«عشّ الدبابير» لا يفرغ: جنين تفاجئ العدو مجدّداً

صحيفة الأخبار اللبنانية:

وصفت السلطة الفلسطينية استشهاد ضابطَيها بـ»الإعدام» و»الاغتيال» (أ ف ب )

في وقت كان فيه الهدوء يسود مدينة جنين، بعد يوم من إطلاق مقاومين النار على حاجز الجلمة، تسلّلت قوة خاصة إسرائيلية إلى المدينة تحت جنح الظلام، لاستهداف مطلوبين لها من «سرايا القدس». كان من المقرّر أن تنهي عمليتها، كما العادة، في أقلّ من دقيقتين، لكنّ اشتباكات مسلحة عقّدت المشهد، وسط تدخّل مفاجئ لأمن السلطة، لتنتهي العملية باستشهاد مقاوم من «سرايا القدس» وضابطَين من أمن السلطة.

يقول مصدر، لـ»الأخبار»، إن الحكاية بدأت منذ مطلع العام الجاري، عندما اقتحم جيش العدو منازل عائلة الأسيرَين المحرَّرين جميل العموري ووسام أبو زيد في مخيّم جنين ووادي برقين، وحطّم محتوياتها ومعها عدّة مركبات، لكنه فشل في اعتقالهما، ليصبحا منذ ذلك الوقت مطلوبَين للاحتلال أو «مطاردَين» وفق التسمية الفلسطينية. وينتمي العموري وأبو زيد إلى حركة «الجهاد الإسلامي»، وكانا يمتلكان بنادق وذخيرة، سرعان ما استعملاها لشنّ هجمات مسلّحة على عدّة حواجز وأهداف إسرائيلية من بينها: حاجز الجلمة، ومعسكر سالم، قرب جنين. وعلى رغم تواريهما عن الأنظار، إلّا أنهما ظهرا ملثّمَين برفقة عدد من المسلّحين الذين عرّفوا عن أنفسهم بأنهم من «سرايا القدس» إبّان العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة. وألقى العموري بياناً باسم «السرايا» خلال العدوان، طالب فيه «كلّ الشرفاء مِمّن يمتلكون سلاحاً في الضفة الغربية بأن لا يطلقوا النار في الهواء، لأن البندقية أمانة وصونها واجب، وينبغي توجيهها نحو الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه». وتوعّد المقاتل الملثّم، جيش العدو، بتصعيد المواجهة ردّاً على العدوان في غزة وحيّ الشيخ جراح والأقصى.
تفيد مصادر «الأخبار» بأن غالبية عمليات إطلاق النار صوب حاجز الجلمة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة شارك فيها العموري ورفيقه أبو زيد، فيما تجنّب جيش العدو اقتحام مدينة جنين ومخيّمها خلال فترة المعركة الأخيرة. ووفق إحصائية وصلت إلى «الأخبار»، فإن الحواجز والمعسكرات المحيطة بمحافظة جنين تعرّضت لإطلاق نار أكثر من 12 مرّة منذ بدء معركة «سيف القدس» وحتى يوم الأربعاء الماضي. لكن أوّل من أمس، يبدو أن العدو قرّر الوصول إلى المطاردَين جميل العموري ووسام أبو زيد، ليُخصِّص لذلك قوة خاصة تنكّرت بلباس مدني (مستعربين)، ولاحقت مركبة يستقلّها المطلوبان في شارع الناصرة في مدينة جنين. وعند اقتراب إحدى المركبتين من الأخرى قرب مقرّ جهاز الاستخبارات التابع للسلطة، دار اشتباك مسلّح بين المقاومين و»المستعربين».

