ماذا تعني واشنطن بسياستها «المتواضعة»؟

Kiri - Bandar

مرّ كلام مستشارة الامن القومي الاميركي سوزان رايس حول سياسة بلادها تجاه الشرق الاوسط مرور الكرام ولم يأخذ الاهتمام الكافي على رغم اهميته المطلقة. فلقد قالت في وضوح إنّ سياسة بلادها تجاه الشرق الاوسط وقضاياه المعقدة ستكون متواضعة خلال السنوات الثلاث المقبلة والمتبقية من ولاية الرئيس الاميركي باراك أوباما.

هذا الكلام الذي يشكل نقيض الخطاب الذي كان أوباما قد ألقاه في جامعة القاهرة عقب وصوله الى البيت الابيض، وخلال زيارته الأولى لبلد عربي يضيء كثيراً من الجوانب المبهمة لسياسته في ولايته الثانية.

ذلك انّ صاحب نظرية سياسة “القوة الناعمة” والذي ورث إرثاً ثقيلاً من سلفه جورج دبليو بوش حاول اعادة ترتيب استراتيجية جديدة تجمع ما بين الانسحاب الهادئ من المستنقعات الكثيرة التي غرقت فيها واشنطن مباشرة وبين المحافظة على المصالح الاميركية الحيوية في المنطقة وبين تحضير الساحات لصدّ التقدم الصيني البطيء ولكن الثابت.

ففي بداية ولايته الاولى تحدث أوباما من القاهرة، ومن اسطنبول ايضاً، عن الاسلام السياسي المعتدل، غامزاً من قناة الاسلام التركي الحاكم ملمحاً بطريقة او بأُخرى الى رهان اميركي على “الاخوان المسلمين” كمدخل للتصالح مع الشعوب الاسلامية، وكحاجة لدرء خطر التمدّد الصيني. ومع اندلاع “الربيع العربي” اعلن البيت الابيض عن استراتيجية تضع في الاولوية العمل على احتواء القوة الصينية وانشاء قواعد عسكرية في اوستراليا والمناطق القريبة من الصين.

لكنّ “الربيع الاسلامي” انقلب سريعاً شتاءً عاصفاً، حيث بدت التيارات الاسلامية غير مهيّأة لتسلُّم السلطة، عدا عن أنّ اجنحتها المعتدلة وجدت صعوبة في تليين كوادرها التي تربّت على عقيدة محاربة الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الاميركية.

وجاءت حادثة ليبيا لتدعم موقف الفئات العسكرية والامنية في الولايات المتحدة الاميركية وأوروبا على حدّ سواء حول خطورة ادخال العالم العربي في هذا النفق المظلم.

وبين النزاع المستميت للاقليات الحاكمة مثل سوريا، والتناقض القاتل ما بين “الإخوان المسلمين” الذين تدعمهم قطر وبين المدارس الاسلامية الأُخرى التي تدعمها السعودية القلقة من تسلل انتفاضة “الاخوان” الى عقر دارها، بدت واشنطن متردّدة في خطواتها.

فصحيح انها في ليبيا شاركت في جزء من الحملة العسكرية الجوية لطرد القذافي من السلطة، الّا أنّ الاوساط المراقبة كلها تؤكد انّ الادارة الاميركية التي انخرطت إعلامياً في حملة اسقاط الرئيس السوري بشار الأسد لم تقدم على ايّ خطوات عملية جدية لترجمة تهديداتها.

وتحت ضغط المجموعات العسكرية والامنية الاميركية بدت واشنطن حذرة ازاء تغلغل المجموعات الارهابية بسهولة في المناطق السورية التي خرجت منها فرق الجيش السوري، حتى فرنسا نفسها والتي تعاطت مع الشمال اللبناني كقاعدة انطلاق في اتجاه العمق السوري ووزعت ضباط استخبارات لهذه الغاية، عادت وسحبت كوادرها بعد معركة “بابا عمرو” التي انكشفت فيها قدرة المقاتلين الإسلاميين المتطرفين ومدى إمساكهم بزمام الامور على الارض.

