في القواسم العظمى

khomeini1

صحيفة الديار الأردنية ـ
يلينا نيدوغينا*:
في الفكر والرباط العقدي للشرقيين، كان العيش اليومي الاسلامي المسيحي في القرن العشرين في منطقتنا ظاهرة طبيعية، لأن المسيحيين والمسلمين ينتمون الى هذه المنطقة منذ البدء، ولأنهم كذلك مِن عِرق واحد لم تختلف ألسنتهم ولا تركيبتهم السيكولوجية والسوسيولوجية عن بعضهم البعض. وعلى الجانب الآخر، في التجربة الإيرانية على سبيل المِثال، حافظ أركان النظام الجديد، الخمينيِ، على علائق طيبة مع المسيحيين ويهود إيران حتى، فقد كانت مجموعة من مسيحيي هذا البلد من قوميات غير فارسية، أما اليهود ووفقاً للمراجع فهؤلاء فارسيون ينتمون الى أرضهم وشعبهم.
قيادة الخميني للشعب الايراني منذ عودته الى طهران، بعد قضائه شهرين و25 يوماً في فرنسا، لم تكن إلا بالليّن والحُسنى، وشمل هذا الأُسلوب الأقليات والطوائف الصُغرى ومنها المسيحية. فقد روّج النظام الأمريكي كثيراً، ومعه الاسرائيلي، الى حملات قمع يقوم بها النظام الايراني الجديد، الذي حل محل البهلوي البائد، رغبة بدفع المسيحيين والأقليات الى مغادرة الدولة، فاختلاق مشكلة دينية دولية من شأنها زعزعة أركان الثورة الجديدة، التي أطلقت عنان الشعب الايراني في مكاسرة واشنطن وتل أبيب بعد اندحار هذين النظامين عن رقعة جغرافية إستراتيجية كانت تحتضن عمليات الاستعمار بأشكاله التقليدية وشرطيه الأوسطي.
كان الخميني رجل دين مُستنير، إطّلع على الثقافات والحضارات الأخرى وإدركها، وعندما أقول “أدركها” فإنما أقصد بأنه أعمل العقل فيها، ففهمها عن قُرب وهضمها واستفاد منها، ليترك عليها بصمات باقية الى اليوم، إنسحبت بدورها على الممارسات الحياتية الإسلامية والإنسانية والدولية, وجُلّها يعبّر عن مضامين شرعية في عصر جعل قيام الدول المعاصرة يعتمد على ألوان شتى من المكر والخداع والتدليس, لتستند بالتالي الى قوى غاشمة واستكبارية, فاهتمت هذه بمكانة إقتصادها دون رعاية النظامين الأخلاقي والإنساني, مما أوصل مجاميع الناس الى دمار في العقول والقلوب والعلاقات.
كثيراً يتحدثون عن علاقات الخميني مع المسيحيين في منفاه في فرنسا، التي عَرَفَ فيها المسيحيون كم كان “الرجل” مُحبّاً للعلاقات معهم. فقد كان الإمام يأمر بتهنئة جيرانه من العائلات المسيحية في أعيادها وتقديم الورود إليها مرفقة بكلمات التهاني الرقيقة والقلبية، إذ أنه أراد بهذا الفِعل الهادف التعبير الجاد عن مكنوناته وإنسانيته المتقدّمة، كما وقد ارتسمت فيه ملامح واضحة للهوية الاجتماعية للنظام الجديد الذي كان الخميني يستعد لقيادته، فهذا الفِعل الذي عبّر عن تقرّب الخميني من المسيحيين، كان إتّسم بالبساطة والعفوية في الشكل، إلا أن الخميني أرساه مَعلماً كبيراً في محطة تاريخية فاصلة وقتها ونبراساً لرفاقه في المستقبل ليكونوا مُستنيرين على مِثاله، وليؤكد به للعالم أجمع وفي ترجمة واقعية لأفكاره، وجهة الرجل الكبير الدينية والفكرية وسلوكياته وعقليته وسبيله الذي سيثبّت أوتاده في إيران المتحررة. وفي إحدى المرّات عَلِمَت الصحافة الفرنسية بالأمر، فحضر جمعٌ كبيرٌ من المراسلين الصحفيين إليه لإستطلاع الأمر، ولرؤية “رجل الدين” هذا المختلف عنهم شكلاً ومضموناً، والذي يوزّع الهدايا على الفرنسيين في عيد ميلاد السيد المسيح، فكان أمره حدثاً غير مسبوق على أرض دولة أوروبية غربية. وكم يشبه اليوم يوم البارحة. فقد أجاب الخميني على سؤال لأحد الصحفيين الفرنسيين المجتمعين حوله أنذاك عن السبب الذي يكمن وراء عدم وجود أصدقاء دوليين لحركته المُعَارِضة للنظام البهلوي، فقال أن بلاده دولة غنية خاصة بالنفط، وقد توجه اليها الطامعون من كل حدب وصوب، وعلى رأسهم أمريكا التي تريده مجاناً لنفسها.. وعندما نقول لها بأن موردنا ونفطنا لنا، فمن الطبيعي أن تهبَّ لمعارضتنا.
