مأزق تونس بين روايتين

موقع قناة الميادين-

وليد القططي:

إنّ عدم تكرار تجربة الصراع بين الضبّاط الأحرار والإخوان المسلمين في تونس، يتطلّب التخلّي عن الفرضيات الإقصائية في الاتجاهين.

بعد انتخاب قيس سعيّد رئيساً لتونس قبل عامين، كتبتُ مقالاً بعنوان “عودة الروح والوعي للثورة التونسية”، تفاؤلاً بالمستقبل بعد 7 سنواتٍ من التيه في صحراء الفوضى غير الخلاقة. وقد قصدتُ بالروح الطاقة التي تُشعل نار الثورة وتُضيء نور الإيمان في قلوب الشعب والثوار، وأردتُ بالوعي البوصلة الَّتي تحدد مسار الثورة وترسم اتجاه الهدف في عقول الجمهور والأحرار.

واليوم، بعد عامين من ذلك المقال المتفائل، لم يتبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الثورة. ويبدو أنَّ الواقع التونسي التعيس لا يُبشّر بعودة الروح، وأنَّ حال السلطة البئيس لا يُشير إلى عودة الوعي، فالروح ما زالت مسجونةً في واقعٍ مأزوم، والوعي ما زال محبوساً في حالٍ مذؤوم، ولم تعد الروح ولا الوعي إلى الثورة التونسية. ما عاد إليها بعد قرارات الرئيس قيس سعيد بإقالة رئيس الحكومة وتجميد البرلمان وغيرهما هو شيءٌ آخر غير الروح والوعي، اختلفَ الناسُ فيه أشتاتاً، وافترقَ البشرُ فيه أقواماً.

من ألوان هذا الاختلاف وصف ما حدث بأنه تطبيق للدستور أو تعطيل له، وتصحيح مسار الثورة أو حرف مسارها، وثورة جديدة أو ثورة مضادة، وإنقاذ لتونس أو تدمير لها، وتنفيذ لإرادة الشعب أو معاكستها، وميلاد جديد للديمقراطية أو وفاة لها. ومن أشكال هذا الافتراق تشخيص ما حدث بأنَّه مؤامرة لتصفية أول وآخر ثورات “الربيع العربي” أو إجهاض لمؤامرة ضد الثورة، وانقلاب نصف الشرعية على نصفها الآخر أو حسم ثوري داخل قوى الثورة، وحرب على أعداء الوطنية والوطن أو حرب على الإسلام والمسلمين.

من المفيد التوقف عند هذا التشخيص الأخير، نظراً إلى انتشاره في أوساط التيارين العلماني والإسلامي، كنوعٍ من الإقصاء المتبادل ونفي الآخر، ولا سيَّما توصيف ما حدث بأنَّه حرب على الإسلام والمسلمين، نظراً إلى تبنّي بعض كتّاب الحركة الإسلامية هذا التوصيف.

تبرير البعض قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد بأنها تستهدف حماية الوطن من أعدائه غير المؤمنين بالجماعة الوطنية، في إشارة إلى حركة “النهضة” الإسلامية المحسوبة على تيار الإخوان المسلمين، لا يختلف كثيراً عن توصيف ما حدث بأنَّه حرب على الإسلام والمسلمين، وهو توصيف بُني على فرضية خطأ أسّست الحركة الإسلامية التقليدية منظومتها الفكرية عليها في علاقتها بالآخر، وهي احتكار تمثيل الدين الإسلامي والاستحواذ على تمثيل الجماعة الإسلامية، باعتبارها الإسلام والأمة، واعتبار الآخر خارج دائرة الإسلام والأمة.

الحركات الإسلامية التي آمنت بهذه الفرضية بشكلٍ واضحٍ مُعلن أو غامضٍ مُضمر عاشت أزمات عميقة وممتدة في تعاملها مع الآخر خارج دائرتها، ولا سيّما إذا كان الآخر نظام حكم يمارس الاستبداد السياسي والإقصاء السلطوي والإرهاب الدموي، أو كان تياراً أيديولوجياً يُمارس عليها الاستبداد بالرأي والإقصاء الثقافي والإرهاب الفكري، فأصبحت هذه الفرضية جزءاً من أزمة الحركة الإسلامية التقليدية وإشكالية الوصول إلى السلطة وممارستها والحفاظ عليها، وجزءاً من الإقصاء المتبادل بين تيارات الحركة الإسلامية نفسها، بعد أن كانت بينها وبين الحركات العلمانية واليسارية فقط.

