لا لحكومة وحدة وطنيّة تعيد إنتاج الفساد وتتحوّل إلى متراس بوجه سوريا

موقع التيار الوطني الحر الإخباري ـ
بقلم جورج عبيد

رفع المغفور له الرئيس صائب سلام شعارًا طاب له أن يردّده خلال الحرب وبعدها، “لبنان لا غالب فيه ولا مغلوب”، حتّى أمست مسلّمة انسابت إلى السياق السياسيّ بعمقه ول بالشكل أكثر مما هو في المضمون، لكون السياق السياسيّ أكّد أن ثمّة فريقًا حاكمًا وفريقًا آخر محكوم من الحاكم لترسّخ مألفة “الديمقراطيّة التوافقيّة” كحجاب لهذا الحكم، منتمية بالشكل وليس بالفعل إلى ما سمّاه كمال الصليبي العقد الاجتماعيّ، فقادت الديمقراطية التوافقيّة لبنان والحكم فيه إلى التوافق الهش، أي أن الحكم لا يسوغ إلا بالتوافق ضمن شركة واحدة.
في الأنظمة المبنية على الديمقراطية الحقيقيّة التي تعني حكم الشعب، تبدو تلك المألفة غريبة جدًّا ونافرة كمصطلح لم يألفه الديمقراطيون ولا أي بلد بين على الدولة والمعارضة في مواجهة برامجية عقلانيّة وغير عشوائيّة. فالديمقراطية الحقيقيّة أو الطبيعيّة، تعني أن تقوم الحياة السياسيّة على السلطة والموالاة لها من جهة والمعارضة لها من جهة أخرى تقودها الأحزاب العامدة على ترجمة نفسها وفقًا لبرامج مدروسة ومنسوجة من إرادة الناس وحاجاتهم وطموحاتهم، وليس وفقًا لآحاديات طاغية متسربلة حللاً طائفيّة أو مذهبيّة تسود عليها وتقبض على ناصيتها وتهيمن على تفاصيلها وإلاّ فنكون قد بلغنا مرحلة صراع الآلهة.
في جلسة عالية المستوى منذ سنتين بين كاتب هذه السطور وكتّاب فرنسيين بدعوة من صديق مشترك، شرح كاتب هذه السطور طبيعة الحكم في لبنان بالمفهومين الدستوريّ والميثاقيّ. وخلص إلى أن طبيعة اتفاق الطائف أباحت بأنّ الحكم في هذا البلد قائم على التوافق حيث لا طغيان لفريق على آخر. دهش الفرنسيون لهذه الطبيعة السياسية غير المألوفة عندهم، في بادئ الأمر اعترضوا على مألفة الديمقراطية التوافقيّة حيث أمست الأسلوب المتبّع في تسيير الحكم وتسييل عناوينه، إذ إنّ هاتين المفردتين لا تتمازجان ولا تتخالطان في المعنى العلميّ، إذ لكلّ واحدة منها شكلها وجوهرها المتناقض مع الآخر لكأنّ بينهما هوّة سحيقة. لكن ماذا نفعل في بلد فيه ثمانية عشر مذهبًا، كيف يمكن لتلك المذاهب أن تحيا معًا في شراكة حقيقيّة وكاملة؟ هكذا تساءل أمامهما الكاتب اللبنانيّ، ثم شرح النقمة الإسلاميّة في السابق على المارونية السياسيّة، وكيف أنّ المسيحيين بعد الحرب اللبنانية وتطبيق اتفاق الطائف عانوا بدورهم من تعاظم دور السنيّة السياسية والشيعيّة السياسيّة والدرزيّة السياسيّة، إلى سنة 2005 تاريخ اغنيال المغفور له الرئيس رفيق الحريري، فاتّجه لبنان واقعيًا إلى نمطين اختلطت فيهما الأوراق الطائفيّة، نمط الرابع عشر من آذار وقد كان تحت هيمنة تيار المستقبل ذي الوجه السنيّ، ونمط الثامن من آذار ذي الوجه الشيعيّ. وأكمل قائلاً بأنّ الرئيس الياس الهراوي رحمه الله، خضع للسنيّة السياسيّة، فيما الرئيس إميل لحود تمرّد عليها وعلى كلّ طائفيّة أخرى وعمل باتجاه توطيد سياق وطنيّ قدر الإمكان، لكنّ زلزال الرابع عشر من شباط قلب المقاييس بأسرها… إلى أن خرج سمير جعجع من السجن بقرار أميركيّ-خليجيّ وانكسار سوريّ، وعاد العماد ميشال عون من المنفى، وما إن عاد حتى قلب المقاييس الطائفيّة فأعاد المسيحيين إلى جذورهم المشرقيّة في سوريا بعد خروجها من لبنان، وتصالح مع الرئيس الدكتور سليم الحصّ وقد كانا على خصومة شديدة بمسعى