ما لم يسمعه أبو مازن في البرتغال

palestine-olive

د. مصطفى يوسف اللداوي:
صادف وجودي في لشبونة زيارة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى البرتغال، لتقديم واجب الشكر إلى الحكومة البرتغالية على موقفها الداعم للطلب الفلسطيني للحصول على عضوية دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، إذ أيدت لشبونة ضمن غالبية الدول الأوروبية الطلب الفلسطيني، وأعلنت مساندتها لحق الفلسطينيين في أن يكون لهم دولة محددة المساحة ومعروفة الحدود ومعترف بها من قبل المجتمع الدولي، وإن كانت الأرض المقصودة بالدولة تخضع كلها للاحتلال الإسرائيلي.

سمعت من كثيرٍ من البرتغاليين عن خبر الزيارة، وأن الرئيس الفلسطيني موجودٌ في لشبونة، وكانت مظاهر الفرحة بادية على وجوههم وهم ينقلون لي هذا النبأ، وقد أغلقت بعض الطرق والشوارع في العاصمة لتسهيل مرور موكبه، مما أحدث اضطراباً في حركة السير، وازدحاماً مؤقتاً في بعض الطرقات، ولكن ذلك لم يزعج البرتغاليين، ولم يدفع بعضهم إلى التأفف أو الغضب والسباب، بل أطفأ بعضهم محركات سيارتهم، وانتظروا حتى انتهاء مرور الموكب، وصولاً إلى الرئيس البرتغالي أو رئيس وزرائه أو وزير خارجيته أو رئيسة البرلمان، الذين التقاهم أبو مازن خلال زيارته، شاكراً لهم وقوفهم إلى جانبه، وتأييدهم لمطلبه، وشاكياً لهم السياسة الإسرائيلية الاستفزازية، ورعونة رئيس حكومتها ووزير خارجيته، متمنياً عليهم المزيد من الدعم والمدد والإسناد للشعب الفلسطيني، ودوراً أكبر لدول الاتحاد الأوروبي خاصة أن البرتغال تشغل مقعد عضوٍ غير دائم في مجلس الأمن.

شعرتُ من كثيرٍ من البرتغاليين أنهم سعداء ومبتهجون، أنهم شاركوا في عملٍ كبير، ووقفوا إلى جانب الشعب الفلسطيني، وأنهم مع المجتمع الدولي قد قدموا شيئاً عظيماً إلى الشعب الفلسطيني، ومنحوه حقاً كان مستحيلاً، وساندوه في مطلبٍ كان قديماً، ويرون أن بلادهم ودولاً كثيرة كانت على درجة عالية من الجرأة والتحدي، إذ واجهت لأول مرة الكيان الإسرائيلي بموقفها المؤيد لحق الفلسطينيين في دولةٍ لهم، وتحدت الضغط الأمريكي ومحاولات ألمانيا للوقوف على الحياد والامتناع عن التصويت، وأفشلت مساعي وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغودور ليبرمان بعزل الفلسطينيين، والحيلولة دون تحقيق هدفهم، وحرمانهم من بعض حقهم.

تساءلتُ في حضرة بعض الباحثين والمهتمين البرتغاليين، عن الأسباب الكامنة وراء تغير نظرة بعض الدول الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية، رغم أنها تختلف أصلاً عن النظرة الأمريكية والبريطانية المنحازة لإسرائيل دوماً، فهل أنهم كانوا لا يدركون هذا الحل سابقاً، ولا يعرفون أنه ضرورة للحفاظ على الحق، ولما عرفوه لماذا كانوا يستبعدونه ويحاولون تعطيله، وهل يرون أن هذا الإعلان سيقود إلى تهدئة المنطقة، وانتهاء الصراع، وقبول الفلسطينيين به، وأنه سيكون العلاج الشامل والبلسم الشافي لكل الأدواء والأزمات الفلسطينية، وطناً تاريخياً، وعودةً وقدساً وأسرى، وهل أن إسرائيل ستعترف بالدولة الفلسطينية الناشئة على أصولٍ قانونية، وأنها ستنسحب من أراضيها لتمكنها من بناء وتأسيس دولتها عليها.