أساس فرضيّة أنَّ الحركة الإسلاميّة هي المُمثلة الحصرية للإسلام والمسلمين يعود إلى مفهومي الحاكمية والجاهلية بصيغهما المختلفة في أدبيات الحركة الإسلامية. ووفقاً لهما، تكون مهمّة الدعوة الإسلامية نقل الناس من حاكمية البشر (الجاهلية) إلى حاكمية الله (الإسلام)، بإدخالهم في إطار الحركة الإسلامية أو الدولة الإسلامية. وبذلك يصبحون جزءاً من الجماعة الإسلامية في مرحلة الحركة، وجزءاً من المجتمع المسلم في مرحلة الدولة، كما فعل الرسول – صلى الله عليه وسلم – والصحابة – رضوان الله عليهم – في صدر الإسلام، بإخراج العرب من الجاهلية إلى الإسلام.

وبذلك، تكون الحركة الإسلامية هي “جماعة المسلمين”، وليست “جماعة من المسلمين”. وإلى ذلك أشار سيد قطب في كتاب “معالم في الطريق”، عندما تحدّث عن بناء الجماعة الإسلامية والمجتمع المسلم. هذا المفهوم هو الذي جعل فتحي يكن يكتب “المتساقطون على طريق الدعوة”، مشابهاً بين الخارجين على الجماعة الإسلامية حديثاً (المتساقطون)، والخارجين على الجماعة الإسلامية في عهد النبوة (المرتدون والمنافقون).

أما في فرضيتي خروج أنصار الحركة الإسلاميّة عن الجماعة الوطنية، وخروج خصوم الحركة الإسلامية عن الجماعة الإسلامية، فقد كُتبت روايتان تاريخيتان متحيزتان في كثير من الدول العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار. ومن أمثلة ذلك الصراع ما حدث بين الضباط الأحرار والإخوان المسلمين في مصر بعد ثورة تموز/يوليو 1952م، فقد اعتبرته رواية النظام الناصري الحاكم آنذاك مؤامرة ضد الوطن والوطنيين ومكيدة للاستيلاء على نظام الحكم بالقوّة، واعتبرته رواية الإخوان المسلمين مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين ومكيدة لإقصاء الإخوان المسلمين عن المشهد السياسي بالقوة.

وبعيداً عن الروايتين، فإنَّ بطش النظام الناصري الحاكم طال كل معارضي النظام من الإسلاميين والشيوعيين على حدٍ سواء، كما لم يترك النظام الحاكم للإخوان المسلمين احتكار تمثيل الإسلام، فقد كان لرأس النظام، الزعيم جمال عبد الناصر، مفهومه الخاصّ للإسلام، تم تسجيله في وثائق الثورة والدولة، مثل كتاب “فلسفة الثورة”، والميثاق الوطني، وبيان مارس.. وكان للنظام مؤسساته المُعبّرة عن رؤيته للإسلام، كمؤسّستي الأزهر والأوقاف.

إنّ عدم تكرار تجربة الصراع بين الضبّاط الأحرار والإخوان المسلمين في تونس، يتطلّب التخلّي عن الفرضيات الإقصائية في الاتجاهين، والتحلّي بالفرضيات التشاركية لكلّ أركان السلطة وأطراف الصّراع، لتمهيد الطريق للخروج من المأزق التونسي وتجاوز أزمة السلطة والشعب، والعودة إلى المسار الديمقراطي، بالرجوع إلى العقد الاجتماعي الذي قام عليه النظام السياسي التونسي بعد الثورة، وتحقيق الشراكة السياسية بين أركان السلطة بحسب الدستور، والارتكاز على القواسم المشتركة الجامعة – الإسلام والعروبة والوطن – الموحِدة للشعب التونسي، واستمداد القوة من إرادة الحياة التي تسري في أرواح الشعب التونسي العظيم، كما عبّر عنها شاعرها الكبير أبو القاسم الشابي: “إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة… فلا بد أن يستجيب القدر”. وبذلك فقط تعود الروح ويعود الوعي إلى الثورة التونسية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.