كازاخستان تختار الخط الأوراسي الحليف لروسيا والصين وإيران

موقع العهد الإخباري-

جورج حداد:

الكازاخ والعرب

هناك فكرة سائدة هي أن العلاقة التاريخية بين العرب وكازاخستان تنحصر في توسع الفتوحات العربية الاسلامية القديمة ووصول الإسلام، بهذه الواسطة، الى آسيا الوسطى ومنها كازاخستان.

ولكن الواقع التاريخي للعلاقة بين كازاخستان وآسيا الوسطى عمومًا وبين العرب، هي أعمق من ذلك وأكثر تعقيدًا. يمكن القول إن كازاخستان كانت في القرن الثالث عشر أحد معابر الاجتياح المغولي لروسيا من ظهرها. وقد أسفرت معركة عين جالوت وما تلاها من معارك المماليك ضد المغول عن نتيجتين: الاولى هي ازاحة المغول عن سوريا الكبرى والعراق، والثانية سلبية هي ترسيخ حكم المماليك بالنظر اليهم كمُحررين، والنظر الى الظاهر بيبرس كبطل إسلامي قاد تحرير الدولة العربية – الاسلامية من المغول.

كانت كازاخستان تاريخيًا اقليمًا جغرافيًا شاسعًا، تقطنه قبائل رحّل، رعوية – بدوية، طورانية (تركية قديمة). وقد غزاها في مراحل مختلفة ملوك الفرس والصينيون والمغول والقياصرة الروس. وفي القرن الثامن عشر دخلت كازاخستان كليًا في قوام الدولة الروسية القيصرية. والى اليوم فإن قسمًا كبيرًا من الرأي العام الروسي لا يزال يطالب باعادة كازاخستان الى كنف الدولة الروسية، كما كانت قبل سنة 1917.

وبعد قيام الثورة الاشتراكية الكبرى في روسيا في 1917، والاطاحة بالقيصرية، طرح الشيوعيون الروس لأول مرة في التاريخ شعار حق تقرير المصير للشعوب. وبناء على هذا الشعار الانساني، القومي – الاممي، قام الشيوعيون الروس والكازاخستانيون بفصل كازاخستان عن الدولة الروسية، وشكلوا في 1918 الدولة الكازاخستانية لأول مرة في التاريخ بوصفها “جمهورية كازاخستان الاتحادية الاشتراكية السوفياتية”.

ولكن هذه البقعة الجغرافية الشاسعة، المأهولة بالعشائر البدوية المبعثرة، لم تكن تملك أي مقومات لقيام دولة. وخلال المرحلة السوفياتية، وتلبية لنداءات الحزب الشيوعي (البولشفيكي)، انتقل للعيش في كازاخستان مئات ألوف الشبان والشابات الروس، من العلماء والخبراء والاختصاصيين والمثقفين والعمال المهرة والمزارعين الطليعيين، متطوعين للعمل على اخراج كازاخستان من المرحلة البدوية للقرون الوسطى وادخالها في القرن العشرين. ويعود لهؤلاء المتطوعين الروس، ثم ابنائهم وأحفادهم، الذين ولدوا على الارض الكازاخستانية، الفضل الأول في تشييد كازاخستان جديدة تَمثّل في بناء المؤسسات الصناعية، ولا سيما الصناعة المنجمية والتعدينية، والزراعية الكبيرة الممكننة، وشق الطرقات ومد السكك الحديدية، وبناء الجسور والانفاق وشبكات الكهرباء والمياه والمدن والجامعات والمعاهد ورياض الاطفال والمستشفيات والمسارح ودور السينما وكل اشكال العمران الاخرى.

