«جند الشام» في مخيّم عين الحلوة: ستار الليل خطّ أحمر [1]

Jund al-Sham

 
ما هي خفايا ما حصل في حي التعمير في مخيم عين الحلوة بين حركة فتح وتنظيم جند الشام يوم الخميس الماضي؟ وهل السبب هو الكاميرا التي وضعتها الحركة على حاجزها، أم أمر آخر له علاقة بالليل وحركة الجند تحت ستاره؟ للمرة الأولى، يتحدث القيادي في جند الشام، هيثم الشعبي، إلى الإعلام عما جرى.

صحيفة الجمهورية اللبنانية ـ
ناصر شرارة:

تردد هيثم الشعبي (أحد قادة المجموعات الإسلامية الجهادية المطلوب لسلطات الأمن اللبنانية، بوصفه أحد نشطاء القاعدة في مخيم عين الحلوة)، قليلاً قبل أن يوافق على الكلام، لكنه تجاوز تحفّظه أخيراً بشرط أن يجري الحديث من دون تصوير، كما تساهل بإجراء تسجيل صوتي لأجزاء من كلامه.

قال الشعبي لمحاوره: قبل أيام، جاء زميل لك من تلفزيون فرنسي يطلب مقابلة. رفضت استقباله. كان يمكنني لو صح كلامهم عني أنني إرهابي، أن أدخله بيتي ثم بعد ذلك تضيع آثاره.

كانت الساعة الثانية من بعد ظهر أول من أمس. أما المكان، فكان حي التعمير معقل جماعة جند الشام المسؤولة عن العديد من العمليات الموصوفة في سجل الأمن اللبناني بأنها أعمال إرهابية.

في أحد الزواريب المتشعبة من شارع التعمير، يقيم الشعبي داخل منزل مؤلف من ثلاث طبقات. الرجل دخل العقد الرابع من عمره. مكتنز الجسم وذو شعر أسود ولحية سوداء لم يتخللهما الشيب، وطبعاً من دون شاربين على عادة مظهر السلفيين.

وعلى وسطه يضع مسدسين اثنين: الأول، مميز ويعتبر الأحدث من بين كل المسدسات الحربية، من نوع غلوك النمسوي الصنع المزوّد بممشط ٣٠ طلقة، والثاني من نوع ٩ ملم. ويطيب للشعبي استعراض أهمية مسدسه (الغلوك)، ويتجاهل السؤال عن الجهة التي قدمته له.

اختار هيثم وكنيته «أبو مصعب»، سطح منزله مكاناً للقاء. ولم يتخلّ طوال الجلسة التي استمرت نحو ساعتين ونصف ساعة، عن لياقة الضيافة الكريمة وانتقاء ألفاظه الخالية من أي شتيمة. أمر بتقديم القهوة ثلاث مرات متتالية، وأحاط جو الجلسة بالود والشعور العائلي. فبالقرب منه على سطح المنزل، سمح لنجله مصعب الذي قارب التاسعة من عمره بأن يلهو على دراجته الهوائية، وغير مرة سقط الأخير عنها.

وفي المرة الأخيرة، بدا أن مصعب تعرض لصدمة قوية، لكن الوالد أبدى عدم اكتراث به، وهمس قائلاً «دعه يتدبر أمره بنفسه». ربما هذه المرة الوحيدة طوال الجلسة التي ظهرت على الشعبي ملامح القسوة. وعدا ذلك، كانت كل تصرفاته تعاظم السؤال الانطباعي عنه حول ما إذا كان هذا الرجل فعلاً، هو عينه الشعبي الإرهابي والمتهم بقتل أشخاص عديدين وبتنفيذ تفجيرات كثيرة، الخ …
يبتسم أبو مصعب عند ترداد التهمة القضائية ضده على مسامعه، ويقول:«إذا كانوا يقصدون بالإرهاب هو اعتناقي الإسلام وتطبيقي مضمون الآية الكريمة «… ترهبون به عدو الله وعدوكم؛ فنعم إنا إرهابي».

قبل أيام قليلة، نفذ الشعبي آخر عملية عسكرية في سجله العسكري الحافل والمفتوح على قيامه بالمزيد منها في المقبل من الأيام. لقد قاد بنفسه _ على حد قوله _ مجموعة جند الشام التي نزعت الكاميرا التي وضعتها حركة فتح على حاجزها عند مدخل شارع التعمير لجهة عمق المخيم. يروي الشعبي وقائع ما حدث على نحو مغاير تماماً للقصة الشائعة. وأبرز استنتاج تثيره الروايات في المستمع إليها هو أن وقائع أحداث المخيم لا تصل في الغالب كاملة الى خارجه. وسبب ذلك هو أن منظومة العلاقات البينية بين مجموعاته السياسية والأمنية المتنوعة، يظل فيها أسرار لها منزلة المصالح الأمنية العليا للمخيم، والتي تتشارك كل أطرافه على عدم إفشائها «للغير» بغض النظر عن حجم الخلافات الداخلية.

