لبنان: الإنتخابات المنتظرة والأحلام المفرطة

موقع قناة الميادين-

ليلى نقولا:

أحلام مفرطة تلك التي لا تأخذ بعين الاعتبار كلّ التعقيدات المرتبطة بأسس النظام اللبناني التوافقي وأسبقية وجود الطوائف على وجود الدولة.

منذ انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 ولغاية اليوم، يأمل كثيرون في لبنان بتغيير شامل لبنية النظام السياسي اللبناني، بينما يأمل العديد من الدول الخارجية بإمكانية الوصول عبر الانتخابات النيابية إلى تغيير خريطة توزع القوى اللبنانية، بحيث يتم تغيير سياسي شامل يقصي أو يحجّم نفوذ التيار الوطني الحر وحزب الله، عبر قوى مجتمعية “مدنية” بالأساس أو حزبية بغطاء مدني، لأخذ لبنان إلى سياسة خارجية مختلفة تفتح مسار التطبيع مع “إسرائيل” أو غير ذلك.

المشكلة أنَّ هذه الآمال، وإن كان بعضها مشروعاً، كحلم تغيير النظام السياسي عبر الأطر الديمقراطية، عاجزة عن فهم التعقيدات التي تحيط بالنظام السياسيّ والمجتمعيّ اللبناني واستعصاء إمكانية التغيير من دون التحوّل من الديمقراطية التوافقيّة إلى نظام غالبيّة برلمانيّة، وهو صعب في المجتمعات المتعدّدة كالمجتمع اللبناني.

منذ نشأته، ومنذ استقلال لبنان، يعتقد الكثير من المفكرين والباحثين اللبنانيين أنَّ التمثيل النسبي الطوائفي هو علة العلل في لبنان، وأن هذا النظام يستولد الأزمات، وهو الذي أدى إلى الحروب الأهلية. أما البعض الآخر، فاعتبره حلاً ممكناً، منطلقاً من مقولة أنَّ النظام الأكثري في ظلِّ تعدد طائفي ومجتمعات غير متجانسة قد يكون أشد إيلاماً من حكم الحزب الواحد في الأنظمة الأكثرية.

المعضلة تكمن في أن هناك احتمالات في الديمقراطيات المتجانسة بأن تتحوَّل الأقلية إلى أكثرية، بفضل تغيير توجهات الرأي العام الذي يغير مسار الانتخابات. أما في المجتمعات المتعددة وغير المتجانسة، فإن الأقلية الإثنية أو الطائفية أو اللغوية، محكوم عليها سياسياً بالبقاء أقلية، وبالعزل، ولا يمكنها الاعتماد إلا على نمو ديمغرافي متسارع، وهو متعذر.

لم ينشأ مفهوم الديمقراطية التوافقية كغيره من النماذج الديمقراطية التي انطلقت من أثينا، ومن مفكري وفلاسفة الأنوار، بل نشأ من التجارب المقارنة حول العالم. بداية، جرت دراسة هذا النموذج وتدويله من خلال بعض المؤلفات التي تتحدث عن أنظمة الحكم في كل من بلجيكا والنمسا وسويسرا وكندا، ثم امتد المفهوم إلى بعض بلدان العالم الثالث، وخصوصاً ماليزيا وقبرص وكولومبيا والأوروغواي ونيجيريا.

وقد صاغ العالم السياسي الهولندي ليبهارت (Arend Lijphart) هذا النموذج في كتابه، وعدّد خصائصه على الشكل التالي:

– حكومة ائتلاف واسع، الأمر الَّذي يميّز النموذج التوافقي عن النموذج البرلماني التقليدي الذي يقوم على “حكومة مقابل معارضة”. وقد اعتبر البعض أن هذا النوع الائتلافي يحمي الأقليات الموجودة، ويعطيها مجالاً للمشاركة في الحكم لا تتيحه لها الأسس البرلمانية.

– نسبية في التمثيل بدلاً من قاعدة الأكثرية، وهذا ما يلاحظ في لبنان، من خلال توزيع المقاعد النيابية والوزارية والرئاسات على أساس طائفي.

– الفيتو المتبادل كوسيلة لحماية الأقلية ضد القرار الأكثري، فالمشاركة في الائتلاف الحكومي قد لا تكفي بالفعل لحماية الأقليات. لذلك، يجب إعطاء المجموعات حق النقض في الميادين ذات الأهمية الحيوية والمصيرية بالنسبة إليها وإلى وجودها.