أدركتُ أن البرتغاليين يرون في هذه الخطوة أنها غاية القدرة، وأنها أقصى ما يمكن أن يحققه الغرب للفلسطينيين، فليس إلا دولةً على 22% من مساحة فلسطين التاريخية، ولكنها ستكون بموجب تفاهماتٍ واتفاقياتٍ بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إذ أن الحل ينبغي أن يكون مرناً وقابلاً للتفاوض، كاستبدال أراضٍ وإزاحة حدود، وانتقال سكان، وتحديد مواصفاتٍ وصلاحياتٍ، وانتقاص مساحة واقتطاعِ أراضٍ، واستحداث عاصمة والقبول بحلولٍ توافقية، وغير ذلك من التفاهمات التي تراها أوروبا مكملة للحلم الفلسطيني.

الأوروبيون رغم قربهم من المنطقة العربية، واهتمامهم الكبير بالقضية الفلسطينية، إلا أنهم لا يدركون حقيقة الأزمة، وأبعاد المشكلة في حال المضي في هذا الحل، فهو حلٌ لا يرضي الفلسطينيين وإن كان قد حظي بمباركة بعض القوى والحركات، وحاز على تأييد الأفراد والجماعات، فقط كونه معركة مع القوى الداعمة لإسرائيل والمؤيدة تاريخياً لها، وأنه محاولة لفضح الكيان الصهيوني وعزله، لا إيماناً من الفلسطينيين بأنه الحل المرجو، والهدف والمقصود.

الأوروبيون يجهلون أو لا يريدون أن يفهموا أن الحكومات الإسرائيلية كاذبة وغادرة، وأنها لا تفي ولا تصدق، ولا تلتزم ولا تنفذ، وأن غاية ما تريده تنازلاً من الفلسطينيين عن كل حقوقهم، وتأييداً غربياً وأمريكيا لها في كل سياساتها وممارساتها، وتفهماً لكل ما تقوم به من اعتداءات وعملياتٍ عسكرية، بحجة أنها إجراءات وقائية ودفاعية، وأنها محاولات للرد على قوى إرهابية مخربة، ووقتاً إضافياً يمنحه لها العالم لتتمكن من تحقيق المزيد من أهدافها، كما تأمل ضغطاً غربياً على السلطة الفلسطينية للعودة إلى طاولة المفاوضات، لتكون غطاءاً لكل السياسات الاستيطانية الإسرائيلية، وتزييناً زائفاً لكل القرارات والمواقف المتعلقة بالقضية الفلسطينية.

بات الأوروبيون ومنهم البرتغاليون يضيقون ذرعاً بالكيان الصهيوني، ويرون أنه أضر بمصالحهم، وأساء إليهم، وخلق لهم أعداءً وخصوماً، وأنه أفسد علاقاتهم، وأجبرهم على القيام بما لا يؤمنون به أو يرضون عنه، مما يتناقض مع قيمهم ومفاهيم حضارتهم، وقد آن الأوان لأن يمارسوا ضغطاً على الكيان الصهيوني الذي كانوا سبباً في صنعه، وأساساً في خلقه، ولكنهم يرون أن الكيان الصهيوني بات بسياساته يعيش ظروفاً صعبة، ويواجه تحدياتٍ حقيقية، وأنه لم يعد راشداً وقادراً على التفكير بنفسه، وأن أخطاءه أضحت كثيرة ومدمرة، وسلوكياته خطرة ومغامرة، وأن بعض قادته يقودونه إلى الهاوية، ويستعجلون نهايته، وأن سياسة حكوماتهم سياسة منفرة، تقود إلى فرض عزلة حقيقية على كيانهم، وإلى فضح حقيقة ممارساتهم، الأمر الذي يعني وجوب فرض الوصاية، وفرض الحلول الممكنة عليهم، ولو أدى الأمر إلى خلق إرادةٍ أوروبيةٍ مضادة ومغايرة للإرادة الأمريكية الراعية والحاضنة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.