منطقة الساحل الأفريقي وأثرها في المنطقة المغاربية

موقع قناة الميادين-

عبد القادر بن قرينة:

تعتبر منطقة الساحل الأفريقي أحد أهم المجالات الجيوسياسية في العالم، ما يجعلها محلّ أطماع القوى الكبرى والمتنافسة، نظراً إلى ما تتميّز به من موقع استراتيجي مهمّ.

شهدت أفريقيا في بداية العقدين الأخيرين ولادة جيوسياسية جديدة لمنطقة الساحل والصحراء الأفريقية في الرؤى والحسابات الجيوستراتيجية الدولية كمركز ثقل لأفريقيا، بسبب التداعيات الأمنية التي تعيشها دول المنطقة داخلياً والتخوف الخارجي من هذه التداعيات، على المنطقة المغاربية والاتحاد الأوروبي وغيرهما.

تعتبر منطقة الساحل الأفريقي أحد أهم المجالات الجيوسياسية في العالم، ما يجعلها محل أطماع القوى الكبرى والمتنافسة، نظراً إلى ما تتميز به من موقع استراتيجي مهم، فضلاً عن الثروات النفطية والغازية وما تتمتع به من موارد معدنية. هذا ما جعلها محط اهتمام القوى الكبرى وساحة لتنافس الفواعل الدولية.

تضمّ المنطقة المعروفة باسم منطقة الساحل 5 دول، هي: موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد.

إنّ الخصائص الجغرافية والبيئية لمنطقة الساحل، من مساحات شاسعة وتصحر وارتفاع في درجات الحرارة، ألقى بظلاله على البناء الاجتماعي، الأمر الذي جعلها ملاذاً لـ:

1- الشبكات الإجرامية والجماعات الإرهابية التي شكلت تهديداً حقيقياً للسلم والأمن في دول الساحل وكل المنطقة المجاورة.

2- الجريمة المنظمة، إذ تعتبر المنطقة فضاء خصباً للجريمة المنظمة العابرة للحدود، كالمخدرات، والهجرة السرية، والجريمة الإلكترونية، وغسيل الأموال، وهو الأمر الذي جعلها مصدراً لتهديدات أمنية إقليمية ودولية خطرة.

هذا المشهد في الساحل الأفريقي جمع لنا المتناقضات، من إمكانية التطور والنهوض الاقتصادي من جهة، وعوامل التفكك والهشاشة والاضطراب الداخلي من جهة أخرى، الأمر الذي جعل المنطقة تشهد تنافساً جيوسياسياً كبيراً بين القوى الكبرى، كالولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، إضافة إلى الصين؛ القوة الصاعدة بوتيرة متسارعة، وروسيا في الآونة الأخيرة، على الشكل التالي:
الولايات المتحدة الأميركية

تتبنى واشنطن مفهوماً واسعاً لمنطقة الساحل الأفريقي، وترى أن البحر الأحمر (يحد منطقة الساحل من الشرق) يتمتع ‏بموقع استراتيجي كبير يجعله يتحكّم في حركة العالم، لكونه منطقة لنقل البترول من الخليج العربي وإيران إلى أوروبا الصناعية والولايات المتحدة الأميركية واليابان. كما يعتبر حلقة وصل بين المحيط الهندي والبحر المتوسط، ما يجعله طريقاً بحرياً للقوات العسكرية.
فرنسا

تتبنى باريس المفهوم الضيق لمنطقة الساحل الأفريقي. يرجع ذلك إلى كونها تهتم أساساً بمناطق نفوذها السابقة خلال الحقبة الاستعمارية، والتي ارتبطت بها أساساً في منطقة غرب أفريقيا التي تعتبر تاريخياً منطقة نفوذ فرنسي، إذ أبدت الحكومات الفرنسية المتعاقبة رغبتها في الحفاظ على مصالحها في منطقة الساحل.