– إدارة ذاتية للمجموعات في بعض الشؤون. لتلافي جمود سبل التقرير من خلال حق النقض، تمنح الديمقراطية التوافقية الثقافات الفرعية إدارة ذاتية في الميادين التي تخصها مباشرة. ونلاحظ هذا الأمر في لبنان من خلال إعطاء الطوائف الحرية في المحاكم الشرعية والأحوال الشخصية.

وهكذا، يمكن الإشارة إلى أن صيغة النموذج التوافقي اللبناني سبقت قيام الدولة اللبنانية، إذ امتدَّ منذ نظام الملل العثماني ونظام القائمقاميتين والمتصرفية، وفي إصلاحات شكيب أفندي، إلى أن ثبّته الفرنسيون خلال الانتداب، ثم كرسته الصيغة وميثاق 1943، وفي ما بعد اتفاق الطائف 1990.

وحتى في الإطار الفردي، وبصرف النظر عن مستوى إيمان الشخص وممارسته الدينية، كرّس النظام اللبناني الترابط بين المدني والديني في حياة الفرد، بحيث يستمدّ الفرد حقوقه من حقوق طائفته، ولا يصبح المواطن اللبناني عضواً في مجتمعه إلا إذا التزم تجاه الطائفة التزام ولاء، هو في الوقت نفسه التزام مدني وديني.

وعلى مستوى أوسع، ففي بلد مكوّن من مجموعة أقليات متحاربة، تحاول أن تفرض سطوتها بالاستعانة بالخارج في معظم الأحيان، تمّ تكريس الانتماء الطائفي مقياساً أساسياً للعلاقات مع الطوائف الأخرى، فالوعي بالخصوصية الثقافية تطوّر على مدى عقود، وبات مرتبطاً إلى حدٍ بعيد بممارسة العلاقات مع الجيران من الطوائف الأخرى.

هذا في المبادئ المؤسسة للدولة. أما في الممارسة، فقد حافظت الأحزاب السياسية دوماً على قدسية هذا التكوين الاجتماعي السياسي الذي تمَ التعبير عنه بـ”الميثاقية”، لإدراكها أنّ أيّ محاولة فصل بين المدني والديني، أو بين الاجتماعي الثقافي من جهة والسياسي من جهة أخرى، سوف يثير ردود فعلٍ عنيفة، ويمكن بالتالي أن يستثار الناس الذين سيشعرون بأنهم مهددون في صميم هُويتهم.

وعليه، إنَّ ارتباط الأحزاب السياسية ووجودها ودورها في الحفاظ على حقوق الطوائف وقدرتها في النظام، يلعب لمصلحة إبقاء النظام ذاته، كما أن نظام الفيتو الذي يبدو أنَّه أكثر تجذراً من أي مبدأ سياسي آخر، يعني عدم قدرة الأغلبيات البرلمانية على الحكم، بدليل أنَّ قوى 14 آذار امتلكت الغالبية في المجلس النيابي اللبناني منذ 2005 ولغاية 2018، ولم تستطع أن تحكم، ما أدى إلى تفكّكها وتشرذمها وكيل الاتهامات إلى بعضها البعض، بينما امتلك التيار الوطني الحر وحزب الله وحلفاؤه الغالبية منذ العام 2018، ولم يستطيعوا أيضاً أن يطبّقوا أيّ برنامج للحكم أو يدفعوا لبنان إلى تغيير سياساته الخارجية أو الاقتصادية أو السياسية الداخلية، وبقي الحال كما كان عليه سابقاً خلال سنوات ما قبل 2018.

انطلاقاً من كلِّ ما سبق، ومن دون الدخول في تفاصيل الأرقام الانتخابية ومؤشراتها التي لا تشير إلى إمكانية سهلة لتغيير الغالبية النيابية الحالية أو سهولة هزيمة الأحزاب الحالية عبر قوى مدنية، تبدو الحملات السياسية الداعية إلى تغيير سياسي شامل وإلى عقد اجتماعي جديد بين مواطنين، وليس بين طوائف، كما تبدو الدعوات الإعلامية والسياسية إلى إحلال غالبية نيابية “مدنية” لتطبيق برامج سياسية مختلفة، تكافح الفساد وتقوم بنزع سلاح حزب الله، أو تلك التي تطمح إلى أن يقرّ مجلس النواب “الجديد” السير بمسار التطبيع مع “إسرائيل” أو لفظ التعاون مع الشرق أو غير ذلك، نوعاً من الأحلام المفرطة التي لا تأخذ بعين الاعتبار كلّ التعقيدات المرتبطة بأسس النظام اللبناني التوافقي، وأسبقية وجود الطوائف على وجود الدولة ونظامها السياسي في لبنان.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.