كهرباء العراق في البازار الأميركي

موقع العهد الإخباري-

عادل الجبوري:

كما في صيف كل عام، ألقت أزمة الطاقة الكهربائية بظلالها الثقيلة على ملايين العراقيين، مع تجاوز درجات الحرارة في معظم مدن البلاد حاجز الخمسين درجة مئوية. وربما تبدو الأزمة في صيف هذا العام أشد وطأة وأكثر تعقيدًا، لأنها بدلًا من أن تخرج من متاهات التوظيف والاستغلال السياسي السيئ، وتتحرر من قبضة الأجندات والحسابات الخارجية – الأميركية تحديدًا – فإن هناك من راح يدفع بها أكثر فأكثر الى غياهب مظلمة وأنفاق مجهولة النهايات.

ولعل التصريحات التي أدلى بها مؤخرًا الرئيس التنفيذي لشركة سيمنز الألمانية الشهيرة الرائدة في مجال انتاج وتطوير الطاقة الكهربائية، تؤشر إلى جانب من جوهر أزمة الكهرباء في العراق، وأسباب عدم حلها رغم مرور ثمانية عشر عامًا على سقوط نظام صدام، وإنفاق أكثر من ستين مليار دولار على هذا القطاع، ناهيك عن الأموال الطائلة التي أنفقها المواطنون العراقيون لشراء الكهرباء من المولدات الأهلية.

الرئيس التنفيذي لشركة سيمنز، جو كيزر، قال “إن الولايات المتحدة الأميركية رفضت للمرة الثانية عمل الشركة لإنهاء أزمة الطاقة الكهربائية في العراق بصورة كلية”، علما انه في وقت سابق كان قد أكد أن “الرئيس الأميركي دونالد ترامب في حينها مارس ضغوطاً كبيرة على العراقيين لمنح شركة جنرال إلكتريك الأمريكية صفقة تطوير قطاع الكهرباء في العراق”.

وفي وقت لاحق، جددت الشركة الالمانية رغبتها في حل أزمة الكهرباء في العراق، واستعدادها لإنشاء خارطة طريق فنية وإستراتيجية متكاملة لتحقيق التكامل في تجهيزِ الطاقة، وإنهاء أزمة المواطنين بشكل تام، بشرط عدم تدخل السفارة الاميركية.

ما كشفه رئيس شركة سيمنز، وما صرحت به الشركة، يعكس جزءًا صغيرًا جدًا من خفايا وملابسات كثيرة، تراكمت على مدى عقدين من الزمن، لتوصل الأمور الى مستويات خطيرة ومقلقة للغاية، وبالتالي تبدد فرص وامكانيات التوصل الى حلول واقعية مقبولة ومعقولة.

بعبارة أخرى، إن ما جاء على لسان كيزر، يؤكد بما لا يقبل الشك أن واشنطن باداراتها المتعاقبة على البيت الأبيض طيلة الأعوام الثمانية عشر المنصرمة، كانت وراء بقاء مشكلة الكهرباء على حالها، رغم الأموال الطائلة التي أنفقت على هذا القطاع الخدمي المهم والحيوي في مختلف المجالات.

صحيح أن واشنطن تسعى لفرض هيمنة الشركات الأميركية على قطاع الكهرباء في العراق، وتحديدًا شركة جنرال الكتريك، المنافسة الرئيسية لشركة سيمنز الألمانية، إلا أن هناك الكثير من الدلائل والمؤشرات التي تثبت أن الولايات المتحدة لو كانت جادة وصادقة فعلًا بحل مشكلة الكهرباء في البلاد لفعلت ذلك، أو لكانت سمحت للشركات الاخرى، مثل سيمنز، الدخول على الخط، مثلما فعلت في مصر خلال الأعوام القلائل الماضية.

وصحيح أن منظومات الفساد الإداري والمالي في مؤسسات الدولة العراقية، لعبت دورًا سلبيًا وسيئًا في تعميق المشكلة، لكن ما هو واضح للكثيرين هو أن الأميركيين يتحملون جزءًا غير قليل جراء تفاقمها إلى حد كبير، وهناك شخصيات تولت شؤون وزارة الكهرباء وأفسدت فيها كثيرًا، وفي النهاية هربت إلى الولايات المتحدة، حيث حظيت هناك بالحماية رغم أنها مطلوبة للقضاء العراقي حتى يومنا هذا، حيث إنه حينما أصدرت المحكمة الجنائية في شهر تشرين الاول – اكتوبر من عام 2006، حكمًا حضوريًا بالسجن لمدة عامين بحق وزير الكهرباء في الحكومة الانتقالية الاولى عام 2004، أيهم السامرائي الحامل للجنسية الأميركية، بتهمة الإهمال وإهدار المال العام، أقدمت عناصر من القوات الاميركية على اخراجه من قاعة المحكمة عنوة، وتسفيره مباشرة الى الولايات المتحدة، ليتولى من هناك ادارة عمليات دعم وتمويل مجاميع ارهابية مسلحة، تحت مسمى فصائل المقاومة العراقية، والعمل ضد النظام السياسي القائم.

