فرنجية يتجاوز أزمة الـ 2016: مع حزب الله في الصغيرة قبل الكبيرة

موقع قناة الميادين-

غسان سعود:

سواء كان الأمر مدروساً أو لا، فإن فرنجية، الذي تراجع إلى الظل أكثرَ من عامين، اختار اللحظة الملائمة للعودة، مستفيداً من أربعة عوامل.

قبل الانتخابات الرئاسية، هناك استحقاق الانتخابات النيابية بالنسبة إلى رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، بحيث كان يُفترض أن يحلّ المرشحون المحسوبون على فرنجية محل مرشحي القوات على لوائح تيار المستقبل في عكار وبعلبك – الهرمل، كما كان يُفترض أن يمنح تيار المستقبل أصواته من دون قيد أو شرط للائحة فرنجية في دائرة بشري – زغرتا – الكورة – البترون، بموازاة تنسيقهما بجدية في زحلة (حيث ميريم سكاف)، وصيدا – جزين (حيث آل عازار)، والبقاع الغربي (إذا قرّر النائب إيلي الفرزلي الانضمام أيضاً إلى تكتل فرنجية النيابي)، في ظلّ معرفة فرنجية أن لهذا الاستحقاق الانتخابي النيابي، في كل ما يستوجبه من مراعاة لشروط التحالفات، انعكاساً كبيراً على الاستحقاق الانتخابي الرئاسي.

ومع ذلك، فإنه لم يتوقف أبداً عند رأي تيار المستقبل في مساندته وزيرَ الإعلام المحسوب عليه، في مواجهة الهجوم السعوديّ العنيف، تماماً كما لم يحسب أي حساب لأصوات ناخبيه وناخبي البيوتات السياسية المتحالفة معه (في كسروان وزحلة وجزين وسائر الأقضية)، والذين يخشون على مصالحهم من التداعيات الاقتصادية والمالية لموقف فرنجية، وخصوصاً أن حاشية البيوتات المسيحية التقليدية السياسية راكمت، منذ عقود بعيدة، الاستثمار في قطاعات المقاولات والبنية التحتية والتجارة والمطاعم في هذه الدول، مستفيدة، في أشكال متعددة، من العلاقات التاريخية الوطيدة بين أمراء السعودية والكويت وقطر والبيوتات السياسية المسيحية.

وبالتالي، فإن لدى هؤلاء ما يخشون عليه، ويمكن لموقف فرنجية أن يمثّل إحراجاً كبيراً لهم. ومع ذلك، فإن رئيس تيار المردة كان واضحاً وحاسماً في تموضعه إلى جانب حزب الله في هذه المعركة، كما في معركة إيقاف تصفية الحسابات السياسية على ظهر التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، كما في معركة الطيونة.

وسواء كان الأمر مدروساً أو لا، فإن فرنجية، الذي تراجع إلى الظل أكثرَ من عامين، اختار اللحظة الملائمة للعودة، مستفيداً من أربعة عوامل:

أولاً، حسم التنافس الإقليمي على النفوذ في لبنان بين إيران والسعودية، بانتصار ساحق لإيران من دون أيّ مجال للشك. ويكفي المشكّكين المتفلسفين أن يقارنوا بين إخلاء السعوديين سفارتهم في وقت يبني الإيرانيون سفارة جديدة أكبر بسبعة أضعاف من سفارتهم الحالية، بينما تُنهي السعودية علاقتها بلبنان، دبلوماسياً واقتصادياً، من دون أن يستقيل وزير واحد أو نائب أو دبلوماسيّ. وما ربطهم جميعاً استقالتَهم بالموقفين الفرنسي والأميركي، سوى إعلان واضح وصريح، مفاده أنهم ينتظرون الأمر من فرنسا وأميركا من دون أيّ مبالاة بالسعودية، حتى لو ربطوا الأمر لاحقاً بالتضامن مع المملكة، في ظل معرفة فرنجية أن كل ما سبق للرئيس ميشال عون أن قاله عن الخليج بصورة عامة، والسعودية بصورة خاصة، لم يَحُل دون انتخابه رئيساً للجمهورية بمجرد أن قال حزب الله كلمته الشهيرة: هذا مرشحنا لرئاسة الجمهورية، ولا رئيس آخر. والأكيد، في هذا السياق، أن فرنجية يعلم بأن من يربح ثقة العالم كله ويخسر ثقة حزب الله، إنما يطيح مستقبلَه السياسي، لأن لحزب الله الكلمةَ الأساس في أي استحقاق مقبل.

ثانياً، تراجع التيار الوطني الحر في المعارك السياسية المفتوحة حالياً (المرفأ والطيونة والأزمة مع السعودية) خطوتين أو أكثر إلى الوراء، نتيجة أسباب كثيرة جداً، أوَّلها التعب الشديد، وثانيها المزاج المسيحيّ العام (العونيّ ضمناً) غير المتحمس أو المتفهم لموقف حزب الله في هذه المعارك الثلاث. وهو ما سمح لفرنجية بأن يلقى ترحيباً لا ينازعه عليه أحد، لأول مرة منذ عام 2006، في بيئة حزب الله وماكينتيه الإعلامية والسياسية.