وقد أنفقت الدولة الروسية السوفياتية الوف مليارات الروبلات، المأخوذة من عرق وجهد وضنك وجوع أجيال من الكادحين الروس، لانشاء مقومات الدولة الكازاخستانية الجديدة. وكان أهم انجاز على هذا الصعيد الحضاري هو تشكيل الطبقة العاملة الكازاخستانية، وجماهير الفلاحين المرتبطين بالزراعة المعاصرة، ومكافحة الأمية وتعميم التعليم وتشكيل شريحة واسعة من الانتلجنسيا، من المثقفين والمتعلمين الكازاخستانيين. وبنتيجة هذا الدور التنموي، التحضيري، التثقيفي والتعليمي الذي اضطلع به المواطنون الكازاخستانيون من أصل روسي، وبدعم مالي واقتصادي وعلمي شامل من قبل الدولة الروسية – قلب الاتحاد السوفياتي السابق – أصبحت اللغة الروسية واسعة الانتشار وتعتبر مع اللغة الكازاخية اللغتين الرسميتين للدولة الكازاخستانية الجديدة.

ولكن في الوقت ذاته وُجد في كازاخستان تيار معاد لروسيا، ويحن الى العصر الرعوي.

لمحة عامة

لدى انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991، كانت كازاخستان آخر جمهورية سوفياتية أعلنت انفصالها عن الاتحاد واستقلالها في كانون الأول/ ديسمبر 1991.

وتعتبر كازاخستان تاسع أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، اذ تبلغ مساحتها 2.700.025 كلم مربع (أكبر من مساحة أوروبا الغربية بمجملها وأكبر 5 مرات من مساحة فرنسا). ولكنها من الدول الأقل كثافة سكانية في العالم، اذ يعيش فيها أقل من ستة أشخاص في كل كلم مربع. وهي تتشكل من جبال منحنية وصحارٍ وسهوب وسهول شديدة الاتساع، صالحة للزراعة الكبيرة والاقتصاد الريفي بكل أشكاله، وقادرة نظريًا على اطعام العالم كله وتأمين جميع المتطلبات الغذائية للعالم أجمع لعدة مرات في الموسم الواحد، فيما لو اقتضت الضرورة ذلك. وتشترك كازاخستان في حدودها مع روسيا والصين وقيرغيزستان وأوزبكستان وتركمانستان، كما تشغل جزءًا كبيرًا من ساحل بحر قزوين المغلق، وتجاور عبره ايران التي تطل أيضًا على بحر قزوين.

وتقع كازاخستان في أوراسيا أي بين أوروبا وآسيا، ولكن معظم الأجزاء الغربية منها تقع في أوروبا. والنقطة الأهم على هذا الصعيد هي أنها تقع بين الصين وروسيا. ويبلغ طول حدود كازاخستان مع روسيا أكثر من 7600 كلم، وطول حدودها مع الصين حوالى 1800 كلم. وكانت كازاخستان أحد أهم ممرات طريق الحرير القديم بين الصين واوروبا قبل 1500 سنة. وهي اليوم تشكل مع روسيا أقصر طريق لمشروع “حزام واحد – طريق واحد” (طريق الحرير الجديد) بين الصين واوروبا. واذا ما تمكنت أميركا وحلفاؤها من فرض حصار بحري على الصين أو توتير الوضع الأمني وتعطيل الملاحة التجارية في البحار المحيطة بالصين، فإن الممرات البرية من الصين الى أوروبا والعالم، عبر الاراضي الروسية والكازاخستانية، تصبح ذات أهمية حيوية استثنائية بالنسبة للصين وللتجارة والاقتصاد العالميين.

وفي العهد السوفياتي كانت كازاخستان مكانًا لعدة مشاريع سوفياتية كبرى ناجحة مثل مشروع “سيميبالاتينسك” ومختبراته النووية، الذي جرت فيه كل التجارب النووية السوفياتية حتى سنة 1989، ومركز “بايكونور” الفضائي الضخم الذي أطلقت منه كل الصواريخ والمركبات الفضائية السوفياتية، والذي أنفقت في انشائه مليارات الدولارات ولا تزال روسيا الى اليوم تستخدمه بصيغة تأجيرية طويلة الأمد.

ويكتسب المركز الفضائي “بايكونور” في جنوب وسط كازاخستان أهمية خاصة بالنسبة لروسيا. وقد كان المركز الرئيسي لبرنامج الفضاء السوفياتي من الستينيات حتى الثمانينيات، إذ تم بناؤه في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي كمركز لتجارب الصواريخ بعيدة المدى، ثم تم توسيعه لاحقاً ليشمل مرافق الرحلات الفضائية، وتم إطلاق أول قمر صناعي، وأول إنسان إلى الفضاء من هناك، ويستخدم الموقع اليوم بكثافة لإطلاق رواد فضاء إلى محطة الفضاء الدولية. ويبعد مركز “بايكونور” عن مدينة موسكو 2100 كلم فقط.