‏تتبنى فرنسا الدور أو الوضع الدفاعي الذي تبديه استراتيجيتها في المنطقة للحفاظ على مواقعها كامتياز، فتجدها تدعم الأنظمة الصديقة لها، كنظام الرئيس إدريس ديبي في تشاد، لمواجهة المعارضة السياسية، ‏فوجودها في هذه المنطقة سبب لها العديد من التهديدات الإرهابية، من خلال عمليات اختطاف رعاياها في منطقة الساحل الأفريقي.

في سنوات 2009-2007، كثفت فرنسا حضورها العسكري إلى جانب شركات المرتزقة في منطقة “آغادار” ومناجم “أرليت” و”إيمورارن”، وكانت تعتمد أساساً على الخيار العسكري، وقامت بالعديد من العمليات العسكرية المشتركة لمواجهة تنظيم “القاعدة” بهدف تحرير رعاياها المختطفين، كالعملية العسكرية المشتركة التي قام بها الجيش الموريتاني المدعّم بالقوات الخاصة الفرنسية في تموز/يوليو 2010.

كما سمحت اتفاقيات موقعة بين بوركينا فاسو والنيجر وموريتانيا لباريس بنشر قواتها في منطقة الساحل، لتدريب الجيوش الوطنية لمكافحة الإرهاب ورصد المعلومات.

إضافةً إلى ذلك، هناك عامل دولي مهم يُحسب لمصلحة استمرار الدور الفرنسي في منطقة دول الساحل، هو الاتحاد الأوروبي الذي يمثل دعامة حقيقية لفرنسا. ويمكننا هنا أن نلحظ أن الاستراتيجيات الأوروبية تجاه منطقة الساحل شهدت تطورات كثيرة، أهمها:

– عملية برخان في مالي

تدخلت فرنسا عسكرياً في مالي بدءاً من 11 كانون الثاني/يناير 2013، استجابةً للحكومة المالية آنذاك، التي طلبت التصدّي لزحف رتل من الجهاديين ومتمردي الطوارق على باماكو. وفي العام الموالي، دشنت رسمياً عملية “برخان” التي كان من المقرر أن تصبح أطول عملياتها الخارجية منذ نهاية حرب الجزائر عام 1962، بمشاركة نحو 5500 جندي تم نشرهم في مالي والنيجر وتشاد ضمن شراكة مع دول منطقة الساحل والصحراء الخمس (موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد).

تزامن إطلاق العملية مع تأسيس مجموعة دول الساحل الخمس “G5” كإطار مؤسسي لتوحيد الجهود. وقد تبنى الاتحاد الأوروبي عام 2011 هذه العملية التي أعلنت فرنسا انتهاءها في تموز/يوليو 2021، بحيث تم تقليص عدد قواتها وإعادة النظر في طبيعة عمليات ما تبقى منها. وقد حدد الرئيس إيمانويل ماكرون الربع الأول من عام 2022 موعد الانتهاء التام من هذه العملية الفاشلة.

القوات الفرنسية المشاركة في عملية “برخان” تمتلك 3 قواعد عسكرية في شمال مالي. تقع القاعدة الأساسية في “غاو”، وهي مزودة بمروحيات هجومية ووحدات يطلق عليها اختصاراً “جي تي دي” أو “مجموعات معارك الصحراء”. إلى جانب ذلك، هناك عربات مدرعة ثقيلة ومعدات لوجستية للنقل.

وفي قاعدة “غاو”، يتمركز عديد القوات العسكرية الفرنسية الأساسية في مالي، مدعمين بعناصر من مجموعة “تاكوبا”، وهي قوات أوروبية مكونة من 800 عسكري أرسلتهم كلّ من بلجيكا وجمهورية التشيك والدنمارك وإستونيا وفرنسا وإيطاليا والمجر وهولندا والبرتغال والسويد، لكنَّ نصف تلك القوات هو وحدات فرنسية.

ويمتلك الجيش الفرنسي أيضاً قاعدتين أماميتين للعمليات موجودتين في المناطق الصحراوية الممتدة شمال مالي. وفي مدينة أنسونغو، تقع وحدة عسكرية خفيفة للاستطلاع والتدخل تابعة لمجموعة “تاكوبا”.