ومع اعادة انتخاب أوباما لولاية ثانية بدت سياسة البيت الابيض تقود على اساس العودة الى مرحلة ما قبل جورج دبليو بوش، أي الانسحاب من الشرق الاوسط وعدم التورط مباشرة في مشكلاته المعقدة والصعبة والعودة الى سياسة تأمين المصالح الاميركية من خلال القوى المحلية.

على هذا الاساس يتنفس العراق من خلال حكومة نوري المالكي، ووفق هذا المنطق تبدلت الصورة تجاه الرئيس السوري، وتحت هذا العنوان تجري حماية تركيبة الدولة اللبنانية ورعاية الجيش اللبناني، لا بل تعزيز قدراته مستقبلاً وايلائه مهمات كبرى.

وتقاطع كل ذلك مع دور روسي مساعد، لا مناقض، سمح بتنفيذ الانعطافة تجاه إيران مع وجود توجه واضح الى تعزيز هذه الاندفاعة وتحصينها وحمايتها.

ولذلك عندما تقول مستشارة الامن القومي الاميركي إنّ سياسة بلادها في الشرق الاوسط للمرحلة المقبلة ستكون متواضعة، أي أنّ بلادها لن تبذل أيّ جهود كبيرة لتعديل موازين القوى على الارض، لا بل على العكس فهي ستنفذ تعاوناً مع القوى المحلية لحماية المصالح الاميركية.

هذا الواقع لا يرضي السعودية، لا بل يغضبها. ففيما باشرت قطر في تنفيذ انعطافتها، لم تتردّد الرياض في إبداء غضبها بعدما عوّلت كثيراً على المساندة الاميركية لانتزاع مخالب إيران في سوريا ولبنان، ولاحقاً في العراق.

لكنّ واشنطن لا تبدو قلقة من اشارات الغضب السعودية، أولاً لأنها تراها ضرورية لاستيعاب الشارع الخليجي المعبّأ ضدّ إيران والذي كان يعوّل على واشنطن، لأنها تدرك انّ هذا “الزعل” محكوم بضوابط كثيرة ابرزها النزاعات الداخلية العميقة والتي تجعل من اللجوء الى الادارة الاميركية ضرورة، وثانياً لإقتناص الفرصة والتوغل اكثر في مشروع المصالحة مع إيران بلا حرج.

لكنّ وزير الخارجية الاميركية جون كيري صاحب مشروع “استعادة إيران” يدرك انّ زيارته أمس للسعودية بهدف تنقية الاجواء لن تكون بلا أثمان. فهو حتماً سيعلّل سبب الاندفاعة الاميركية واستعجال فتح ابواب الحوار لاستباق البرنامج النووي الايراني والذي أصبح في نهاياته. وأنه بعد القضاء على هذا السلاح الذي يهدد الأمن في المنطقة تصبح الأمور أكثر إيجابية لمصلحة تحجيم النفوذ الايراني.

طبعاً ستصرّ السعودية على ضرورة ضرب هذا المشروع بإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد كمدخل وحيد لقبولها حضور مؤتمر “جنيف -2” ومع إبدائها قدرتها على تنفيذ عمل عسكري يمكنه تهديد دمشق وبالتالي اسقاط الاسد.

بمعنى انّ لا توصل الى تسوية الاّ بعد معركة كبرى في سوريا. كذلك ستصرّ السعودية على دورها في لبنان، وقد لا تكون واشنطن بعيدة من القبول بإعطائها حصصاً في هذا البلد من دون أن يعني ذلك منحها موقع رئيس مجلس الادارة، بحيث يحسّن ذلك موقعها التفاوضي مع ايران من دون أن ينسفها.

وعليه فإنّ الاستنتاج يصل الى حدود توقّع مرحلة حامية تكون كفيلة في نهاية الامر في إنضاج ظروف “جنيف – 2” حماوة ستطاول الساحتين السورية واللبنانية وهو ما بدأت بوادره في طرابلس. ولن يفوّت المسؤولون السعوديون ابداء استيائهم العميق من قطر والحكومة التركية بسبب مشروعهما في المنطقة.

صحيفة الجمهورية اللبنانية ـ
جوني منير

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.