ولكن، ولضمان الاستقلالية التامة للبرنامج الروسي للصواريخ وعلوم الفضاء، عمدت روسيا – وبالاضافة الى متابعة استخدام مركز بايكونور المستأجر في كازاخستان – الى بناء مركز فضائي جديد، في الشرق الاقصى ضمن الاراضي الروسية، على بعد 5500 كلم عن موسكو، وسمي “فوستوتشني” (اي الشرقي)، وهو مركز لاطلاق الصواريخ والمركبات الفضائية، تم اطلاق اول صاروخ منه في 2016، وتم استكمال عملية بنائه في 2018، وبلغت تكلفته مليارات الدولارات.
وبعد اطلاق الرئيس الصيني تشي جين بينغ لمشروع “حزام واحد – طريق واحد” (طريق الحرير العالمي الجديد) في 2012، وظفت الصين مئات مليارات الدولارات في اسيا الوسطى وكازاخستان، لتشييد البنى التحتية البرية والجوية لطريق الحرير الجديد.

ومنذ بداية العمل بمبادرة “الحزام والطريق” في عام 2013، وحتى تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، استثمرت الصين نحو 755.17 مليار دولار في مشروعات الطاقة والنقل والمباني، ومعظم هذه المشروعات تمرّ عبر كازاخستان ودول آسيا الوسطى التي تُعَدّ الممر الرابط بين أوروبا وآسيا والمنطقة العربية وإيران.

ووفقا لبعض التقديرات، تعود لكازاخستان نسبة 40% من التجارة العالمية لليورانيوم، الذي تصنع منه الطاقة النووية أو الاسلحة النووية، ولديها ثاني أكبر احتياطي عالمي من اليورانيوم والكروم والرصاص والزنك، ولديها ثالث أكبر احتياطي من المنغنيز، وخامس أكبر احتياطي نحاس، وتصنّف ضمن المراكز العشرة الأولى في تصدير الفحم الحجري، والحديد، والذهب. وهي أيضا مصدّر للألماس. وعلى غرار روسيا، توجد فيها جميع انواع المعادن، بما فيها بعض المعادن النادرة المفقودة في بقية اصقاع العالم. وربما الأكثر أهمية بالنسبة للتنمية الاقتصادية، فإن كازاخستان لديها أيضا حاليا أكبر احتياطي عالمي مؤكد لكل من البترول والغاز الطبيعي. وتعتبر كازاخستان من أكبر مصدّري النفط والغاز الطبيعي الى الصين، عبر الانابيب البحرية والبرية الممتدة من البر ومن القطاع الكازاخستاني في بحر قزوين الى الصين.

ويبلغ انتاج وتصدير النفط والغاز نسبة 70% من الدخل القومي لكازاخستان. ويبلغ اجمالي الناتج المحلي فيها مرتين اكثر من الناتج المحلي لجاراتها قيرغيزستان وأوزبكستان وتركمانستان مجتمعة، مما يساهم في اعطاء كازاخستان طابع “الاخ الاكبر” لجمهوريات اسيا الوسطى الاسلامية السوفياتية السابقة.

وتستورد كازاخستان من روسيا، تقريبا، جميع حاجاتها الاستهلاكية المستوردة، وتعتبر روسيا الشريك التجاري الاكبر لكازاخستان.

وفي العهد السوفياتي تم أكثر من مرة تغيير الحدود الادارية لكازاخستان، وضم اليها قطاع كبير من سيبيريا الروسية. وكانت هذه التغييرات الجغرافية تعتبر “مسألة ادارية داخلية” ضمن الدولة الواحدة.

وبلغ عدد سكان كازاخستان في 2020 حوالى 19 مليون نسمة، منهم حوالى 4 ملايين نسمة (حوالى 20%) من الروس، مقابل 65% من الكازاخيين، والبقية هم من الاوكرانيين وغيرهم من جميع الدول السوفياتية السابقة ومن الالمان والصينيين (الايغور المسلمين) والكوريين واليهود ذوي الاصل الخزري (الاشكنازي).

