من غزة إلى الأقصى.. طوفان جرف أسطورة الجيش الذي لا يقهر
صحيفة الوطن السورية-
محمد نادر العمري:
من المستحيل جداً أن يتم التطرق للقضية الفلسطينية دون أن يتحرك في وجدان كل مواطن سوري شعور العاطفة الوطنية القومية تجاه هذه القضية، ربما لأن السوريين هم الذين احتضنوا ومازالوا يحتضنون هذه القضية رغم كل ما تعرضوا له من ضغوط وعقوبات وإرهاب في العقود السابقة وخاصة بعد عام 2011، لذلك ما يحدث اليوم من بطولات في الأراضي المحتلة عموماً وقطاع غزة خصوصاً يجعل السوريين يشعرون بنشوة النصر بعد سنين سوداء مرت عليهم، نتيجة الإرهاب وتداعيات الحصار وسرقة الموارد.
نعم يا سادة، هو حدث بحجم الأمة العربية، لم يكن متوقعاً حتى من أكثر المناصرين للقضية الفلسطينية، وربما كان تصور ما حدث أو توقع حصوله، أن يتم من الجنوب اللبناني وليس من غزة المحاصرة، ولكن عملية «طوفان الأقصى» التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية المقاومة أكدت عدة حقائق، أهمها: إن الحصار بجميع أشكاله لن يثني أصحاب الحق عن المطالبة بحقوقهم واستردادها بالقوة، وإن الكيان المغتصب الذي روج لنفسه بدعم من الدعاية الغربية أنه الجيش الذي لا يقهر هو مجرد بالون ممتلئ بأوهام الأكاذيب والعنجهية والعنصرية وغيرها من صفات الاحتلال المستبد الذي يمارس أبشع صور الإرهاب.
بالتحليل، حملت عملية «طوفان الأقصى» العديد من الأبعاد الاستراتيجية في إطار الصراع مع الكيان الصهيوني، وخاصة تغيير قواعد الاشتباك التي أثرت بدورها في ميزان القوى، إذ بلورت العديد من هذه المؤشرات وفق النقاط التالية:
أولاً- من حيث التوقيت فإن عملية الطوفان، جاءت بعد يوم واحد من ذكرى اليوبيل الذهبي لحرب تشرين التحريرية، في دلالة على أهمية هذه الحرب التي شكلت أولى هزمة للكيان، وجاءت أيضاً ثالث أيام ما يسمى «عيد العرش» اليهودي، الذي استخدمته «طروش» المستوطنين المتطرفين لاقتحام الأقصى بذريعة تأدية الطقوس الدينية المزعومة.
ثانياً- المباغتة والمفاجأة وهما عنصران مكنا الفصائل المقاومة من خلق واقع الإرباك على المستويين الرسمي وغير الرسمي داخل الكيان، حتى إن الصحف الأميركية وفي مقدمتها «واشنطن بوست» نقلت عن قادة إسرائيليين قولهم: «على الرغم من مرور يوم كامل من الهجوم، فإننا في صدمة أمام هول ما حصل».
ثالثاً- لأول مرة منذ حرب تشرين التحريرية، كان زمام المبادرة في اتخاذ قرار شن الحرب أو البدء بعمل عسكري على الكيان الإسرائيلي هو بيد الطرف العربي، وعنصر المبادرة كان في إطلاق هذا الرد القاسي على عنجهية الكيان المغتصب وسياسته المتطرفة التي يتباها بها من خلال «عملية طوفان» الأقصى، وفي فجر النهار، وخاصة في ظل وصول معلومات إلى محور المقاومة عن التجهيز الإسرائيلي للقيام بعمل عدواني ضد أحد أطراف وقوى المقاومة في سورية أو لبنان أو فلسطين للبدء به بعد انتهاء الأعياد اليهودية المزعومة.
رابعاً- قدرة الفصائل الفلسطينية وعناصرها بإمكانات وقدرات برية وجوية وبحرية على تجاوز كل ما بناه الكيان الإسرائيلي على مدى أكثر من عقد من أسوار إسمنتية بعمق تسعة أمتار تحت وفق الأرض (سور غزة) ونشر الأسلاك الشائكة ونقاط المراقبة وأجهزة الرصد والإنذار المبكر، بتكلفة تزيد على مليار دولار، حتى إن وزير الدفاع الإسرائيلي السابق «بني غانتس» زار مستوطنات غلاف قطاع غزة بعد الانتهاء من بناء الأسوار عام 2021م، وصرح مخاطباً المستوطنين: «الآن بات في إمكانكم العيش بسلام».
خامساً- صحيح أن حزب الله وبعض من الفصائل الفلسطينية استطاعوا استهداف المستوطنات في مدن الأراضي المحتلة بالصواريخ وتمكنوا من فرض قواعد للاشتباك القائمة على تجاوز قدرات المضادات الدفاعية الإسرائيلية، إلا أن عناصر المقاومة ونخبها المقاتلة تمكنت لأول مرة في تاريخ الصراع مع هذا الكيان، من نقل الاشتباك إلى داخل هذه المدن والمستوطنات بمساحة قدرت بأكثر من 650 كيلو متراً، أي ما يقارب ضعف مساحة قطاع غزة، وإخراج فرقة عسكرية بأكملها من الخدمة «فرقة غزة»، وتعطيل المطارات القريبة، وتدمير مواقع عسكرية تمثل مراكز إدارة العمليات ضد غزة، ومازالت هذه الفصائل حتى إعداد هذه المقالة أي بعد أكثر من 72 ساعة تشتبك مع جنود الاحتلال في هذه المناطق وقدرة المقاومة على استبدال عناصرها وإمدادهم بالأسلحة والمؤونة اللازمة، وهو ما يمثل إخفاقاً استراتيجياً في القدرات العسكرية لجيش الاحتلال.
