من يقف وراء مؤسس موقع “ويكيليس”؟

WikiLeaks founder Julian Assange makes a speech from the balcony of the Ecuadorian Embassy, in central London, Britain February 5, 2016. Assange should be allowed to go free from the Ecuadorian embassy in London and be awarded compensation for what amounts to a three-and-a-half-year arbitrary detention, a U.N. panel ruled on Friday.      REUTERS/Peter Nicholls
وصل أسانج، رئيس تحرير موقع ويكيليكس، إلى الشهرة العالمية في عام 2010 بعد كشفه عن كم هائل من الوثائق خاصة بالاتصالات الحكومية الأميركية السرية للغاية، التي كشفت أسرار حروبها في أفغانستان والعراق، ومناوراتها الدبلوماسية في جميع أنحاء العالم. ولكن في مقابلة تلفزيونية في سبتمبر/أيلول الماضي، كان من الواضح أنه ما يزال لديه الكثير ليقوله عن “العالم وفقاً للإمبراطورية الأميركية”، العنوان الفرعي لكتابه الأخير “ملفات ويكيليكس”.

من ضيق ملجئه بسفارة الإكوادور في لندن، حيث تم منحه اللجوء قبل 4 سنوات وسط مأزق قانوني، أظهر أسانج الولايات المتحدة كدولة مستبدة: فهي أمة حققت القوة الإمبريالية بإعلان احترامها لمبادئ حقوق الإنسان في حين استخدمت استخباراتها العسكرية في الضغط على الدول للقيام بما تمليه عليها، ومعاقبة الناس من أمثاله الذين يجرؤون على قول الحقيقة، وفقاً لما نشرته صحيفة new york times الأميركية.
غياب روسيا

ومع ذلك، غاب عن تحليل أسانج انتقاد قوة عظمى أخرى في العالم، وهي روسيا، أو رئيسها فلاديمير بوتين، الذي لا يكاد يرقى إلى مستوى الشفافية الذي تدعو إليه ويكيليكس. فحكومة بوتين تقمع المعارضة، فتتجسس عليهم وتسجنهم، وأحياناً تغتال المعارضين، بينما تعزز من سيطرتها على وسائل الإعلام والإنترنت. ومما يدعو للسخرية أن أسانج شجب الرقابة في مقابلة مع روسيا اليوم، القناة التليفزيونية الدعائية التي يسيطر عليها الكرملين.

الآن، عاد أسانج وويكيليكس مرة أخرى إلى دائرة الضوء، التي تؤرق المشهد الجيوسياسي مع التسريبات الجديدة ووعد بالمزيد في المستقبل.

في يوليو، نشرت المنظمة ما يقرب من 20،000 رسالة بريد إلكتروني خاصة باللجنة الوطنية الديمقراطية، مما يشير إلى أن الحزب قد تآمر مع حملة هيلاري كلينتون لتقويض منافستها الأساسي، السيناتور بيرني ساندرز. أسانج -الذي انتقد كلينتون علناً- وعد بالمزيد من التسريبات التي يمكنها أن تغير مسار حملتها ضد المرشح الجمهوري، دونالد ترامب. وفي حادث منفصل، أعلن موقع ويكيليكس أنه سيفضح قريباً بعض الأسرار الهامة من وثائق المخابرات الأميركية: مجموعة من شفرات التجسس الإلكتروني.

ويقول مسؤولون في الولايات المتحدة إنهم يعتقدون بدرجة عالية من الثقة أن رسائل الحزب الديمقراطي الإلكترونية اخترقت من قبل الحكومة الروسية، كما يظنون أن الشفرة أيضاً سرقت من قبل الروس. هذا يثير سؤالا: هل أصبحت ويكيليكس أداة لعرض المواد التي يجمعها الجواسيس الروس؟ وعلى نطاق أوسع، ما هي، على وجه التحديد، العلاقة بين أسانج وكرملين بوتين؟

تصبح هذه الأسئلة أكثر أهمية بسبب دور روسيا في الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية. وقد أشاد بوتين، الذي اصطدم مراراً مع كلينتون عندما كانت وزيرة للخارجية، علناً بدونالد ترامب، الذي رد المجاملة، داعياً لعلاقات أوثق مع روسيا وتحدث عن تقبله لضم بوتين لشبه جزيرة القرم.

منذ بداية ويكيليكس، قال أسانج إنه مدفوع بالرغبة في استخدام “التشفير لحماية حقوق الإنسان”، وإنه سيركز على الحكومات الاستبدادية مثل روسيا.

ولكن فحص نيويورك تايمز لأنشطة ويكيليكس خلال السنوات التي أقام فيها أسانج في المنفى أظهر نمطاً مختلفاً: سواء على سبيل القناعة أو الراحة أو المصادفة، كانت تسريبات ويكيليكس، بالإضافة إلى العديد من تصريحات أسانج، كثيرا ما تصب في مصلحة روسيا، على حساب الغرب.

يكاد يجمع مسؤولو الولايات المتحدة، أن أسانج وويكيليكس ليس لهم علاقة مباشرة مع أجهزة المخابرات الروسية. لكنهم يقولون إنه، على الأقل في حالة رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بالديمقراطيين، كانت موسكو على ثقة أن ويكيليكس ستكون مستعدة لنشر تلك الرسائل، وأن وسطائها سيتمكنون من نشر الوثائق المسربة بكل بساطة عن طريق إرسالها إلى بريد ويكيليكس.
لا يوجد دليل

وقال أسانج في مقابلة يوم الأربعاء مع صحيفة التايمز، إن هيلاري كلينتون والديمقراطيين “يعيدون إحياء الهوس الماكارثي بشأن روسيا”. وأضاف أنه لا يوجد “أي دليل ملموس” على أن ما تنشره ويكيليكس يأتي من وكالات الاستخبارات، ولكنه أشار إلى أنه سيرحب بنشر مثل هذه المواد.