وتنتمي كازاخستان الى هيئة الامم المتحدة وجميع المنظمات الدولية الرئيسية، والى منظمة الدول الناطقة بالتركية، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تقودها روسيا، وتضم: كازاخستان، أرمينيا، قيرغيزستان، طاجيكستان، وأوزبكستان. كما تنتمي الى “الاتحاد الجمركي الاوراسي” الذي يضم روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان وارمينيا وقيرغيزستان.

وهي عضو أيضاً في منظمة شنغهاي للتعاون. وهذه المنظمة تضم الصين وروسيا ودول آسيا الوسطى وانضمت إليها إيران مؤخراً، وينظر إليها في الغرب وكأن الهدف منها هو تشكيل معادل لحلف شمال الأطلسي.

وبعد ازاحة الحزب الشيوعي عن السلطة، فإن الحزب الحاكم في كازاخستان الذي ينتمي اليه نزاربايف وتوكايف هو حزب “نور اوتان” (نور الوطن) الذي تأسس في 2006، كوريث لحزب “اوتان” (الوطن). وتأسس “نور اوتان” باندماج عدد من الاحزاب الليبيرالية الصغيرة مع حزب “اوتان”. وهو حزب اسسه نزاربايف سنة 1996، كحزب ليبيرالي حليف لحزب “روسيا الموحدة” الروسي الموالي للرئيس بوتين.

ومنذ استقلال كازاخستان بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991، حكم البلاد الزعيم الشيوعي السابق نورسلطان نزاربايف حتى سنة 2019، حينما قدم استقالته فجأة وحل محله الرئيس الحالي قاسم جومارت توكايف.

ولكن نزاربايف احتفظ لنفسه بمركز رئاسة مجلس الامن القومي في كازاخستان، الذي يمسك بزمام القوات المسلحة العسكرية والامنية في البلاد، وهو ثاني أهم مركز سياسي – عسكري – امني الى جانب مركز رئاسة الجمهورية. وهو ما فسح المجال لنشوء نوع من ازدواجية السلطة في كازاخستان. بل ان بعض المحللين يذهب الى القول ان نزاربايف بقي هو الحاكم الفعلي لكازاخستان، وان الرئيس توكايف لم يكن سوى دمية في يده.

وفي عهد نزاربايف تم الانتقال الى اقتصاد السوق ودخل البلاد الكثير من الشركات الاميركية التي وظفت استثماراتها في قطاع الطاقة بشكل خاص. وتستحوذ شركة “شيفرون” الأمريكية العملاقة على 50% من حقل نفط “تنغيز” الذي يعطي ثلث الناتج السنوي للبلاد.

كما دخلت شركات تركية إلى السوق الكازاخستاني، وحصلت على مشاريع فاقت قيمتها 26 مليار دولار، بهدف تقليص العلاقات مع روسيا.

وخلال حكم نزاربايف تشكلت طبقة من الاوليغارشيا الأغنياء الذين استفادوا من المشاريع الكبرى التي انجزت في البلاد، من أجل مصالحهم الخاصة وتعزيز نفوذهم وتضخيم ثرواتهم.

وصرح وزير سابق في حكومة نزاربايف هو زمان بك نوركاديلوف إنه يجب على نزاربايف الرد على الاقاويل بأن مسؤولين في عهده تلقوا ملايين الدولارات كرشاوى من شركات النفط الأميركية.

وتقول بعض المعلومات الصحفية ان نزاربايف نقل ما لا يقل عن مليار دولار من عائدات النفط إلى حساباته المصرفية الخاصة في بلدان اجنبية. وتتحكم عائلته في شركات رئيسية في كازاخستان.

وينقسم الكازاخيون الى ثلاث قبائل تحمل كلها اسم “جوز” وهي: جوز الكبرى، جوز الوسطى، وجوز الصغرى. وتحكم قبيلة جوز الوسطى البلاد، وينتمي اليها كل من الرئيسين السابق والحالي، نورسلطان نزاربايف وقاسم توكايف.

