سيكولوجية العنف واستراتيجية الحرب

america

صحيفة الخليج الإماراتية ـ
محمد خليفة:

فجأة رفعت الولايات المتحدة من سقف لهجتها تجاه النظام السوري، وأعلنت أنها ستقوم بتوجيه ضربة عسكرية موجعة له بذريعة استخدامه السلاح الكيميائي في منطقة الغوطة القريبة من دمشق، وسرعان ما امتلأت الفضائيات بالأخبار، وبما يسمى “بنك الأهداف” التي ستضربها الصواريخ الموجهة، وقاذفات القنابل الأمريكية في سوريا، وتم تحديد يوم الأربعاء 28/8/2013 موعداً لبدء هذه الضربة . ومر الموعد المحدد من دون حدوث شيء يُذكر . وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم السبت الماضي طالب واشنطن بتقديم أدلتها الدامغة على استخدام النظام السوري الأسلحة الكيميائية إلى مجلس الأمن . وأضاف بوتين: “أريد أن أتوجه إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما كحائز جائزة نوبل للسلام، قبل أن تستعمل بلاده القوة في سوريا يجب التفكير بالضحايا الذين سيسقطون” . وفي اليوم نفسه أكد الرئيس أوباما أنه يملك السلطة لاتخاذ قرار الحرب وتوجيه ضربة عسكرية ضد نظام الأسد، ووصف ما حدث في الغوطة بأنه “أسوأ المجازر” التي ارْتُكبت بالسلاح الكيميائي في القرن ال21 .

يذكر أنه منذ بداية الأزمة في سوريا عام ،2011 ظهر هناك اصطفاف دولي على محورين، الأول: يتمثل في الولايات المتحدة والدول الحليفة لها في الغرب والعالم، وهذا المحور بدأ يعمل على تغيير النظام في سوريا . والمحور الآخر: يتمثل في روسيا والصين ودول بريكس، وهذا الأخير يدعم ويساند النظام السوري لأهداف تتعلق بالصراعات الدولية حول مناطق النفوذ . وحاولت الولايات المتحدة ثلاث مرات الحصول على قرارات من مجلس الأمن الدولي لإدانة النظام السوري، لكنها اصطدمت ب”الفيتو” الروسي الصيني المزدوج، واتضح لها أنها أصبحت أمام توازن استراتيجي عالمي جديد، لا يسعها تجاوزه خوفاً من اندلاع حرب عالمية ثالثة ستأتي على الأخضر واليابس في كلا الطرفين . ولذلك توقفت الولايات المتحدة عند حدود مجلس الأمن، تنتظر قراراً أممياً يعطيها غطاءً شرعياً لتنفيذ ضربتها .

هذا الإصرار على توجيه الضربة يعكس تخبطاً داخل الإدارة الأمريكية التي تعاني أزمة اقتصادية طاحنة تكاد تعصف بها كدولة عظمى، ما أدى بالرئيس أوباما لطلب رفع سقف الدين الذي من المقرر أن ينتهي موعده في 15 أكتوبر/تشرين الأول المقبل . وكان أوباما طلب من الكونغرس رفع سقف الدين في يونيو/حزيران 2011 من 3 .14 تريليون دولار إلى 7 .16 تريليون دولار، وذلك بعد أن وصلت إدارته إلى مرحلة الإفلاس، وحصل صراع كبير آنذاك بين الديمقراطيين من جهة، وبين الجمهوريين المعارضين لرفع سقف الدين من جهة أخرى . وقد اقترح الجمهوريون أن تتوقف الإدارة الأمريكية عن دفع خدمة الدين التي تبلغ 500 مليار دولار شهرياً، وأن يتم سداد الدين، وإبراء ذمة الولايات المتحدة تجاه الدائنين، الذين تأتي الصين في مقدمتهم وتليها اليابان .

لكن خبراء الاقتصاد حذروا من أن التوقف عن دفع خدمة الدين ليوم واحد سيؤدي إلى انهيار البورصة العالمية، وبالتالي إلى انهيار الدولار، ولذلك وافق الجمهوريون على مضض .