وأكد أسانج أن ويكيليكس لا تستهدف أو تتجنب أمة بعينها، بل تعمل على التحقق من كل المواد التي تتسلمها لصالح الجمهور، الذي “يحب أن يعلم شيئاً مما تخبئه الكيانات الفاسدة التي تحاول التحكم فيه”.

وقال أسانج إنه في ظل موارد ويكيليكس المحدودة وعقبات الترجمة، لماذا التركيز على روسيا، التي وصفها بأنها “مجرد لاعب واحد على المسرح العالمي”، مقارنة مع دول مثل الصين والولايات المتحدة؟ وأضاف أن الفساد في الكرملين ليس أمراً جديداً، وأن “كل من هب ودب ينتقد روسيا، أليس ذلك مملاً بعض الشيء؟”.

منذ نشأتها، نجحت ويكيليكس بجدارة على بعض الجبهات، مثل كشف القتل العشوائي والنفاق والفساد، والمساعدة في اندلاع ثورات الربيع العربي.
استغلال وكالات الأنباء

يرى غافن ماكفادين، مؤيد لويكيليكس يدير مركز الصحافة الاستقصائية في جامعة لندن، أن المسألة لا تتعلق بمصدر الوثائق التي ينشرها أسانج، ولكن ما إذا كانت صحيحة وتحقق المصلحة العامة. وأشار إلى أن المخابرات لها تاريخ طويل في استغلال وكالات الأنباء لنشر قصص بعينها، وأن وسائل الإعلام الغربية كثيراً ما تنشر “مواد تأتي من المخابرات المركزية الأميركية بدون تمحيص”.

ولكن الأحداث الأخيرة حدت ببعض مؤيدي الشفافية للتساؤل ما إذا كانت ويكيليكس قد ضلت وجهتها. وقال جون وندرلش، المدير التنفيذي لمؤسسة سانلايت، وهي مجموعة مكرسة لشفافية الحكومة، إن هناك فرقاً بين نشر مواد قام بتسريبها كاشف فساد، مثل تشيلسي ماننغ، الجندي الذي سرب معلومات حربية لويكيليكس، وبين قبول نشر معلومات، ولو بصورة غير مباشرة، من مخابرات أجنبية تسعى لتدعيم مصالحها.

وقال وندرلش “إنهم يتحالفون مع من يعطيهم المعلومات من أجل الحصول على الشهرة أو الانتقام من أعدائهم، ولا يمانعون أن تتجسس الحكومات على بعضها البعض وتعطل العملية الديمقراطية لدى بعضها البعض، وكل من أجل مزاعم واهية للمصلحة العامة”.

ويرى آخرون أن أسانج يتبع نهجاً ضيق الأفق على نحو متزايد، مما يشعرهم بخيبة أمل.

قال أندريه سولداتوف، وهو محقق صحفي كتب كثيراً عن أجهزة الأمن الروسية “كان من المفترض أن تكون المعركة من أجل الشفافية عالمية؛ هذا على الأقل ما ادعاه أسانج في البداية”

وأضاف سولداتوف “من الغريب أن هذا المبدأ لا يجري تطبيقه على أسانج نفسه وتعامله مع بلد معين، وهو روسيا، يبدو أنه يرى أن محاربة الشر الأكبر قد تضره كثيراً”.
دعم من موسكو

في عام 2006، حين بدأت ويكيليكس، أرسل أسانج، وهو مواطن أسترالي، بيان مهمة إلى المتعاونين المحتملين. وقال إن “أحد أهدافه” كان المساعدة في فضح السلوك “غير قانوني أو غير الأخلاقي” لحكومات الغرب.

ولكن أسانج أكد أن “هدفه الرئيسي” يكمن في مكان آخر. قال “أهدافنا الأساسية هي تلك الأنظمة القمعية في الصين وروسيا وأوراسيا الوسطى”.

بعد وقت قصير من تسريب سجلات الحرب في عام 2010، هدد أسانج بتنفيذ هذا الوعيد. فويكيليكس، كما قال لصحيفة روسية، حصلت على مواد حساسة “تخص روسيا، تخص الحكومة ورجال الأعمال الروس”.

ولكن حياة أسانج سرعان ما انقلبت. في يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني، من ذلك العام، تم إصدار مذكرة دولية لاعتقاله على خلفية مزاعم اعتداء جنسي في السويد، وهو ما ينفيه. بعد 8 أيام، سربت ويكيليكس برقيات تخص وزارة الخارجية الأميركية، تلقي الضوء على العلاقات الدبلوماسية للولايات المتحدة.

كما أشار أسانج في مقابلة مع صحيفة مع التايمز، تضمنت العديد من البرقيات أحكاماً حادة على روسيا. فقد أطلق عليها في أحدها “دولة المافيا”. ولكن الوثائق كانت أكثر ضرراً بكثير لمصالح الولايات المتحدة منها لمصالح روسيا، وأبدى المسؤولون في موسكو رباطة جأش. وصف وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أسانج بأنه “لص صغير يتجول على شبكة الإنترنت”.

سُئل أسانج بعد فترة وجيزة من قبل مجلة تايم ما إذا كان لا يزال يخطط لفضح التعاملات السرية للكرملين، فأكد ذلك قائلاً “نعم بالتأكيد”.