خطوط الصراع

في المرحلة ما بعد السوفياتية، ولا سيما في العقدين الاخيرين، ظهرت في كازاخستان، وتقاطعت وتضافرت، وتنافست وتضاربت، عدة خطوط جيوسياسية رئيسية، يمكن تشخيصها في ما يلي:

1 – الخط الروسي – الصيني وتدعمه ايران:

باعتبار كون كازاخستان جمهورية سوفياتية سابقة، فإن الحدود الروسية الطويلة جدا معها، وكذلك الحدود الصينية الطويلة، كانت بمثابة “حدود داخلية”، ولم تكن مهيأة ومجهزة دفاعيا كحدود مع عدو واقعي أو محتمل، كما هي حال الحدود الغربية لروسيا، أو الحدود الشرقية للصين. ولذلك فإن الحدود مع كازاخستان تعتبر الى حد ما بمثابة “خاصرة رخوة” دفاعيًا لكل من روسيا والصين.
ويزيد الطين بلة على هذا الصعيد أن جميع مواطني كازاخستان والجمهوريات السوفياتية السابقة لا يزال يحق لهم الدخول الى الاراضي الروسية والتنقل والاقامة والعمل فيها، بدون تأشيرات دخول (فيزا) مسبقة وبدون تصاريح خاصة. وهذا ما يسهل على أي قوة معادية منظمة، استغلال هذا الوضع على امتداد حدود طولها الاف الكيلومترات.

وبالمقابل فإن لكل من روسيا والصين مصلحة رئيسية في الحفاظ على الاستقرار في كازاخستان، وعلى علاقات صداقة وثيقة معها، باعتبارها جزءا مهما من مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، وبوابة رئيسية لطريق الحرير إلى آسيا الوسطى، ومنها الى اوروبا، وباعتبارها مؤهلة كي تضطلع بدور جسر تواصل اوراسي متعدد الاتجاهات، بين روسيا والصين والاتحاد الاوروبي وايران والعالم العربي – الاسلامي. وهناك تفاهم وتنسيق ضمني بين موسكو وبكين في منطقة آسيا الوسطى بأن تقوم روسيا بضمان الاستقرار السياسي والعسكري والأمني فيها، بينما تتولى الصين بشكل رئيسي الشؤون الاقتصادية.

2 – الخط الاميركي – الناتوي:

ويحظى هذا الخط بدعم ومساندة وتمويل “اسرائيل” واليهودية العالمية، من جهة، والسعودية ومشيخات النفط العربية، من جهة ثانية.

وبعد أن سقط احتمال السيطرة على روسيا وتفكيكها واستعمارها بشكل مباشر في عهد يلتسين، سعت القيادة الامبريالية الاميركية والناتوية الى زعزعة الاستقرار في كازاخستان، وزعزعة وإضعاف النظام القائم ومحاولة اسقاطه وتفكيك هذه الدولة مترامية الاطراف. وتضع الدوائر الاميركية نصب عينها هدفين:

الاول، السيطرة على انتاج النفط والغاز في كازاخستان بوضع اليد بشكل كامل على حقل تنغيز الضخم، وهو ثاني أكبر حقول النفط بالعالم، بعد حقل الغوار في السعودية، ويقع في مستنقعات الشاطئ الشمالي الشرقي لبحر قزوين، ويبلغ انتاجه حوالى 900.000 برميل يوميا. كما على حقل كاشاغان (البحري) الواقع في المياه الاقليمية التابعة لكازاخستان في بحر قزوين وينتج ما بين 370,000 إلى 400,000 برميل يوميا (احصاءات 2019). ويمكن زيادة انتاج النفط في كازاحستان الى 1.500.000 برميل يوميا. اضافة الى انتاج الغاز. واذا تمكنت اميركا من تحقيق هذا الهدف، فهذا يعني، من جهة، امكانية تقليص أو الغاء اعتماد أوروبا على استيراد الغاز والنفط من روسيا، ومن جهة ثانية، التحكم بجزء هام من تصدير النفط والغاز الى الصين.