– عملية “تاكوبا” الأوروبية

واجهت العملية الإخفاق نفسه الذي واجه عملية برخان الفرنسية في منطقة الساحل الأفريقي، لكن الأزمة هذه المرة مختلفة. وقد جاءت بعد سلسلة من تبادل الإهانات بين المجلس العسكري في باماكو من جهة، وفرنسا وحلفائها الأوروبيين من جهة ثانية، وخصوصاً بعد قرار مالي طرد قوات الدنمارك من أراضيها.

ظهرت مهمة “تاكوبا” التي تشكلت عام 2020 بقيادة فرنسا كعملية تهدف إلى تدريب القوات في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وتتكون من قوات خاصة أوروبية. وكانت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي قد أعلنت أثناء الإعداد لتلك المهمة أن فرنسا، في سبيل مساعدة تلك الجيوش في تحقيق انتصارات.

ضمت عملية “تاكوبا” نخبة من قوات عسكرية أوروبية، وهدفت إلى جمع 2000 عسكري وتزويدهم بسيارات رباعية الدفع ودراجات نارية لمكافحة الجماعات المسلحة إلى جانب القوات المحلية.

– الاتحاد الأوروبي

من أجل تمتين السلام والأمن في دول الساحل الأفريقي، وضع الاتحاد برامج بناء السلام فيما بعد النزاعات، ومنع نشوبها منذ 2014 وفق الشكل الآتي:

ورغم كلّ هذه الجهود، فإنَّ الأوروبيين فشلوا في جلب الاستقرار إلى هذه المنطقة، بل تزايد فيها الإرهاب وتفشّى بدرجة أخطر من ذي قبل، وباتت الجيوش الوطنية، وكذا قوّة “”G5، يواجهون مخاطر أكبر من قدراتهم، لأن الاستقرار لا يتحقق من دون تنمية.
الصين

نظرة بكين إلى أفريقيا ليست وليدة اليوم. منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، تركّز اهتمامها على بناء جسر مع البلدان النامية لتعزيز الحضور الصيني ومحاصرة الإمبريالية الغربية. ويمثل العمق الاستراتيجي وبناء منطقة حيوية عن طريق العامل الاقتصادي أهم دوافع الصين للتفاعل مع أفريقيا ككلّ، ودول الساحل الأفريقي بصفة خاصة.

تعي الصين نظرة الأفارقة إلى الغرب على أنه مستعمر قديم. وبناء عليه، تستعمل القوة الناعمة وبناء شراكات اقتصادية استراتيجية بعيدة من السياسة، وتضع في أعلى سلم أولوياتها الاحتفاظ بعلاقات قوية مع موردي الطاقة الأفريقيين، وهي الَّتي تستورد نحو 25% من الطاقة، من خلال:

– التزام سياسة عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية.

– تقديم بكين نموذجاً تنموياً فريداً، انطلاقاً من النمو الاقتصادي الكبير الذي تحققه.

– بناء علاقات استراتيجية مع دول الساحل الأفريقي، إذ أصبحت الصين ثالث شريك اقتصادي بعد الولايات المتحدة وفرنسا.

اهتمت الصين بمنطقة شرق أفريقيا، نظراً إلى موقعها الجيوسياسي على طريق التجارة العالمية، وأصبحت في العقدين الأخيرين أهمّ مستثمر اقتصادي في المنطقة، وخصوصاً مشروعها “الحزام والطريق”، وهو ما يجسد البعد الجيوسياسي في مفهومها الواسع، وفي تحقيق المصالح العليا للدولة.
روسيا

أعلن وزير الخارجية المالي أنَّ بلاده “لا تستبعد أي شيء” في علاقاتها مع فرنسا، لكنه استبعد خروج القوات الفرنسية من منطقة الساحل، قائلاً إن هذه المسألة “ليست مطروحة في الوقت الحالي.”

إنّ المجلس العسكري أصبح أكثر ثقة بتحدي فرنسا وحلفائها الأوروبيين مع تلقيه دعماً روسياً بالعتاد، وخصوصاً مع توارد أنباء عن وصول نحو 400 عنصر من شركة “فاغنر” الروسية إلى مالي، وانتشارهم في مناطق متفرقة من البلاد.