لكن هذا الوعد لم يتحقق. بدلاً من ذلك، مع تصاعد مشاكل أسانج القانونية، هب بوتين للدفاع عنه.

في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2010، أعلن مسؤولون من الولايات المتحدة عن التحقيق في أمر ويكيليكس. كلينتون، التي كانت وزارتها مرتبكة بسبب ما أصبح يعرف باسم “فضيحة كيبلجيت” تعهد باتخاذ خطوات “جريئة” لمحاسبة المسؤولين.

في الشهر التالي، اعتقلت شرطة لندن أسانج لمواجهة استجواب من قبل السويد، التي كان يخشى أن تسلمه لأميركا. بعد أن خرج بكفالة، قاوم الترحيل وتحصن في منزل ريفي جورجي يملكه مؤيده، فوغان سميث، الذي قال في مقابلة إنه يعتقد أن أسانج ضحية لحملة مكثفة من “البلطجة والتضليل على الإنترنت”.

بعد يوم من اعتقال أسانج، ظهر الرئيس الروسي في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الفرنسي. استغل بوتين سؤالاً، طرحه صحفي قال إن البرقيات الدبلوماسية صورت روسيا على أنها غير ديمقراطية، للهجوم على الغرب.

قال بوتين “على ذكر الديمقراطية، يجب أن تكون الديمقراطية كاملة. لماذا وضعوا أسانج وراء القضبان؟” وأضاف “من كان بيته من زجاج لا يقذف الناس بالحجارة”.

كانت تلك أول مرة يتبنى فيها بوتين قضية أسانج، ولم تكن الأخيرة. فقد وصف التهم التي وجهت لأسانج بأنها “سياسية”، وأعلن أن مؤسس موقع ويكيليكس “يضطهد بسبب نشره لمعلومات تلقاها من الجيش الأميركي بشأن الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بما في ذلك العراق”.

في يناير/ كانون الثاني 2011، صدق الكرملين على تأشيرة دخول لأسانج، واقترح مسؤول روسي أنه يستحق جائزة نوبل للسلام. وفي أبريل/نيسان 2012 مع منع التمويل عن ويكيليكس -تحت ضغط الحكومة الأمريكية توقفت فيزا وماستركارد عن قبول التبرعات- بدأت روسيا اليوم في بث برنامج “العالم غداً” يقدمه جوليان أسانج.

لم يعرف المبلغ الذي تقاضاه أسانج أو ويكيليكس عن الحلقات الاثنتي عشرة. قالت وكالة صن شاين، المتحدثة باسمه، في بيان مكتوب أن روسيا اليوم “كانت من بين اثنتي عشرة قناة اشترت رخصة البث لبرنامجه”.

ولكن في 19 يونيو 2012، سرعان ما نحى أسانج منحى مختلفاً. فقد خرق حكم إطلاق السراح بكفالة بعد أن خسر استئنافاً ضد تسليمه إلى السويد، وحصل على حق اللجوء في سفارة الإكوادور الصغيرة في لندن، التي تطل على الجزء الخلفي من متجر هارودز.
عالم منقسم

بعد عام واحد، استقل الرجل الذي سرعان ما غطت شهرته على أسانج في مجال كشف الفساد طائرة في هونغ كونغ. كان اسمه إدوارد سنودن، وكان عميلاً لوكالة الأمن القومي تحول إلى هارب، بعد أن أذهل العالم وتسبب في أزمة مع حلفاء أميركا بتسريب الوثائق التي كشفت عن وجود شبكة من برامج المراقبة العالمية بقيادة الولايات المتحدة.

لم يكن سنودن قد أعطى الآلاف من الوثائق السرية إلى موقع ويكيليكس. ومع ذلك، فإنه كان بناء على اقتراح من أسانج أن يرحل سنودن في 23 يونيو/ حزيران عام 2013، إلى موسكو، برفقة زميلة ويكيليكس سارة هاريسون، حيث لا يزال سنودن حتى اليوم بعد إلغاء الولايات المتحدة جواز سفره.

في الواقع، مع شعوره بالقلق من اعتباره جاسوساً، كان كل ما يتمناه سنودن هو أن يمر عبر روسيا في طريقه إلى أمريكا الجنوبية، كما روى أسانج في وقت لاحق. فروسيا، في رأيه، هي الأقدر على حماية سنودن من اختطاف المخابرات الأميركية له، أو ربما ما هو أسوأ من ذلك.

وقال أسانج في البرنامج الإخباري “الديمقراطية الآن”، “فكرت، وفي واقع الأمر نصحت إدوارد سنودن، بأنه سيكون أكثر أماناً في موسكو”.

قبل سنوات، خلال اجتماع نوفمبر/تشرين الثاني 2010 مع صحفيي نيويورك تايمز للتفاوض من أجل الحصول على البرقيات الدبلوماسية، تحدث أسانج عن طلب اللجوء إلى روسيا. لتوقعه التداعيات المحتملة لتسريب البرقيات، تحدث أسانج عن انتقاله إلى روسيا وإقامة ويكيليكس هناك. كان رفاقه يشككون علنا في تلك الفكرة، نظراً لصرامة جهاز المراقبة التابع للكرملين ورقابته المشددة على وسائل الإعلام.

أن ينصح أسانج سنودن بالسفر لنفس المكان، يعتبر معياراً، ليس فقط لرؤيته، ولكن أيضا لظروفه وشخصيته، كما يقول أصدقاؤه وزملاؤه السابقون.

تقول سويليت دريفوس، صديقة قديمة لأسانج وأكاديمية تدرس موضوع كشف الفساد، أن دافعه الوحيد هو اعتقاد راسخ أن الحكومات، وغيرها من المؤسسات الكبيرة والقوية، يجب أن تُحجّم من أجل حماية حقوق الأفراد.