الثاني، تحويل كازاخستان الى ليبيا ثانية من حيث التفكيك القبلي للدولة وتحويلها الى اوكار ومراكز تجميع للارهابيين والمخربين والمرتزقة القتلة من شتى بقاع الارض، وخصوصًا أتباع “داعش” واخواتها، ثم تحويلها الى بؤرة لاوكار الذئاب الارهابية، التي تنطلق فرادى أو في مجموعات صغيرة، لارتكاب المجازر ضد المدنيين والاهداف المدنية في القرى والبلدات والمدن الروسية على امتداد 7600 كلم، والصينية على امتداد 1800 كلم.

3 – الخط الزعامتي والشوفيني لنزاربايف:

انتخب نورسلطان نزاربايف لرئاسة كازاخستان منذ استقلالها في كانون الاول 1991، وأعيد انتخابه عدة مرات متتالية حتى استقالته المفاجئة في شباط 2019. وكان الدستور لا يسمح للشخص الواحد بالترشح اكثر من مرتين، ولكن جرى تعديل الدستور خصيصا لنزاربايف كي يسمح له بالترشح كما يشاء ومدى الحياة. وفي ايار 2010 منحه مجلس النواب لقب “زعيم الامة”.
وخلال مدة ولايته الطويلة احيط نزاربايف بهالة من التمجيد الخاص، ونصبت له عدة تماثيل وانصاب في المدن والمؤسسات الرسمية، كما في احدى الساحات العامة في العاصمة التركية انقرة.

ولدى استقالة نزاربايف، كان اول اجراء اتخذه خلفه قاسم جومارت توكايف هو تغيير اسم العاصمة “استانا” ليصبح اسمها “نورسلطان” تكريما لنزاربايف.

كل ذلك أوجد لدى نزاربايف نزعة زعامتية وشعورًا مزدوجًا بالعظمة الشخصية، من جهة، وبـ”فرادة” كازاخستان، من جهة ثانية. وكانت الحاشية المحيطة به تغذي لديه هذه النزعة وتستفيد منها.
وخلال مدة رئاسته كان نزاربايف يتصرف وكأنه “الزعيم الاوحد للامة”، وظل كذلك حتى بعد استقالته من الرئاسة.

وطوال هذه المدة التي استمرت اكثر من ثلاثين سنة، من 1991 وحتى 2022، كان نزاربايف يعمل على مسارين جيوسياسيين هما:

الاول ــ اثناء مدة حكمه شبه الفردي، والمدعوم من الاوليغارخيا الجديدة الملتفة حوله، فتح نزاربايف الابواب لدخول التوظيفات الاميركية والاوروبية والتركية الى كازاخستان، واقامة مختلف العلاقات المباشرة مع الاوليغارخيا والموظفين الكبار، الكازاخستانيين، وكذلك امام التوظيفات الصينية. وكان يضع نصب عينيه هدف تقليص الوجود الاقتصادي والثقافي والاجتماعي الروسي، وجعل كازاخستان ساحة منافسة دولية: اميركية – اوروبية – تركية – صينية – روسية، كان يتوهم أنه هو وسلطته يمسكان بخيوطها.

الثاني – على صعيد مشروع “تركيا الكبرى”: فقد كانت كازاخستان، ونزاربايف شخصيا، عضوا نشطا في منظمة الدول التركية واسمها الرسمي هو مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية (CCTS). وكان نزاربايف يطمح لايجاد “اتاتوركية” معاصرة جديدة يقودها هو شخصيا، ولتوحيد الدول الناطقة باللغة التركية (بمختلف تلاوينها)، وتكوين “اتحاد تركي” على غرار “جامعة الدول العربية” أو “الاتحاد الاوروبي”، يكون محوره دول آسيا الوسطى بقيادة كازاخستان، على النقيض من رجب طيب اردوغان الذي يطمح ليكون محور هذا “الاتحاد التركي” دولة تركيا الحالية.

4 – الخط الاوراسي لتوكايف:

ان الرئيس الحالي قاسم توكايف هو دبلوماسي محترف خريج المعاهد السوفياتية الروسية، وعمل لسنوات طويلة كدبلوماسي سوفياتي في الصين، ويتقن اللغتين الروسية والصينية، بالاضافة الى الانجليزية. ويعتبر مواليا لروسيا، كما يعتبر صديقًا جيدًا وثابتًا للصين كما وصفه الرئيس الصيني تشي جين بينغ.