وعلى عكس ما كان متوقّعاً لدى «الشاباك» والقوات الإسرائيلية الخاصة، تَعقّد مشهد العملية التي لا تستمرّ عادة أقلّ من دقيقتين في المكان، نظراً إلى وقوع شارع الناصرة على مدخل جنين وليس في مركز المدينة مثلاً. إذ فوجئ ضبّاط الاستخبارات الفلسطينية وعناصرها بسماعهم إطلاق نار متبادلاً، خصوصاً أن أمن السلطة لم يكن قد تلقّى بلاغاً من العدو عن اقتحام المنطقة المصنّفة «أ» وفق «اتفاق أوسلو»، وهذا يعود إلى طبيعة المهمّة المحاطة بالسرّية وكونها «غير روتينية» أو تهدف إلى اعتقالات عادية. ولذا، ترجّل عدد من عناصر الاستخبارات، وأطلقوا النار في محاولة للسيطرة على الموقف، الذي كان يوحي بداية بأن مركبتَين مدنيتَين تطلق إحداهما النار على الأخرى. وعلى الأثر، ردّ جنود القوة الخاصة التابعة للعدو بإطلاق النار باتجاه أمن السلطة ومقرّ الاستخبارات، ما أدّى إلى تجدّد الاشتباك للمرّة الثانية، ليستمرّ عناصر الاستخبارات الفلسطينيون في إطلاق النار بعد علمهم بأن الحدث يجري بوجود قوة خاصة إسرائيلية، وليستشهد بفعل ذلك الضابطان تيسير العيسة وأدهم عليوي. وفي أعقاب تلك التطوّرات، دفع العدو بتعزيزات عسكرية تشمل آليات وناقلات تتبع وحدة «اليمام» الخاصة، قبل أن يستولي على مركبة المقاومين مع ترك الشهيد العموري داخلها، وسحبها بواسطة آلية أثناء الانسحاب من المكان.
السلطة الفلسطينية وصفت استشهاد ضابطَيها بـ»الإعدام» و»الاغتيال»، من دون الإشارة إلى خوضهما اشتباكاً مسلّحاً مع العدو، فيما أشادت حركة «فتح» على لسان نائب رئيسها، محمود العالول، بتصدّي المؤسسة الأمنية لقوات الاحتلال. وحمّل الناطق باسم رئيس السلطة، نبيل أبو ردينة، من جهته، الحكومة الإسرائيلية مسؤولية التصعيد الخطير في جنين وتداعياته، وطالب «المجتمع الدولي» بتوفير الحماية للشعب الفلسطيني، فيما أكد مدير جهاز الاستخبارات في جنين، طالب صلاحات، أن العدو أعدم الشهيدَين العيسة وعليوي أثناء عملهما في الحراسة الليلية لمديرية الاستخبارات. أمّا محافظ جنين، أكرم الرجوب، فقال إن «المؤسسة الأمنية الفلسطينية لن تكون إلّا في المربع الذي تريده قيادة السلطة الفلسطينية». وأشادت الفصائل الفلسطينية، بدورها، بتصدّي عناصر أمن السلطة للعدو، ودعت إلى وقف كلّ أشكال «التنسيق الأمني»، وإعادة صياغة عقيدة أمن السلطة للسماح له بالتصدّي للعدو بعيداً عن قيود «اتفاقات أوسلو»، فيما نعت حركة «الجهاد الإسلامي» شهيدها جميل العموري الذي ارتقى خلال اشتباك مسلّح، بعد مشاركته في تنفيذ سلسلة من العمليات ضدّ الاحتلال في شمال الضفة الغربية.
يؤكد السياق التاريخي، كما الأحداث الأخيرة، أن جنين تظلّ «عشّ الدبابير» كما سمّاها آرييل شارون. إذ إنها المحافظة الفلسطينية الوحيدة التي لا تعرف الهدوء في الضفة، والتي لا تزال تشهد اشتباكات مسلّحة وعمليات إطلاق نار فدائية من دون أيّ اعتبارات لظروف سياسية. فحيازة البنادق عند الشباب الفلسطيني في المدينة ومخيّمها أشبه بـ»هواية». كما أن «معركة نيسان» خلال الانتفاضة الثانية بقيت محفورة في العقل الجمعي للأجيال المتلاحقة، وهذا ما يفسّر استعصاء الشباب على «التدجين» في جنين، التي قد يتفجّر في أيّ لحظة اشتباك مسلّح أو عملية ضدّ العدو الإسرائيلي انطلاقاً منها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.