وكان التطبيق العملي لهذه المعادلة خلال أحداث يوم الخميس الماضي. فالخبر المعلن عنها أفاد بأن أحد عناصر جند الشام حطم كاميرا نصبتها حركة فتح على حاجزها لتصوير ما يحدث في شارع التعمير المشغول من جماعة جند الشام. وإثر ذلك حصل تبادل لإطلاق النار أوقع ثلاثة جرحى من الأخيرين. ثم كالعادة تنادى ممثلو الفصائل للاجتماع وحل الخلاف بإرغام جند الشام على القبول بإعادة نصب كاميرا جديدة مكان الأولى.
خفايا ما حدث

لكن خفايا ما حدث كان أمراً آخر. فالهدف الضمني لتنظيم جند الشام من تكسير الكاميرا لم يكن إزالتها بعينها، بل نزع « الضوء الكاشف» الذي نصب بجانبها لتمكينها من تصوير حركة عناصر جند الشام أثناء الليل داخل معقلهم. فخلال النهار تستكين في العادة، بقرار ذاتي، الحركة المرئية لجند الشام داخل منطقتهم، ما عدا وجود غير مرئي لهم مخصص للمراقبة، على حاجز أقاموه في شارع التعمير، وعادة ما يتركونه خالياً من أي ظهور علني لعناصرهم عليه خلال النهار. مع حلول الظلام، فحسب، تنشط تحت ستارته حركتهم اللوجستية والأمنية في«التعمير» .

وداخل منظومة علاقات جند الشام مع باقي فصائل المخيم، يوجد لديهم خط أحمر ممنوع تجاوزه من قبل أي منها وهو «عدم المس بستار الليل في حي التعمير». ويستفاد من حديث الشعبي أن جوهر ما حدث الخميس الماضي، لم يكن بسبب اعتراض جند الشام على تعليق حركة فتح الكاميرا بذاتها، بل على تزويدها بضوء كاشف موجّه نحو منطقة سيطرتها الكائنة في حي التعمير. فهذا الأخير يقسم الى شارعين: الأول خارج الإطار العقاري للمخيم، والثاني داخله. وضمنه توجد منطقة نفوذ جند الشام، وهي محصورة في شارع لا يتجاوز الأربعة آلاف متر مربع وتتفرع منه زواريب تقود إلى أحياء داخلية ضيقة بغالبها. وتقع منطقة نفوذ جند الشام بين ثلاثة حواجز قائمة على نفس خط شارع التعمير؛ الأول يشغله الجيش اللبناني عند مدخل المخيم، يليه مباشرة حاجز للقوة الفلسطينية المشتركة، ووظيفته الفصل بين حاجز الجيش وحاجز جند الشام. أما الحاجز الرابع الذي يقع وراء حاجز هذا التنظيم باتجاه عمق المخيم، فهو تابع لحركة فتح، ومكون تحديداً من عناصر تابعين للواء منير المقدح، ويبعد عن حاجز جند الشام نحو مئة متر فقط.

يقول الشعبي إنه عقب نصب الكاميرا مع ضوء كاشف عند حاجز أبو حسن (يقصد المقدح) وجّهوها الى منطقتنا لكشف تحركاتنا الليلية. اتصلنا بالأخير طالبين منه لأربعة أيام متتالية، تفكيكها، ورغم احترامنا للمقدح، إلا أنه بعد تيقننا بعدم وجود نيه لإزالتها، جهزنا مئة مقاتل لتنفيذ الهجوم والقيام بالمهمة بأنفسنا. وكنت أنا على رأس المجموعة التي نجحت في نزع الكاميرا وتحطيم الضوء الكاشف الذي استحدث فيه. أضاف «أحد عناصر الحاجز نجح في الإمساك بعنصر جند الشام الذي تولى نزع الكاميرا، لكنني نجحت في تحريره بعد إطلاقي خمس رصاصات فوق رأسه» . كان يجب عليّ تحريره لأنه أحد المطلوبين للدولة اللبنانية. ولو ظل في الأسر لكان سلّم (إلى القائد السابق للكفاح المسلح) اللينو الذي بدوره سيسلمه للدولة. ويضيف: «العملية لم تخلف أية خسائر من الطرفين. ولكن مع وصول أخبار ما جرى الى منير المقدح، أعطى الأخير أمراً لعناصر حاجزه بالتعامل مع مواقع جند الشام المقابلة له بالنار، واستخدموا صاروخي ب 7، الأول أصاب مبنى، والثاني انفجر في سماء صيدا، ما أدى إلى جرح ثلاثة من عناصرنا».

وفي جند الشام، يعتبرون أن الاشتباك حقق «هدفه الذكي»، وهو نزع الضوء الكاشف وليس الكاميرا، علماً بأن اجتماع الفصائل الذي عقد لحل الإشكال تقصّد توجيه رسالة إلى الخارج، وهي إبراز مطلب فتح بإعادة الكاميرا الى مكانها، كعنوان يشي بأن الفصائل أرغمت جند الشام على التراجع عن خطئها. لكن التنظيم ساير مخرج الحل هذا، فاشترى كاميرا جديدة سلّمها للمقدح، وتم تعليقها مكان القديمة ولكن من دون ضوء كاشف. وبهذا المعنى، يكون جند الشام قد حقق هدفه الضمني من اشتباك يوم الخميس الماضي، وهو فرض احترام خطها الأحمر على باقي الفصائل. وبموجب ذلك، سيظل شارع التعمير ينعم خلال الليل بالظلمة التي تخفي حركة جند الشام وراء ستارها.

(غداً، حديث عن القتال في سوريا والشيعة والنصيريين ووضع مخيم عين الحلوة).
هذا التحقيق تنشره «الأخبار» بالتعاون مع وكالة «فرانس نيوز تلفزيون ليفانتيكس» للإنتاج، التي ستعرضه ضمن فيلم وثائقي لاحقاً.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.