ولعل الساسة الأميركيين يدركون أن حل مشكلة الكهرباء بصورة جذرية في العراق من شأنه حل ومعالجة كمّ كبير من المشاكل وإعادة الروح للصناعة والزراعة وقطاعات خدمية أخرى، وهذا ما لا تريده واشنطن ارتباطًا بأحندات وحسابات خاصة.

وبينما خطت شركة سيمنز خطوات جيدة في عام 2020 في مجال عملها لتحسين واقع الطاقة الكهربائية، وفقا لاتفاق أبرمته مع الحكومة العراقية السابقة برئاسة عادل عبد المهدي في عام 2019، فإن شركة جنرال الكتريك الاميركية لم تفعل شيئًا ذا قيمة، رغم أنها أمسكت بملف الكهرباء بقوة منذ عام 2003. ويشير خبراء بهذا الشأن إلى أن “الولايات المتحدة الاميركية دخلت بشركاتها بأهم قطاعين في العراق، وهما الكهرباء والنفط، وحصلت شركة جنرال الكتريك منذ 2003 على ثلاثة عقود رئيسية لسد عجز الكهرباء، بيد أنها فشلت وتقاعست بإنهاء أزمة الكهرباء، وعندما توجه العراق إلى شركة سيمنز الألمانية لإنهاء العجز تدخل ترامب بشكل مباشر وأوقف العقد”.

والموقف الأميركي تجاه شركة سيمنز الالمانية يشبه الى حد كبير الموقف من الاتفاقية العراقية – الصينية التي أبرمت هي الأخرى في عهد حكومة عبد المهدي، إلا أن العراقيل والعقبات التي وضعت أمامها، جعلت الشروع في العمل بها أمرًا صعبًا وعسيرًا.

الى جانب ذلك، فإن التواجد الأميركي في العراق، سواء على الأرض أو في الجو، لم يوظف بشكل ايجابي لايقاف الحملات الإرهابية ضد أبراج وخطوط نقل الطاقة الكهربائية، لا سيما في الآونة الأخيرة، حيث تسببت التفجيرات التي طالت عشرات الخطوط والأبراج والناقلة، بانقطاع تام أو شبه تام للكهرباء في أغلب محافظات وسط وجنوب البلاد، عندما بلغت درجات الحرارة ذروتها الأسبوع الفائت.

ولم تفعل واشنطن شيئًا، وهي تراقب وتشاهد عن كثب حملات عصابات “داعش” التخريبية في مناطق شاسعة لا يغيب الطيران الأميركي عن سمائها إلا نادرًا. هذا في الوقت الذي راحت فيه وسائل اعلام محلية وعربية وأجنبية، تحمل ايران المسؤولية بسبب عدم تصديرها الغاز المطلوب لتشغيل محطات انتاج الكهرباء، علمًا أن المسؤولين الايرانيين أكدوا أن طهران مستمرة بضخ الغاز للعراق، رغم تراكم المستحقات المالية بذمة العراق، وعدم تسديدها وفق الآليات المتفق عليها، وأكثر من ذلك، فإن مسؤولين حكوميين عراقيين، ثمنوا التعاون الايراني في تزويد العراق بالغاز للتخفيف من مشكلة الكهرباء.

في مقابل ذلك، فإن مباحثات ومفاوضات الربط الكهربائي بين العراق وبعض دول الخليج ودول إقليمية أخرى، لم تنعكس على أرض الواقع، رغم أن جهات سياسية وإعلامية مختلفة روجت كثيرًا في أوقات سابقة بأن توجه العراق الى دول الجوار العربي كبديل عن ايران سيكون أقل كلفة ويساهم بتوفير موارد مالية كبيرة.

وفي خضم الصراع والتنافس بين الشركات الكبرى، والاسقاطات السياسية السلبية، والدور الاميركي السيئ، والتضليل الاعلامي المتواصل، يبقى الفساد يمثل أحد ابرز الحلقات المؤثرة في تفاقم ازمة الكهرباء، سواء تعلق الامر بضعف الاجراءات الحكومية المتخذة بحق الفاسدين في مختلف المفاصل، أو تعلق الأمر، بكونه – أي الفساد – جزءًا محوريًا من أجندات التعطيل والتخريب السياسية.

كل ذلك، يمكن أن يبلور حقيقة خطيرة، هي أن بقاء الحال على ما هو عليه، يعني فيما يعنيه، وضع أسوأ الاحتمالات في الحسبان، واستقالة وزير الكهرباء تحت ضغط الشارع، ربما يكون أقل الاحتمالات سوءا، خصوصًا وأنه ما زال أمام العراقيين شهران من الحر اللاهب، التي غالبًا ما كانت على طول التاريخ المعاصر والحديث تشهد الهزات والحوادث الكبرى في بلد لم يعرف الأمن والاستقرار إليه سبيلًا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.