ويثير دخول “فاغنر” إلى ملعب النفوذ الفرنسي في مالي قلق باريس، إذ علق لودريان على الأمر، في تصريح له، بأن الشركة “تنهب مالي في مقابل حماية المجموعة العسكرية” الحاكمة في البلاد.

ومع وجود “فاغنر”، يصعب على باريس الانسحاب الفعلي من مالي، وليس المعلن، لكنَّ شركاءها الأوروبيين لا يملكون الحماسة والمصالح نفسها للبقاء أكثر، في ظل عدم رغبة الحكومة المحلية في استباحة سيادتها من دون أن يكون لها الحق في ضبط الوجود العسكري الأجنبي في أراضيها.

كما أنَّ وجود مجموعات “فاغنر” يعدّ ورقة في يد حكام مالي العسكريين في مواجهة الضغوط الغربية بشأن إقامة انتخابات سلسة ووضع حد للفساد، أو انتهاكات حقوق الإنسان، أو تصفية الحسابات السياسية، أو الهيمنة العسكرية على الحكّام المدنيين.
الاتفاقيات العسكرية والتدريب بين روسيا والدول الأفريقية

نشطت المؤسسة العسكرية الروسية في توطيد علاقاتها مع نظيراتها الأفريقية؛ فمنذ عام 2015، وقعت 21 اتفاقية عسكرية مع مجموعة من الدول، من بينها: أنغولا وبوتسوانا وبوركينا فاسو وتشاد وإثيوبيا وغينيا ومدغشقر ونيجيريا والنيجر وسيراليون وتنزانيا وزيمبابوي.

تشمل هذه الاتفاقيات مجالات متعددة، منها التدريب الأمني والعسكري، وتبادل المعلومات، والتعاون في مكافحة الإرهاب.

يظلّ أنجح خطوات روسيا في هذا السياق هو اتفاقها مع الخرطوم على بناء مركز دعم لوجستي على الساحل السوداني، والذي طرحه الرئيس السوداني السابق عمر البشير في قمة جمعته بفلاديمير بوتين عام 2017. وقد أصدر الأخير قرار الشروع في بناء المركز اللوجستي في ولاية البحر الأحمر في كانون الأول/ديسمبر 2020، إثر الإعلان عن توقيع اتفاقية مع الجانب السوداني.

وسيدعم هذا المركز العمليات الروسية في أماكن أخرى من المنطقة، ويشكّل منصة لجمع المعلومات الاستخباراتية لمراقبة أنشطة القوى المنافسة لموسكو في حوض البحر الأحمر والقرن الأفريقي وشبه الجزيرة العربية، كالقوات الأميركية أو الصينية أو الفرنسية أو السعودية أو الإماراتية.

توترت علاقات النظام العسكري في مالي مع فرنسا، بحيث أصبحت الأخيرة غير مرغوب فيها، ما اضطرها إلى سحب جيشها. هنا ستضطر الجزائر إلى ملء الفراغ الأمني في إطار امتداد طبيعي جنوب – جنوب، وتفعيل هيئة الأركان العملياتية لدول الساحل جنوب الجزائر، التي تأسّست في شهر نيسان/أبريل 2010، وتتشكل من الجزائر وموريتانيا والنيجر ومالي، وخصوصاً بعد التصديق على الدستور الجزائري الجديد، الذي أصبح يتيح تحرك الجيش الجزائري خارج الحدود (بشروط)، والذي كان ممنوعاً في الدساتير السابقة، إلا تحرك الجيش الجزائري في إطار الصراع مع الكيان الإسرائيلي ودعم الحق العربي في استرجاع سيادته الترابية.

ختاماً، يمكن القول كتقدير استشرافي للمآلات المستقبلية إنَّ الاتحاد الأوروبي قد يتراجع عن نفوذه في منطقة الساحل، إلا أنَّ فرنسا ستظلّ معنيّة بهذا الشأن، وستستميت لبقاء مستعمراتها القديمة منطقة نفوذ حيوية لأمنها القومي، وتليها في ذلك ألمانيا بدرجة أقل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.