صديق مشترك لهما هو عماد جوديّة والذي عمل مستشارًا رئاسيًّا وحكوميًّا للرئيسين لحود والحصّ، ووضع إكليلاً من الزهر على ضريح الرئيس رفيق الحريري متهيّبًا شهادته، ووقّع ورقة تفاهم مع حزب الله. بمعنى أن الرئيس عون جاء بنفس لبنانيّ مشرقيّ مسيحيّ-إسلاميّ، منقلبًا بهذا النفس على التحالف الرباعيّ الإسلاميّ وعلى تاريخ مشحون بالخلل في العلاقة بين مكوّنات لبنان، ومعزّزًا الواقع المسيحيّ بل مقويًّا له من دون أن يبعث روح حياة في المارونية السياسيّة المنغلقة على نفسها والمنعزلة على الآخرين أو المعزولة منهم، فأمسى الواقع المسيحي يرى بالاستدلال مع الآخرين ومنهم وليس بالاستقلال عنهم. وأكّد لهم بأن هذه الرؤى قد حمت لبنان من التهلكة غير مرة منذ سنة 2006 خلال حرب تموز الشهيرة إلى لحظة الرابع من شباط سنة 2007 لحظة دخول الإسلامويين منطقة الأشرفية معترضين على الرسم الكاريكاتوري، إلى السابع من أيار سنة 2008. إلاّ أن قوّة الحماية أثبتت موجوديتها خلال الربيع العربيّ الذي تحوّل خريفًا وتدحرج حربًا إلى الداخل السوريّ مع تعاظم القوى التكفيريّة الممولّة خليجيًّا والمنتجة أميركيًا (أنظر مذكرات هيلاري كلينتون) والمدعومة إسرائيليًّا.
لقد أدرك الضيوف الفرنسيون إلى أنه ليس سهلاً التوليف بين النقائض. القضيّة ليست في عملية التوليف. فهو أعطى معنى حضاريًا ووجوديًّا للبنان غير قائم في المحيط. وثبّت في جوفه الاستقرار الذي كاد أن يتهدّد غير مرّة بفعل تورّط أفرقاء سياسيين كبار في الحرب السوريّة، وتحوّل منطق “لبنان أوّلاً” من الهالة الميثاقية معطوفًا على ميثاق 1943 مع رياض الصلح وقد قدّم ميشال شيحا له، إلى حالة متراسية تشاء وتشتهي إسقاط الرئيس بشارالأسد في الداخل السوريّ، إذ إنه لو سقط لكان انتهى الحضور المسيحيّ في المشرق بدءًا من لبنان وسوريا وسهل الربط بين الخليج العربيّ والمشرق العربيّ بواسطة القوى التكفيرية مدعومين من بعض الليبراليين المنافقين ونحرت القضية الفلسطينيّة إلى الأبد.
لم يسقط بشار في سوريا بل انتصر أو هو على طريق النصر الكامل، وسوريا مقبلة على كتابة دستور جديد لها يضمن استقرارها النهائيّ وسيرورتها النهائيّة. الصيغة اللبنانية غير بعيدة عنتلك المرحلة التأسيسيّة في سوريا. السؤال المطروح هل تعتمد سوريا مستقبليًّا مبدأ الديمقراطية التوافقية عمادًا وعمودًا لبنائها السياسيّ-الميثاقيّ؟ هل تعني الديمقراطية التوافقية مشاركة الجميع في سلطة واحدة أو انها قادرة على أن تتوزّع في مسارّها بين السلطة والمعارضة؟ في اللغة العربية كلمة التوافق تعني اتفاق الجميع على قضية أو على حكم أو على مسرى. في لبنان تخرج كلمة التوافق عن جوهرها أي عن معناها الحقيقيّ لتتحوّل إلى شراكة ملتبسة في السلطة أي في سلب المغانم والأسلاب من قبل فئات فاسدة ومارقة صهرت الطائفة بها تحت ستار الخصوصيات من جهة أو الأكثريات من جهة أخرى وحجبت الخير عن العامّة من الناس أي عن المواطنين وعرقلة بناء الدولة الحقيقيّة. ويخشى مراقبون كثر من أن تتحوّل مفردة الوحدة الوطنيّة إلى مفردة الفساد الوطنيّ، وكأن الشراكة ليست في البناء بل في الفساد عينًا وتلك هي قمّة الخطورة، فيما التجربة اللبنانية بفرادتها قد تكون عنوانًا لبناء سوريا. الخطورة في هذا المنحى أن تغطي الديمقراطية التوافقية ثقافة الفساد واستمرار انبثاثها في الدولة اللبنانية، لذلك اعترض عليها السادة الكتاب الفرنسيون اعتراضًا شديدًا منذ سنتين.