وبالطبع عندما فقد كان الإمام المستنير يستشعر بأن قدسية التعايش بين الشعوب إنما يمر من خلال التعاون البنّاء فيما بينها، كذلك ما بين أتباع الأديان التوحيدية الذين يتقاسمون مبادئ سماوية وأخلاقية سامية واحدة، وتربط جميعهم بقواسم عقدية كثيرة وعظيمة أولها الله العلي العظيم الذي هو خالق الجميع كل الأشياء، والذي مآل الجميع إليه. ففي كلمته في احتفال أقامته السفارة الإيرانية في بيروت لمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لرحيل مفجر الثورة الإسلامية في إيران، الإمام الخميني، شدّد الكاثوليكوس أرام الأول، الذي تحدث بإسم المطران الأرمني كينام خاتشاريان، على أن الإمام الخميني لم يكن مجرد شخصية عادية بل كان قائداً فتح صفحة جديدة في تاريخ ايران المعاصرة، كما بيّن بأن الإمام تمكّن من إعطاء الحوار الاسلامي المسيحي دفعاً جديداً، مؤكداً بأن مستقبل الإنسانية مرهون بقدسية التعايش بين الشعوب والأديان والثقافات.. فكلما تعايشت الشعوب في حرية وسيادة واحترام لحقوق الإنسان، لاحَ مستقبل الإنسانية مشعاً بالرجاء وهو الذي سعى الخميني الى تطبيقه.
وبالرغم من الهجمات المكثفة التي شنتها الصحافة الأمريكية على الخميني وبالتالي هجرة عدد كبير من المسيحيين الإيرانيين إلى أمريكا، وكان في الواقع عملية تهجير قسرية مارستها الصحافة الأمريكية بوعي من خلال زرع هستيريا دينية في أوساط المسيحيين، إلا أن البقية الباقية من المسيحيين في إيران ومنذ ثورة 1979 الإسلامية، يتمتعون بالحرية الدينية الى جانب اليهود والزارادشتيين وغيرهم. فالدستور الإيراني “الجديد” أنذاك، ضَمِنَ للاقليات الدينية والمرأة المسيحية حرية إتّباع شرائعها الخاصة في ما يتعلق بأمور الأحوال الشخصية، مع الحفاظ على الشريعة الإسلامية نظاماً قانونياً للبلاد، ولم يُمنع المسيحيون عن الوظائف العامة. ويتمع المسيحيون والنساء المسيحيات والأقليات الدينية برعاية الحكومة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهذه الأقليات تحتمي في إطار القوانين الإسلامية، بحريات ثقافية واجتماعية وسياسية واسعة تلاقياً مع فكر الخميني الذي تطلع الى إيجاد دولة إيرانية متحدة ومتراصة على اختلاف قومياتها وأديان ومذاهب أهلها. فمنذ انتصار الثورة الايرانية برز في المنطقة، وبتأثير منها في العالم، فكر يدعو الى التلاقي المسيحي الاسلامي على قاعدة ليس القواسم المشتركة فحسب، وهي قواسم عقيدية وتاريخية، إنما أيضاً وفي مجرى البحث العقلاني والهادئ عن حياة مشتركة غنية بمضامينها، تستند الى مفهوم “الإثراء المعنوي” للنصوص الدينية، فالنص المقدس لا يمكنه أن يُثري القارئ إلا إذا أثرى القارئ النص وتفاعل معه على مستوى التفسير، فأصبحنا نرى نقاشات مستفيضة على مستويات عديدة ومنها في أوساط المثقفات تضم مسلمات ومسيحيات، تسعى إلى ترسيخ وتعزيز العلاقة بين الحركة النسائية والإيمان، وضرورة إعادة قراءة المجتمعات للنصوص الدينية باستنارة وانفتاحية ليؤدي ذلك إلى الانخراط في المجتمع بفعالية والمشاركة في شؤونه، مما يعطي المرأة دفعاً جديداً لتشعر بنفسها كائناً رئيسياً وفاعلة إجتماعياً. لذا تستمر إيران المعاصرة تسير على هدي وصية الخميني، فتقيم علاقات ودية مع الطوائف والهيئات المسيحية في المنطقة، ويندر رؤية إحتفال تقيمه سفارات إيران في المنطقة بدون تواجد مسيحي فيه، بحيث أدى الى رغبات مسيحية متزايدة بمعرفة أوسع عن إيران وسياساتها المُستنِدة الى قائدها الراحل الإمام الخميني رحمه الله ونهجه المُوَحِّد (بكسر الدال) للمسلمين والمسيحيين في قواسمهم العظمى أبداً.
*كاتبة روسية من الاردن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.