وتضيف “هذه ليست معركة بين الشرق والغرب، برغم من محاولة ذوي الأجندات الخاصة تصويرها على هذا النحو”.

ولكن حتى مع استمرار أنصار أسانج في اعتباره مقاتلاً شجاعاً -إلا أنهم يقولون أنه مغرور وطفولي، ويميل إلى تقسيم العالم إلى قسمين: الذين يدعمونه والذين لا يدعمونه.

خلال الفترة التي قضاها معزولاً في السفارة الإكوادورية، تحت المراقبة المستمرة، تزايد كرهه للغرب حتى أصبح لا يلقى بالاً لانتهاكات الكرملين، الذي كان يعتبره “حصناً ضد الإمبريالية الغربية”، كما يرى أحد مؤيديه، طلب عدم ذكر اسمه خوفاً من إغضاب أسانج.

قال شخص آخر تعاون مع ويكيليكس في الماضي “إنه يرى كل شيء من خلال منظور المعاملة التي تعرض لها. سببت أميركا وهيلاري كلينتون له المتاعب، أما روسيا فلم تفعل ذلك مطلقاً”.

فكانت النتيجة “مواجهة ذات بعد واحد مع الولايات المتحدة الأميركية”، وفقاً لدانيال دومشايت بيرغ، الذي كان من الشركاء المقربين لأسانج قبل استقالته من ويكيليكس في عام 2010.

من المستفيد من هذه المواجهة، التي تتمثل في سلسلة من التصريحات العلنية لأسانج وتسريبات ويكيليكس في توقيتات مختارة بعناية؟ في كثير من الأحيان كان فلاديمير بوتين. رغم أن تسريبات وثائق الحزب الديمقراطي هي المرة الأولى التي يؤكد المسؤولون في الولايات المتحدة أنها قد سرقت من قبل المخابرات الروسية، إلا أن أجندات كل من ويكيليكس وبوتين تلاقت مراراً وتكراراً منذ لجأ أسانج إلى السفارة.

وجه أسانج انتقادات خفيفة لحكومة بوتين بضع مرات. في مقابلة عام 2011، على سبيل المثال، تحدث أسانج عن “بوتنة” روسيا. كما دعا على تويتر للإفراج عن فرقة غنائية سُجن أعضاؤها لسخريتهم من بوتين.

ولكن أسانج ظل صامتاً إزاء أقسى تحركات الرئيس الروسي. سنودن، على سبيل المثال، وليس أسانج، هو الذي تولى التنديد بقانون يمنح الكرملين سلطات واسعة للمراقبة. بينما أجاب أسانج، حين سئل خلال مقابلة يوم الأربعاء حول القانون الجديد، بأن روسيا تعاني من “الاستبداد”، لكنه أشار إلى أن نفس الشيء يحدث في الولايات المتحدة.

كما تبنى أسانج أيضا وجهة نظر روسيا في قصية الهجوم على أوكرانيا، حيث اتهمت إدارة أوباما بوتين بدعم الانفصاليين. وقال لصحيفة أرجنتينية في شهر مارس من العام الماضي، إن الولايات المتحدة هي التي كانت تتدخل هناك، عن طريق تأجيج الاضطرابات من خلال “محاولة جذب أوكرانيا إلى المدار الغربي، وانتزاعها من مجال النفوذ الروسي”. أما عن ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، علق بأن واشنطن وحلفاءها مخابراتها “ضموا العالم كله” من خلال المراقبة العالمية.

مثل ترامب، الذي حاول الاستفادة من تسريبات الحزب الديمقراطي، دعم أسانج التصويت بانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، كما هاجم حلف شمال الأطلنطي، الناتو، العديد من المرات، مهاجماً بذلك المنظمتين الذين يطوق بوتين إلى تفكيكهما.

في سبتمبر 2014، على سبيل المثال، كتب أسانج على تويتر عن ما أسماه “الصفقة الفاسدة” التي رتبتها تركيا لإيقاف القناة التلفزيونية الموالية للأكراد في الدنمارك في مقابل السماح لرئيس الوزراء الدنماركي أندرس فوغ راسموسين أن يترأس الناتو.

كان توقيت تلك التغريدة غريباً لسببين: أولاً لأنها اعتمدت على برقية دبلوماسية كانت ويكيليكس قد سربتها قبل أربع سنوات، ثانياً لأنها تلت مساجلات استمرت لمدة شهر بين راسموسين وبوتين، اتهم فيها الرئيس الروسي رئيس الناتو بتسجيل محادثة خاصة دارت بينهما، واتهم فيها راسموسين بوتين بالازدواجية في الشأن الأوكراني، لكونه أصدر تصريحات تصالحية بينما كان يحشد القوات على الحدود ويرسل الأسلحة للانفصاليين.

قام أسانج بإعادة القصة إلى للساحة في يونيو الماضي بعد اختيار الرئيس الأوكراني بترو بوروشنكو لراسموسين ليكون مستشاراً خاصاً، عن طريق تسجيل فيديو لملتقى إعلامي روسي حضره بوتين تزامن مع الذكرى الخامسة والسبعين لإنشاء المكتب الإعلامي السوفييتي.
مسألة توقيت

هناك أيضاً التسريبات نفسها. فبعضها، مثل المستندات المقرصنة للكنيسة العلموية (كنيسة الساينتولوجي)، تبدو عديمة الفائدة للروس، إلا أن بعض المستندات الأخرى ذات أهمية.