وتقوم استراتيجية توكايف على استغلال العاملين الجغرافي والدمغرافي لتعزيز الدور الاوراسي لكازاخستان.

على المحك

وفي 512022، وكما صاعقة تنفجر بشكل مباغت في سماء صافية، اندلعت في بعض المدن الكازاخستانية ولا سيما في ألماآتي أكبر مدن البلاد وعاصمتها الاقتصادية، مظاهرات عنيفة وأعمال شغب وتخريب واحراق سيارات شرطة ومقر رئاسي ومبان حكومية واحتلال مطار المدينة من قبل المخربين، في الساعات الاولى للاضطرابات. وتحدثت الانباء عن ظهور مجموعات مسلحة، قدرت المراجع الامنية أعدادها بعشرين ألفا، وقام هؤلاء المسلحون المندسون في صفوف المتظاهرين بقتل 25 ضابطًا ورجل امن، وقطع رأسي اثنين منهم على الطريقة الداعشية. وكانت شرارة انطلاق المظاهرات قرار متسرع وخاطئ للحكومة برفع أسعار الغاز المسال الذي تستخدمه عامة الشعب.

ومع أن الرئيس قاسم توكايف أصدر أمرًا فوريًا بإقالة الحكومة والغاء قرار رفع سعر الغاز المسال، فإن الاضطرابات لم تتوقف، بل اتخذت بسرعة طابعًا سياسيًا مكشوفًا، متعدد ومتنوع الوجوه.

فأصدر حينذاك الرئيس توكايف نداء طلب فيه النجدة من منظمة معاهدة الامن الجماعي التي تشارك فيها كازاخستان وتقودها روسيا، لارسال قوات ضاربة لحماية المقرات الرسمية والمرافق العامة (المطارات ومحطات السكك الحديدية ومحطات توليد الكهرباء وشبكة توزيع المياه والمستشفيات الكبرى الخ). كما أصدر توكايف أمرًا لقوات الامن باطلاق النار على المخربين وقتلهم بدون انذار مسبق. وعلى الفور اقامت روسيا جسرا جويا لايصال قوات منظمة معاهدة الامن الجماعي بسرعة. وفي خلال 48 ساعة احتلت قوات المنظمة مواقعها المحددة بدون اطلاق رصاصة واحدة، فيما تفرغت قوات الامن الكازاخستانية لمطاردة المخربين، وتقول الانباء انه تم قتل 150 شخصًا واعتقال أكثر من 10 الاف شخص للتحقيق معهم.

ويقول محللون إنه بالمقارنة مع اندلاع الاحداث في سوريا في 2011، فإن المتآمرين والمخربين والارهابيين في كازاخستان كانوا على ثقة بامكانياتهم وعلى عجلة من أمرهم وزجوا بالمجموعات المسلحة في خضم الاحداث منذ الساعات الاولى، الامر الذي جعلهم مفضوحين تماما منذ البداية. لكن تم في أقل من أسبوع دفن المؤامرة، وعودة قوات منظمة معاهدة الامن الجماعي الروسية وغيرها الى بلدانها.

وبعد خمسة أيام فقط من بدء الاضطرابات أي في 1012022 لخص الرئيس بوتين الوضع بتصريح صحفي قال فيه: “إن بعض القوى الخارجية والداخلية استغلت الوضع الاقتصادي في كازاخستان لتحقيق أغراضها. وإن منظمة معاهدة الأمن الجماعي تمكنت من اتخاذ إجراءات مهمة لمنع تدهور الأوضاع في كازاخستان، فاتخذت القرار الضروري وفي الوقت المحدد”.

ويقول محللون إن كازاخستان أكدت خيارها، وإن دروس أزمة كازاخستان في كانون الثاني/ يناير 2022 ساعدت القيادة الروسية على اتخاذ قرار تنفيذ العملية العسكرية الخاصة في اوكرانيا في شباط/ فبراير 2022، لتصحيح خطأ التساهل الروسي مع النازيين والانقلابيين الناتويين الاوكرانيين في شباط/ فبراير 2014.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.