سادساً- توظيف إمكانات الفصائل المتواضعة تحت الحصار وإدارتها بأكبر كفاءة ممكنة مثل الدراجات أو ابتكار طرق جديدة مثل الأشرعة الطائرة، في مرونة الانتقال والحركة والمناورة التي تتطلب انتشاراً مكثفاً لتفادي الخسائر المحتملة في الأرواح ونشر الذعر لدى جيش الاحتلال ومؤسساته وتشتيت انتباهها.
سابعاً- الإخفاق الاستخباراتي الإسرائيلي، وهي ليست مجرد جملة أو شعار، إنها حقيقة تمس سلباً بسمعة وهيبة ليس فقط المؤسسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية بل الأميركية أيضاً، لأن معظم الأجهزة التي تستخدمها مؤسسات الكيان هي أجهزة أميركية، وهذا الفشل الاستخباراتي يتمثل في فشل تقدير إمكانات الفصائل وقدراتها واحتمال شنها عمليات عسكرية والأهم من ذلك الفشل في تقدير قدرات جيش الاحتلال في التصدي لهذه العمليات، كما أن هذا الفشل الاستخباراتي يقابله تفوق استخباراتي للمقاومة، من حيث القدرة على الإيحاء بعدم قيامها بأي عمل عسكري في أثناء الأعياد اليهودية، وقدرتها على سرية اتصالاتها وتواصلها للتحضير للعملية، أو من خلال معرفتها لانتشار قواعد الاحتلال وتمركز نقاطها العسكرية خلف خطوط الغلاف، أو من حيث اختراقها للاتصالات العسكرية.
ثامناً- تعزيز صراع الأدمغة والتوظيف التكنولوجي كان من أبرز ملامح تغيير قواعد الاشتباك، وهو ما برز في الحرب السيبرانية التي شنتها حركات المقاومة لتعطيل الرادارات الإسرائيلية واستخدام طائرات الدرونز التي أوقعت خسائر بمعدات جيش الاحتلال وقواته، وإدخال جيل جديد منها تحمل اسم «الزواري» نسبة للمهندس التونسي محمد الزواري الذي يعود الفضل له بتصنيع الطائرات المسيرة لكتائب القسام وتم اغتياله 2016.
تاسعاً- الكثافة النارية التي بدت بها عملية طوفان الأقصى عبر إطلاق خمسة آلاف صاروخ، بالتزامن مع تكتيك جديد اتبعته المقاومة تمثل في المباغتة الجوية والبحرية والبرية، وهو ما ساهم بشكل كبير في انهيار الصفوف المتقدمة للنقاط العسكرية الإسرائيلية، كما حافظت المقاومة على القدرة الخاصة بإطلاق الصواريخ على الرغم من شن طائرات الاحتلال الإسرائيلي اعتداءات بعشرات الأطنان على غزة.
عاشراً- إدارة الحرب النفسية لدى المقاومة بشكل مهاري وفعال، إذ بدأت العملية ببيان واضح ومحدد الأهداف، وتم تصوير كل العمليات العسكرية وبثها على جميع الوسائل الإعلامية، والمصداقية في تنفيذ الوعود.
إحدى عشرة- من خاض هذه العمليات وربما قام بالتخطيط والإعداد لها، هم من الشباب الفلسطيني الذين لم يعيشوا حقبة النكبة لعام 1948، ولا خضعوا لإهانة النكسة 1967، وهو ما يعني أن كل محاولات الكيان وحكوماته المتعاقبة بتغييب القضية بتغير الأجيال هو مجرد وهم، وما قام به هؤلاء المقاومون ليس اعتداء كما وصف، بل تحرير لأراضي آبائهم وأجدادهم.
إثنتا عشرة – لا أريد أن استبق تقدير الموقف وإطلاق أحكام مسبقة، في أن لحزب الله دوراً لا يستهان في التدريب والتجهيز والتخطيط لهذه العملية، وخاصة أن جزءاً مما قد شاهدناه من عملية اجتياح المقاومة لمستوطنات غلاف غزة، كان شبيهاً للمناورات التي أجراها الحزب خلال الشهرين الماضيين، وبعد عدة اجتماعات جمعت بين الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله مع قادة الفصائل الفلسطينية.
من المؤكد أن عملية «الطوفان» غيرت من قواعد الاشتباك، وسيكون لها تداعيات على المستوى الخريطة الإقليمية، وخاصة فيما يتعلق بموضوع التطبيع سواء من حيث إعادة نظر الدول المطبعة مع الكيان لطبيعة العلاقة معه، أو تجميد مفاوضات التطبيع مع الدول الأخرى وفي مقدمتها السعودية، ولكن أيضاً من كان يعتقد أنه يستطيع تنفيذ مشاريعه على مستوى المنطقة لتعويم الكيان وتحقيق مصالح جيواستراتيجية للحفاظ على الهيمنة الدولية، قد يتبين له أنه خاطئ، فعملية الطوفان قد دقت المسمار الأول والأخير في نعش مشروع الرئيس الأميركي جو بايدن «الممر الهندي الأوروبي» الذي يتخذ المكان نقطة وصل مهمة.