وقد نشرت ويكيليكس تسريبات لمواد مصدرها السعودية وتركيا، وهما من حلفاء الولايات المتحدة وإن اختلفت درجة شمولية النظام السياسيّ في كليهما. وقد أتى نشر التسريبات في وقتٍ يزداد فيه التوتر بين هذه الدول ورسيا.

فعلى سبيل المثال، نُشِرَت المستندات السعودية، والتي تُبرِز جهود التلاعب في الرأي العام العالميّ تجاه المملكة، بعد شهور من اتهام بوتين للسعوديين بتخفيض أسعار النفط لإلحاق الضرر باقتصاد روسيا وحلفائها إيران وڤينزويلا.

وكانت مجموعة أخرى من التسريبات مفيدة بشكل غير مباشر لـ”روساتوم”، وهي وكالة الطاقة النووية المملوكة للدولة. فقد حوت تلك المستندات تفاصيلَ “حربٍ يصل فيها الفساد إلى عدّة مليارات من الدولارات” بين شركات غربية وصينيّة -من بينها أكبر منافسي روساتوم- من أجل الحصول على اليورانيوم وحقوق تعدين أخرى في جمهورية أفريقيا الوسطى.

وتبدو ويكيليكس على وعي تام بمشاكل التصوّر والإدراك حين يتعلق الأمر بروسيا. فعندما انطلق بثّ برنامج أسانج على محطة “روسيا اليوم”، قال مازحاً في تصريح قد يستخدم في تشويه صورته: “أسانج دمية عاجزة في يد الكرملين”.

وقد أشارت “صن شاين برس”، الشركة التي تدير العلاقات العامة في المجموعة، إلى أن ويكيليكس نشرت في عام 2012 مجموعة وثائق أسمتها “ملفات سورية”، وهي أكثر من مليوني إيميل إما صادرة عن أو تتناول حكومة الرئيس بشار الأسد، وهي التي تتلقى دعماً روسيّاً خلال الحرب الأهلية التي تدور رحاها في البلاد.

إلا أنه عند نشر تلك الملفات وصفت سارة هاريسون، مساعدة وزميلة أسانج، أن تلك المواد ربما تكون محرجة للحكومة السوريّة إلا أنها كذلك بالنسبة لخصومها. ومنذ ذلك الوقت، اتهم أسانج الولايات المتحدة بتعمد زعزعة الاستقرار في سورية، إلا أنه لم ينتقد علناً انتهاكات حقوق الإنسان التي تقوم بها حكومة الأسد والقوات الروسيّة في سورية.

وأكثر المستندات التي تنشرها ويكيليكس تكون مصنّفة، مثل تعليمات وكالة الاستخبارات الأميركية (سي آي إيه) عن كيفية الحفاظ على التغطية في المطارات الأجنبيّة. لكن ما يعتبر أكثر تسريبات ويكيليكس إثارة للاهتمام تنطوي على ما يبدو ظاهريّاً أمراً أقل حساسيّة، ألا وهو المفاوضات التجاريّة.

ومنذ نوڤمبر 2013 وحتى مايو/أيار 2016، نشرت ويكيليكس وثائق توضّح المداولات الداخليّة في اتفاقيّتَين تجاريّتين: إحداهما الشراكة عبر الباسيفيك (عبر المحيط الهادي TPP)، والتي تهدف إلى تحرير التجارة بين الولايات المتحدة واليابان و10 دول أخرى على حافة الهادي. أما الاتفاقية الأخرى فهي اتفاقية تجارة الخدمات، وهي اتفاق بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي و21 دولة أخرى. ومع استبعادها من هاتين الاتفاقيّتَين، أصبحت روسيا أشد معارضيهما، حيث يراهما بوتين محاولاتٍ لإعطاء الولايات المتحدة دَفعةً لا تستحقها في الاقتصاد العالمي.

وقد أثارت المسوّدات التي نشرتها ويكيليكس جدلاً واسعاً بين الكثيرين من بينهم نشطاء الحفاظ على البيئة، دعاة حرية الإنترنت والخصوصيّة، القيادات العماليّة، ورقباء حوكمة الشركات الدولية. كما أذكت تلك المسوّدات استياءً شعبيّاً مناهضاً للتجارة الحرّة التي أصبحت عاملاً هاماً في السياسات الأميركيّة والأوروبيّة. وكما يعتقد مسؤولون أميركيّون، فإن تلك المستندات نشرت في لحظات حرجة، بهدف إفشال تلك المفاوضات.

وأبرزت ويكيليكس الخلاف الدوليّ والمحليّ على حساباتها في موقع التدوينات المصغّرة تويتر.

ويعتقد المفاوضون الأميركيّون أن التسريبات ربما خرجت من بعض شركاء المفاوضات، بهدف إحراز النفوذ والتأثير على مسار المفاوضات. ففي حادثة مماثلة في يوليو/تمّوز 2015، وبينما كان المفاوضون الأميركيّون واليابانيّون يضعون اللمسات الأخيرة في اتفاق الشراكة عبر الهادي، خرجت بعض التسريبات التي أسمَتها ويكيليكس “الهدف طوكيو” / “استهدفوا طوكيو”.

واعتماداً على الوثائق بالغة السرّية الصادرة عن وكالة الأمن القومي الأميركية، أبرزت التسريبات 35 هدفاً يابانياً وضعوا تحت التجسس الأميركي، وقد شملت تلك الأهداف عدداً من الوزاراء ومسؤولي المفاوضات التجارية وبعض الشركات اليابانيّة مثل ميتسوبيشي. وكان قد جرى التوافق على مبادئ الاتفاق التجاري -وإن لم يكن تم تصديقه من مجلس الشيوخ الأميركي- إلا أنّ التسريبات دقّت إسفيناً في ثنايا المحادثات.