لا يدّ وأمام تلك اللحظة من الاعتبار بأنّنا أمام أزمة حكم وحكومة، أمام أزمة نظام متهالك يحتاج إعادة ترميم، قبل أن يؤول إلى أزمة كيان ووجود، تشي بها الأزمة البنيويّة داخل الطائفة الواحدة سواء عند الإخوة الموحدين الدروز أو المسيحيين أو السنّة. لقد عاد لبنان من جديد مشرحًا لصراعات الآخرين على أرضه. فالسعوديون تمكنوا من جر المذاهب إلى التفكّك وتعطيل تأليف الحكومة، والسوريون يشاؤون حلاًّ جذريًّا للعلاقة اللبنانية-السوريّة ويضغطون في سبيل ذلك، ولبنان لا يملك القدرة على الوقوف في مساحة وسطيّة سيّما وأن الأوراق السعوديّة فد احترقت بالكامل والطاولة التي أجلس عليها بعضهم عرجاء.
أمام ذلك الحلّ الواقعيّ لا يقوم بالانتظار، ولكن بتنحّي الرئيس الحريري عن التأليف وقد قال بأنّه لن يزور سوريا على الرغم من التبدّلات إذ لا يمكن الجمع بين رؤيتين متناقضتين بالكليّة واحدة تقول بالعلاقة مع سوريا وأخرى ترفضها جملة وتفصيلاً. لن تستقيم حكومة وحدة وطنيّة دون جوهر واحد، ولن تستقيم إذا سعت إلى التغاضي عن الفساد. فإذا انتهى الأمر إلى حكومة تتألف من الأكثرية فهذا تأكيد بأن لبنان بدأ يستفيق، فالمعارضة قادرة إذا سمت وطنيًّا على إسقاط الحكومة أية حكومة، هل ننسى تاريخيًّا بأن مقالة واحدة من غسان تويني في جريدة النهار كانت تسقط الحكومات وتشلّ الحكم إذا فسد. الديمقراطية التوافقية قد تتحوّل إلى عقد فساد لأنه عقد فاسد بأصله حيث حكومة الوحدة الوطنية قد تكون صورة عنه، الديمقراطية التوافقية قد تتحوّل إلى متراس بوجه سوريا في لحظة خليجيّة ضاغطة على اللبنانيين للنأي عن سوريا ورفض العلاقة معها، طورًا بالترغيب وتارة بالترهيب فيما معظم أوراقها قد احترقت.
هل يترك لبنان في الفراغ؟ غالبًا أن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، سيقف بالمرصاد بوجه كل الذين سيعرقلون مسيرة الحكم والعهد، وهو متوافق مع الرئيس نبيه برّي وأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، على قيام حكومة وحدة وطنية بوجه الفساد ولكن لن يقبل بأن يطيل الحبل أكثرمن اللزوم إذ للصبر حدود، ومصير المنطقة على المحكّ ولبنان من ضمنها.
الرئيس بين مجموعة وقائع:
1-أن يوقف الدلع والترف السياسيين وثقافة انتظار الرضى الخارجيّ. وهذا لن يتمّ إلاّ برسالة يوجهها فخامة الرئيس إلى دولة رئيس المجلس النيابيّ نبيه برّي يعرض فيها ما وصلت إليه الأمور وآلت إليه الأحوال، فيدعو دولة الرئيس المجلس إلى الانعقاد ليبنى على الشيء المقتضى.
2-أن يخرج إلى اللبنانيين علنًا ويسمّي الأمور بأسمائها ويورد الأسباب الموجبة التي حدت باستمرار الفراغ الحكومي وعدم التأليف.
3-أن يعلن رفضه لحكومة وحدة وطنيّة تحوّل النأي بالنفس إلى متراس يستهدف سوريا كما يستهدفها وليد جنبلاط، سعد الحريري، وسمير جعجع بمواقفهم. فالعلاقة مع سوريا أساسية وجوهرية مثلما العلاقة مع الخليج العربيّ جوهرية ويستفيد لبنان منها كثيرًا خلوًّا من الضغوطات.
إن لم يتمّ ذلك فلبنان أمام واحد من أمرين:
-إمّا إعادة الاعتبار لاتفاق الطائف مع بعض التعديلات…
-أو الاتجاه إلى مؤتمر تأسيسيّ للبنان جديد يتواصل مع سوريا جديدة ومنتصرة في آن.ولعلّ كتابة دستور جديد لسوريا قد يستوجب من لبنان الاتجاه إلى قراءة نفسه من خلال تلك المحطات المطلة من أرض الواقع الجديد.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.