ومع اقتراب الاستحقاق الكبير في شهر أكتوبر، فقد دخلت الإدارة الأمريكية، وصانعو القرار فيها في حالة التخبط والذهول . فمن الواضح أن رفع سقف الدين من جديد سيراكم المزيد من الديون، وبالتالي دفع المزيد من الفوائد، وفرض المزيد من الضرائب والتكاليف على الشعب الأمريكي، فالإدارة الأمريكية تقترض اليوم فقط لتخدم ديونها .

وكان تصدير الأزمة الكبرى في الداخل الأمريكي إلى الخارج هو السبيل الوحيد لصرف أنظار الشعب الأمريكي عمّا قد يحل به من كوارث . ولأن سوريا لا تزال جبهة صراع وتجاذب بين الولايات المتحدة من جهة وبين روسيا والصين من جهة أخرى، فقد لجأت الإدارة الأمريكية إلى التهديد بشن ضربة عسكرية لها، وتولى الإعلام في الغرب تضخيم هذا التهديد، والحديث عنه كأنه حقيقة واقعة لا محالة، لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فقد وقفت بريطانيا ضد الحرب على سوريا بعد أن أخفق رئيس وزراء بريطانيا في كسب موافقة البرلمان على الحملة العسكرية . وإذا لم تشترك بريطانيا التي يتبعها عدد من الحلفاء كأستراليا ونيوزلندا وأيرلندا، فلن تنفذ الولايات المتحدة تهديداتها . كما أعلنت ألمانيا من قبل على لسان ميركل أن حل المشكلة السورية ينبغي أن يكون دبلوماسياً لا عسكرياً، وبالتالي فقدت الولايات المتحدة أبرز حليفين لها في أوروبا باستثناء فرنسا التي أيدت الولايات المتحدة في خطتها العسكرية .

إن تصدع التحالف الأمريكي  الأوروبي الذي شارك من قبل في غزو العراق، وأفغانستان يشي بواقع جديد ألا وهو تغير موازين القوى على الأرض، فالبريطانيون يعلمون خلفيات التصعيد الأمريكي وأنه بسبب الإفلاس المالي، ولذلك فهم لا يريدون أن يقعوا في فخ قد لا يستطيعون الخروج منه . وكذلك يعلمون أن لكل حرب مآسيها وآلامها وتداعياتها، وقد تؤدي إلى تفجير النزاعات العرقية، كما هو الحال في معظم مناطق تفجر النزاعات العرقية، وقد يكون الثأر مروعاً بحيث تتواصل حلقات العنف والعنف المضاد عبر أجيال وأجيال، وإلى صفحة مقيتة وبائسة في تاريخ الأمة العربية .

فالحرب أودت بحياة زهرة شباب المجتمع وما زالت، فيكفي مشاهدة المحطات الفضائية، حيث تتجلى صور مشاهد الدمار على الأرض العربية، فالعراق لا يزال ينزف جراحاً لم تلتئم بعد، والجرح الفلسطيني لا يزال غائراً، وتأزم الموقف الليبي، وتذبذب الموقف اللبناني .

إن عقلاء الغرب يدركون الفظائع والمآسي التي ارتكبتها دولهم في الأوطان العربية الجريحة، وهو لايزال ينزف تشرذماً وفرقة وتصارعاً، وبدل أن تتدخل يد الغرب لتضميد جراحه، ولم شعثه، وتوحيد ترابه، ومساعدته على النهوض والتحضر، إذا بها تمد أيديها لتزيد جراحه جرحاً، وتطيل أمد آلامه نزفاً، وتزيد ثوبه الممزق خرقاً . ولن ينسى التاريخ من سطروا صفحاته وخضبوها بدماء البؤساء والفقراء، ومن امتصوا دماء الشعوب، ونهبوا خيراتها، وأشاعوا الفرقة بين أبنائه؛ ليقتل بعضهم بعضاً بدم بارد، يلعن قاتليه، ويلعن من سكتوا على سفك دمه، ومن أيدوا، ومن باركوا . في مأساة القاتل فيها عربيّ، والمقتول فيها عربيّ، والسلاح فيها غربي . استفيقوا يرحمكم الله .

كفى حرباً وقتلاً! ما نحتاجه اليوم بالدرجة الأولى هو التصالح مع أنفسنا، وبناء جسور الثقة، وعودة اللحمة العربية للتآزر والتراحم من جديد، ونبذ روح الغدر والتهميش وسيكولوجية العنف .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.