ووقتها لخّص أسانج “الدرس الذي ينبغي على اليابان أن تستوعبه” بأن عليها “ألا تتوقّع من قوة عظمى تقوم بعمليات المراقبة والتجسس أن تتعامل مع الآخرين من منطلق مبادئ الشرف والاحترام”. وأضاف “هناك قاعدة واحد فقط، وهو أنه لا يوجود قواعد”.

وبسبب مصدر تلك الملفّات، فقد اعتقد مسؤولو الاستخبارات الأميركيّة أن أسانج ربما وقعت بحوزته بعض ملفات وكالة الأمن القوميّ التي قام إدوارد سنودن بنسخها مسبقاً.

إلا أن جلين جريينولد، وهو أحد الصحفيَّين اللذين حصلا على كامل أرشيف سنودن، قال في مقابلة أن سنودن لم يعطِ مستنداته إلى ويكيليكس، وأن وثائق “الهدف طوكيو” لم تكن أصلاً ضمن الوثائق التي كانت بحوزة سنودن.

ويضيف جريينولد أن الأمر نفسه ينطبق على مجموعة أخرى من تسجيلات التنصّت بوكالة الأمن القومي، والتي نشرتها ويكيليكس، وتكشف أن الولايات المتحدة قامت بالنتصّت على محادثات مسؤولين بالأمم المتحدة وحلفاء أوربيين، من بينها محادثات خاصة بشأن مراقبة المناخ بين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والأمين العام للأمم المتحدة بان كي-موون. وقال أسانج يوم الأربعاء أن لديه مصادره التي يحصل منها على مواد وكالة الأمن القومي، غير تلك الخاصة بإدوارد سنودن.

يثير هذا الأمر التساؤل حول ما إذا كان هناك عناصر أخرى ما زالت متخفيّة وتعمل على تسريب الوثائق إلى ويكيليكس من داخل وكالة الأمن القومي، أو أن ويكيليكس حصلت على تلك الوثائق من خارج الوكالة عبر عمليات تجسس إلكترونية معقّدة، ربّما قامت عناصر حكومية برعايتها. هذا التساؤل يؤيّده تصريح لأسانج منذ أسابيع قليلة أنه قد ينشر الترميزات التي تستخدمها الولايات المتحدة لأغراض الاختراق والقرصنة. وأثار هذا تساؤلات عدد من المتعاونين السابقين مع ويكيليكس بشان ماهية من يقومون اليوم بتزويد أسانج بالمعلومات والبيانات.

يقول أحد هؤلاء المتعاونين “ليس من طبعه أن يصبح يتمّ توظيفه لخدمة مصالح آخرين. ولا أعتقد أنه قد يتلقّي أي شيء بوضوح من خدمة الأمن الاتحاديّة”، وهي وكالة الاستخبارات الروسية التي حلّت محل KGB السوڤيتيّة. مضيفاً أن أسانج لا يثق في الوكالة بشكل كافٍ، مفضّلاً التعاون مع مجموعات القرصنة. وأكّد أن أسانج لم يكن أبداً ضليعاً في إجراءات التأكد من دوافع المصادر التي يستقي منها التسريبات.
أوراق پَنَما

في أبريل/نيسان الماضي، أطلق الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين سيلاً من المقالات التي كان لها صدى واسع عالميّاً.

اعتماداً على 11.5 مليون وثيقة مسرّبة من شركة قانونية مقرّها پنما ومختصة بإنشاء شركات أجنبيّة سريّة، تلقي “أوراق پنما” نظرة على عالَمٍ مبهم تعمل فيه البنوك والشركات القانونية وشركات إدارة الأصول على مساعدة الأغنياء وذوي النفوذ في إخفاء ثرواتهم والتهرّب من الضرائب.

وتعدّ هذه الأوراق أضخم مجموعة وثائق مسرّبة تعامل معها الصحفيّون، ولذا لم يكن مدهشاً أن يربط البعض على تويتر بين ويكيليكس وبين ما قام به اتحاد الصحفيين. إلا أن ما كان له وقع الصدمة على بعض الصحفيين المسؤولين عن نشر هذه الوثائق هو ما قامت به ويكيليكس لاحقاً.

فمن بين القصص الكبرى كانت قصة توضح كيف جرت تصفية أمور إحدى الشركات التي تقدّر رؤوس أموالها بمليارات الدولارات ويديرها عازف التشيلو سيرجي رولدوجين، أحد أقرب أصدقاء الرئيس الروسيّ ڤلاديمير پوتين. ما يقرب من إثني عشر مؤسسة إعلامية، من بينها الصحيفتَين الروسيتَين المستقلتَين ڤيدوموستي ونوڤايا جازيته، قامت بتعقّب هذه الأمول.

إلا أن ويكيليكس أوردَت فقط مساهمة واحدة فقط من هذه المؤسسات، وهي “مشروع تقرير الجريمة المنظمة والفساد”؛ وفي سلسلة تويتات على تويتر بعد انتشار التسريبات الخاصة برولدوجين، شكّكت ويكيليكس في نزاهة “المشروع”، مشيرةً إلى أن “المشروع” يتلقّى دعماً من مؤسسة سوروس والوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID.

وكرّر أسانج في مقابلة مع الجزيرة تلميحاته بأن اتحاد الصحفيين، ذا الأجندة الغربيّة، قد انتقى الوثائق المسرّبة بعناية فائقة، قائلاً “بالتأكيد كان هناك جهد كبير للبقاء على وتيرة تقريع بوتين، تقريع كوريا الشماليّة، تأكيد العقوبات، إلخ”.