وإذا كان حزب الله يؤكد، في جميع المستويات، على نحو صادق جداً، تفهُّمه كلَّ مواقف التيار الوطني الحر، وخصوصية المرحلة بالنسبة إليه، فإن من الطبيعي أن يتصرف جمهور الحزب ومسؤولوه على اعتبار أنهم لم يجدوا من حلفائهم المسيحيين إلى جانبهم في هذه المعارك الثلاث الآنية غيرَ المردة، مع العلم بأن أغلبية الجماهير الحزبية تتعامل “على القطعة”، بعضها مع بعض، فتسارع إلى تناسي كل ما سبق وما يمكن أن يحدث مستقبلاً بمجرد حصول تناقض في موقف تكتيكيّ ما، يخص هذه القضية أو تلك.

لا شكّ، هنا، في أن الحسابات الرئاسية تحضر بقوة في هذه النقطة، بحيث لا يوجد لرئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، بصفته مرشحاً لرئاسة الجمهورية، غيرُ حليف ثابت وحيد هو حزب الله، لا ينافسه أحد في خطف ودّه، وإذْ بفرنجية يحافظ على داعميه للرئاسة، ويحاول اللعب في ملعب باسيل، ولو على مستوى جمهور الحزب بداية، لا قيادته.

ثالثاً، وجود رأي عام مناهض لقوى 14 آذار متعطّش لمواقف حادة جداً في شجاعتها، وعدم تردّدها في مواجهة الفريق الآخر، تماماً كما فعل الرئيس عون حين توجه إلى الرئيس أمين الجميل، المرشَّح عن المقعد النيابي الشاغر بعد مقتل ابنه، بالقول إنه “لا يصل إلى تحت زناره”، أو كما كان يدافع، بكل حماسة وإيمان، عن تفاهم مار مخايل، من دون ترك أي مجال لأي كان في التيار، أو حتى خارجه، للتشكيك في خياراته، أو كما فعل عبر ذهابه إلى دمشق، ثم حلب، من دون سؤال عن استطلاعات الرأي أو رأي التلفزيونات. وهذا الرأي العام وازن ومهم وكبير لدى المسيحيين، بالمناسبة.

رابعاً، حاجة حزب الله إلى شريك مسيحي لا يحسب أي حساب أمنيّ، أو سياسيّ، أو انتخابيّ، لتداعيات المواجهة المفتوحة مع رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع.

إذا كان فرنجية وُفِّقَ في هذه العوامل الأربعة للعودة بقوة إلى المشهد السياسيّ، فإنه استفاد، من دون شكّ، من ثبات وزير الإعلام جورج قرداحي، الذي تعرَّض في نهاية الأسبوع لضغوط لا توصف، وخصوصاً حين دخلت مرجعيته الروحية، المتمثِّلة بالبطريركية المارونية، على خط الضغط، مع العلم بأن الاستخبارات السعودية تتّكل على مجموعة كبيرة من المغتربين الذين يرسلون آلاف رسائل “الواتساب” الودية على أرقام المعنيين لحثهم على الاستقالة أو الاعتذار، بسبب ما في ذلك من مصلحة وطنية وحماية للجالية اللبنانية في الخليج.

ومع ذلك، سُرعان ما تبيَّن أن المارونيّ الكسروانيّ الإعلاميّ غير العقائدي، وغير الملتزم سياسياً بحزب معيّن، إنما هو أكثر ثباتاً وقدرة على الصمود في وجه الضغوطات من سياسيين كثر. وهو وجد لنفسه مخرجاً ذكيّاً جداً، حين قال، في المجالس البطريركية الخاصة، إن استقالته واردة فقط إذا كان من شأنها حل الأزمة، ليتَّضح بسرعة أن الأزمة لا علاقة لها، من قريب وبعيد، بتصريح قرداحي الذي استُخدم كعذر سخيف فقط من أجل افتعال أزمة سياسية في البلد. ولا شكّ في أن فرنجية استفاد أيضاً وأيضاً من صداقته الواسعة بالإعلام المناوئ لحزب الله، الذي كان أداؤه سيصبح مغايراً بالكامل لو أن الوزير المشكوّ من تصريحه محسوبٌ على رئيس الجمهورية، وكان سيحمّل مرجعية الوزير السياسية المسؤوليةَ الكاملة، وتبدأ حفلة الندب والطبل والزمر. أما في حالة قرداحي، فلم يهاجم أحد المرجعية السياسية التي سمَّته لتولي الحقيبة الوزارية، وبقي التصعيد اللبناني، إعلامياً وسياسياً، محدوداً جداً.

في النتيجة، كان فرنجية منكفئاً على مستوى وصل بعض ما انقطع مع حزب الله منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة، مكتفياً بتوطيد العلاقة مع الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط والرئيس نبيه بري، ونصف البيوتات السياسية المسيحية التقليدية على الأقل، وكل الآلة الإعلامية الضخمة المناوئة للتيار الوطني الحر أولاً، وحزب الله ثانياً.

فجأة، تراجع التيار الوطني الحر خطوتين إلى الوراء على مستوى مؤازرة حزب الله في معاركه (التي لا يجدها التيار وجودية، أو نابعة من قرار استراتيجي، على غرار معركة السلاح مثلاً، أو المعركة ضد التكفيريين كمثل آخر)، وتقدَّم فرنجية في المقابل خطوتين، على مستوى مؤازرة الحزب في هذه المعارك، في ظل حرص مَرَدِيّ واضح على استعادة ثقة الحزب كاملة، والقول له إن حزب المردة معه في الصغيرة قبل الكبيرة، وفي التكتيك والاستراتيجيا، من دون أن يخسر المردة العلاقة الوطيدة جداً بكل الآخرين، وهو ما عبّر عنه بوضوح في الانتقاء الدقيق جداً لكل حرف في كل كلمة قالها فرنجية في الصرح البطريركيّ.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.