقي ومشرقي بضرورة هذه الحرب، حتى تكون قطعاً نهائياً، تاريخياً، مع الغزو الوهابي الذي يريد أن يستوطن في أرضنا، بأربابه واعلامه ودوله الراعية، ومشايخه وثقافته. الناس العاديون يدفعون الثمن، وأهل غرب العراق قد صاروا، في غالبيتهم، لاجئين مشردين، وقد خرّبت المعارك مدنهم وقراهم. أما السياسيون والنخب العراقية، التي تورّطت وورطت وطنها في هذه الحرب، فلن يكون لها مكان في البلد، وهي تعرف ذلك جيدا.
كان في وسع القادة المحليين، في الأنبار والموصل وصلاح الدين، أن يخطوا طريقاً مختلفاً بالكامل، وأن يستفيدوا من ثروات العراق وموقع محافظاتهم ليحوزوا تنمية واعماراً وثروة، وأن يعيشوا بكرامة من خيرات بلدهم وأرضهم. الا أنهم ارتضوا السير في ركب الخليج وثقافته العنصرية وحروبه الطائفية، وقد فات الأوان.
قبل قرن ونصف، خاطب الجنرال شيرمان نظراء هؤلاء من سادة الجنوب الأميركي، وهو يريهم سوء عاقبتهم: «منذ ثلاث سنوات، بعض التعقل والصبر من جانبهم كان سيؤمن لنا قرناً من السلام والازدهار، ولكنهم فضلوا الحرب. حسناً. السنة الماضية كان بامكانهم الحفاظ على عبيدهم، هذا فات أوانه… السنة القادمة ستُصادر أملاكهم… وبعدها بسنة، سيتوسلون من أجل الابقاء على حياتهم».

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.