في الواقع، فإن التسريبات الأوليّة التي بدأ بها الاتحاد الدوليّ قد أبرزت العديد من المواد شديدة اللهجة بحق أهداف غربيّة، من بينها تقرير عن استخدام والد رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون للشركات الأجنبيّة من أجل التهربّ الضريبي. كذلك كان هناك تقرير عن شركة أجنبية أسسها الرئيس الأوكراني پوروشينكو، أحد أعداء بوتين.

بالرغم من هذا، فقد استخدم بوتين تناول ويكيليكس للجدل الدائر من أجل الدفاع عن نفسه. فقد أعلن أنه بينما تشير هذه المواد المسرّبة إلى أن “هناك صديق للرئيس الروسي قام بعملٍ ما، ربما له علاقة بالفساد، إلا أنه في الواقع ليس هناك فساد على الإطلاق.” وأضاف “وبجانب هذا، فإننا الآن نعرف من خلال ويكيليكس أن المسؤولين وأجهزة الدولة في الولايات المتحدة وراء هذا كله”.

وعَزا جيرارد رايل، مدير الاتحاد الدولي للصحفيّن الاستقصائيين، تصرفات أسانج إلى الغيرة المهنيّة. وقال المسؤول عن تلك التسريبات، والذي لا يزال مجهولاً، في بيان نُشر في مايو الماضي أن أوراق بنما عُرِضَت بدايةً على ويكيليكس، إلا أن عدة محاولات من التواصل معهم لم تُفلِح ولم يتلقَّ جواباً. (ينكر أسانج معرفته بأي شيء عن هذا).

إلا أن الصحفي الاستقصائي الروسي سولداتوڤ كان شديد الغضب عند مواجهة هاريسون، مساعدة أسانج، في مؤتمر صحفي في إيطاليا في اليوم التالي. حينها أخبرها سولداتوڤ “لقد قُتِل العديد من الصحفيين في نوڤايا جازيته” بعد نشر تقارير عن روسيا في عهد بوتين. وتساءل ساخراً “الآن تشكّك ويكيليكس في نزاهتهم؟”

وقال سولداتوڤ في مقابلة أن من المثير للدهشة أن يكون سنودن، المقيم في موسكو، أقدر على انتقاد بوتين من أسانج؛ والذي يراه سولداتوڤ الآن يعمل على تبرير أفعال بوتين.

وقال سولداتوڤ، الذي عمل في المشروع أولاً في صحيفة ڤيدوموستي، ثم كمحرر في “مشروع تقرير الجريمة المنظمة والفساد”، قال أنه هو أيضاً “في حيرة” لفهم هجوم أسانج على أوراق بنما. وأوضح هذا بقوله “كان من المدهش أن يكرر أسانج نفس الأعذار التي اعتاد المسؤولون الروس، حتى في العهد السوڤيتيّ، على إيرادها؛ وكلها تدور حول مؤامرات خارجيّة”. وأضاف “أتفهّم صراعه مع الولايات المتحدة؛ إلا أنني لم أتخيّل قط أن يستخدم جهودنا، نحن الصحفيين الروس، من أجل هذا. لقد كنت وما زلتُ أحترم ما قام به جوليان أسانج، لكنني الآن أغيّر رأيي فيه كشخص”.
مشاحنات علنيّة

وقد كان أسانج دائماً يؤكّد “أنا ويكيليكس”، الأمر الذي يبدو اليوم أوضح من أي يومٍ مضى.

ومع مرور أربع سنوات على لجوئه إلى سفارة الإكوادور، يزداد أسانج عزلةً. فالرجل الذي يبلغ من العمر 45 عاماً يعيش في غرفتين صغيرتين بالسفارة، إحداهما يستعملها كمكتب مزوّد بسرير، مصباح، هاتف، حاسوب، مطبخ صغير، دش، جهاز رياضي، وأرفف للكتب؛ فيما الغرفة الأخرى تعتبر “قاعة مؤتمرات”، حيث يلتقي الزوار ويشرف على العمل بمساعدة بعض الموظفين القلائل المقيمين في برلين. أحد الأشخاص الذين رأوا المكان وصفه بأنه “محطة وقود بعاملَين”.

وقالت ميلندا تايلور، إحدى محاميّ أسانج، أنه احتاج في بعض المرّات إلى علاج الأسنان وعمل تصوير بالرنين المغناطيسي إثر تعرّض كتفه لآلام، لكن هذه الإجراءات لم تكن متاحة داخل السفارة لأسباب إجرائية واحترازية. وأضافت أن أسانج يعاني من نقص ڤيتامين “د” بسبب قلّة تعرّضه لأشعة الشمس، كما يعاني من مضاعفات اكتئاب حاد بسبب المتاعب القانونية.

وقال سميث، والذي لا زال يدعم ويزور أسانج، أن “جوليان رجل كبير (الحجم)، وله عظام كبيرة؛ فهو يشغل الغرفة بدنيّاً وفكريّاً”. وأضاف “هذه سفارة صغيرة، ولها شرفة صغيرة. إنها صغيرة وحارة، ولا يتدّفق فيها الهواء بشكل جيّد. لذا فإن أيّ أحد هناك سيجد صعوبة كبيرة”.

من المعتاد أن تنشأ المشاحنات بين مَن كان من الممكن أن يصبحوا حلفاء. إحدى تلك المشاحنات تضمّنت إصرار أسانج على أن المستندات المسرّبة يجب أن تُنشَر كاملةً، لا أن يجتزئها الصحفيّون، والذين قد تكون لديهم أجندات خاصة.

وفي مقابلته مع صحيفة “ذي تايمز” اللندنية يوم الأربعاء، انتقد أسانج الاتحاد الدولّي للصحفيين الاستقصائين في عملية نشر “أوراق پنما” لأنه لم يُتِح للجميع كامل ما وصله من مستندات. واعتبر أنه هذا نوع من الرقابة، قائلاً “ليس هذا بالنموذج الذي نتبعه في ويكيليكس؛ بل إن هذا في الواقع مضادّ تماماً لما نقوم به”.

وكانت ويكيليكس تعاونت مع صحفيين في مجال السجلات العسكرية والبرقيات الدبلوماسيّة؛ إلا أن قرار أسانج بعدم الاستمرار في هذا الأسلوب، تحت دعوى الشفافية المطلقة، هو ما أدى إلى تعاون سنودن مع جرينولد وصحفيّ آخر من أجل تسريب وثائق وكالة الأمن القوميّ (الأميركيّة). وقد شعر سنودن بأهمية إحداث حالة من التوازن بين الانفتاح وبين مراعاة خصوصية وأمن الأشخاص.

وبعد تسريب مستندات خاصة بالحزب الديمقراطي هذا الصيف، انتقد سنودن ويكيليكس على حسابه في تويتر، لعدم قيامها بطمس أرقام الضمان الاجتماعي وبطاقات الائتمان الخاصة بأفراد وردت أسماؤهم أيضاً في التسريبات. فقامت ويكيليكس بالرد المباشر على تويتر بأن “الانتهازية لن تضمن لك العفو من كلينتون، والانتقائية ليس هي الرقابة على تدفقات الحزب الحاكم المالية”.

يقول جرينولد أن أسانج “قام بإقصاء العديدين”. مضيفاً “من الصعب عليّ أن أفصل بين رأيي الشخصي في جوليان وبين موقفي من ويكيليكس. لكن بشكل متوازن، أعتقد أن ويكيليكس تعمل للصالح العام”.

وقال أسانج في المقابلة أن الأصدقاء ربما يختلفون في وجهات النظر. إلا أن بعض أقوى حلفائه ومؤيديه انقلبوا ضده، مثل وريثته يميما جولدسميث-خان، بعد أن أزعجهم ما رأوا من أمور اعتبروها معايير مزدوجة. وفي مقال نُشِر في مجلة “نيو ستاتسمان”، كتبت خان أن ويكيليكس، والتي تأسست من أجل الوصول إلى مجتمع أكثر عدلاً، “قد ارتكبت نفس أخطاء التشويش والمعلومات المضلّلة التي يتبّعها هؤلاء الذي وجدت ويكيليكس لفضحهم”.

وفي فبراير تلقّى أسانج إفادات قانونية لطالما انتظرها وكان يأمل أن تغيّر من قواعد اللعبة. فقد حكمت “مجموعة الأمم المتحدة المعنية بالاحتجاز التعسّفي” بأن أسانج يعدّ معتجزاً احتجازاً تعسّفيّاً ويجب إطلاق سراحه ودفع تعويضات مالية له عن الانتهاكات الحقوقية التي تعرّض لها. إلا أن هذا الحكم لم يكن ملزماً من الناحية القانونية، ومِن ثمّ فقد أمكن للمحاكم البريطانية والسويدية رفضه.

“إن الولايات المتحدة والغرب يتبنّون قرارات الأمم المتحدة حين تكون لصالحهم”، هكذا تقول جينيفر روبنسون، إحدى محاميّ أسانج، مضيفة “لكن عندما يتعلّق الأمر بجوليان أسانج، فإنهم ينتقدون القرار ويقومون بتقويضه”.

ومنذ أسابيع قليلة، حدث تقدّم مفاجئ في الأمر، فقد جرت الموافقة على أن يقوم المدّعي العام السويدي بالتحقيق مع أسانج في مزاعم قيامه بالاغتصاب. إلا أن ميلندا تايلور، محامية أسانج، قالت أنه حتى لو برّأ السويديون ساحة أسانج، فإنه لا يزال يخشى أن يعتقله البريطانيون بناء على تهم مالية ويقوموا بتسلميه للولايات المتحدة، حيث لا تزال هناك قضايا ضده بسبب أنشطة التسريبات التي يقوم بها. وأضافت “لا تزال الشكوك تراوده وتزعجه”.

ويحاول أسانج الحفاظ على رباطة جأشه وقواه العقلية بالعودة إلى العزف على الجيتار ومداعبة قطته التي أهداه إياها أحد أطفاله. ولكن ما يدعم روحه المعنوية حقًّا هو نشر تسريبات جديدة، من عيّنة ملفات الحزب الديمقراطي. “إن العمل يدفعه لمواصلة المسير”، هكذا تصفه زميلته ومساعدته سارة هاريسون.

هل يحمل لنا أسانج مفاجأة يعدّها لشهر أكتوبر المقبل؟ يقول جرينولد إن “جوليان يحب المعلومات المضللة، فهي شغفه الحقيقي؛ ومن المرجّح أن يقول هذا فقط ليزعج كلينتون”.

من أجل هذا يتطلّع أسانج إلى آفاق أبعد. يقول في المقابلة “دعنا نقفز عدّة سنوات إلى الأمام؛ دعنا نتخيل أن أجهزة الاستخبارات المتنافسة -في الولايات المتحدة أو في الصين- قد قامت بتسوية خلافاتها حول من هو على صواب، ومن هو اللاعب الخيّر أو الشرير، عن طريق عرض الحقائق. لو حدث هذا، فإنه التحسّن الأكثر إثارة للذهول بالنسبة لي”.

المصدر: هافينغتون بوست عربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.