“نوبل” وديناميت القارة العجوز

Nobel-peace-prize-from-EU-to-EU

صحيفة الخليج الإماراتية ـ
فيصل جلول:

إذا كان العالم قد نجا من الهلاك بحسب تقويم حضارة “المايا”، فإنه لم ينج من الخفة بعد أن منحت لجنة نوبل السويدية جائزتها للسلام هذا العام ل “الاتحاد الأوروبي” الذي نجح في “منع الحروب في القارة العجوز خلال 68 عاماً الماضية” بحسب لجنة الجائزة .

والصدى الدولي “لخفة” نوبل ليس ناجماً عن تحول الجائزة إلى هدية عالمية فحسب، وإنما لكون الاتحاد الأوروبي يعيش هذه الأيام في بعض دوله ما يشبه الحرب الباردة من جراء السياسات الاقتصادية التي تحمي جشع الرساميل الخرافية وتلقي بأعباء أزمة الأسواق المالية على الفقراء وتعيد هذه السياسة شبح الانقسامات والحروب الأهلية إلى بعض بلدان القارة، فالنقاش الفرنسي – الفرنسي بشأن هرب الأغنياء من الضرائب، وبخاصة جيرار دوبارديو، يذكر بسجالات الثورة الفرنسية . وفي اليونان من الصعب إقناع نحو 30 في المئة من السكان أن السلام يعّم قارتهم وهم يتدفقون يومياً إلى الشوارع ويخوضون ما يشبه الحرب الأهلية الباردة أو المؤجلة مع حكومتهم . وفي إسبانيا لا يريد أحد التلويح بشبح الحرب الأهلية، لكن الناس ينزلون إلى الشوارع من دون قناعة راسخة بأن الضغط الديمقراطي سيحميهم من السياسات الأوروبية التي تعاقب الفقراء، وتشيع بالتالي أجواء توتر أهلي بارد لا أحد يدري متى وكيف يصبح ساخناً . ولا حاجة بطبيعة الحال إلى الحديث عن إيطاليا أو البرتغال، بل عن بريطانيا التي يلّوح رئيس وزرائها بالخروج من الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن تغيبه المتعمد عن المشاركة في احتفال منح الجائزة .

الواضح أن مناخات القارة المتوترة والمأزومة تشكل لحظة صراعية ليست الأفضل لمكافأتها على نشر السلم الأهلي في ربوعها، ولكن ماذا عن الدور الأوروبي في الخارج؟ فهل اعتمدت أوروبا سياسة خارجية من وحي سلامها الداخلي؟ أو أنه لا تناقض في أن تمنح “نوبل” لطرف يقيم السلام داخل أراضيه ويشن الحروب خارجها؟

الناظر إلى تاريخ القارة المعاصر يلاحظ أن العديد من بلدانها كانت طرفاً في حروب دموية في أماكن قريبة أو بعيدة من حدودها . إن فترة 68 عاماً التي تغطيها مكافأة نوبل، تعني بالنسبة إلى رواندا سقوط مليون مواطن في أعمال تصفية عرقية بحضور فرنسا والأمم المتحدة على مسرح الجريمة، وكذا الأمر بالنسبة إلى مجازر البوسنة وكوسوفو، فضلاً عن صفحات الحرب القذرة في الجزائر قبل الاستقلال .

أما بريطانيا فقد شاركت بحماس في حربي العراق وأفغانستان، ومعظم دول القارة شاركت في قتل مليون طفل عراقي خلال الحصار الدولي الطويل . . إلخ .

وتجدر الإشارة إلى دور القارة الأوروبية في الإبادة البشرية في كل مكان، ولاسيما في القارة الإفريقية وتجارة العبيد ومختلف وجوه الكولونيالية في أربع جهات الأرض، ولعل هذا التاريخ كان يستدعي اشتراط منح الجائزة بالتعويض المعنوي والمادي على ذوي الضحايا .

قصارى القول إن مكافأة القارة الأوروبية بجائزة نوبل للسلام هي أشبه بمنح قاتل مجرم جائزة تقديرية بعد خروجه من السجن وتعليلها بحسن سلوكه خلال فترة سجنه . والمقارنة لاتغطي جرائم القارة خارج حدودها، الأمر الذي يطعن بمصداقية الجائزة ويعرّض النوايا والمزاعم الأخلاقية للمسؤولين عنها للنقد الشديد . وتكتسي المساءلة مشروعيتها بالعودة إلى فضائح سابقة عن ممنوحين تحيط بهم الشبهات ومن بينهم الرئيس “الإسرائيلي” شمعون بيريز الذي شارك في كل حروب “الكيان الصهيوني” ومجازرها وآخرها حرب الثمانية أيام في غزة، فضلاً عن دعمه وحمايته وتشجيعه للاستيطان في الأراضي المحتلة . والاستيطان في أبسط معانيه هو وسيلة حربية لتحطيم الكينونة الفلسطينية وتدمير شروط حياة الفلسطينيين على أرضهم وحملهم على مغادرتها أو حشرهم في معازل في بعض نواحيها .

ومن بين الممنوحين المشبوهين هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والشريك الأساسي في حرب فيتنام وفي القصف الأمريكي الوحشي لكمبوديا، فضلاً عن شراكته ل”إسرائيل” وللعديد من الدول المجرمة في العالم . ومنحت نوبل أيضاً لمواطنه تيودور روزفلت العام 1906 علماً أنه صاحب نظرية الحرب أفضل وسيلة للضغط على طاولة المفاوضات، وأعطيت مؤخراً لباراك أوباما بعد عام فقط من توليه الرئاسية الأمريكية من جراء خطب سلمية ألقاها بعيد انتخابيه من دون أن نلمس أثرها من بعد هذا، فضلاً عن إرساله جنوداً إلى ساحات المعارك في أفغانستان وتغطيته لجريمة “إسرائيل” الأخيرة في حرب غزة .

تبقى الإشارة إلى جائزة نوبل العام 2011 التي منحت ل “الين جونسون سيرليف” رئيسة الجمهورية في ليبيريا، رغم كونها طرفاً في الحرب الأهلية في بلادها وحرمانها من تولي مناصب رسمية خلال 30 عاماً في إحدى توصيات “لجنة الحقيقة والمصالحة” التي كلفت إعداد تقرير عن الحرب الأهلية في هذا البلد .

في تعليقها على ازدواجية المعايير التي رافقت العديد من جوائز نوبل للسلام، دعت مجلة “نيوزويك” الأمريكية قراءها في العام 2010 إلى عدم الاستغراب، فالجائزة مبنية أصلاً على تناقض ساطع مفاده أن مؤسسها هو مخترع الديناميت . بعبارة أخرى يمكن القول إن نوبل وضع جائزة للسلام من أجل التكفير عن اختراع الديناميت القاتل، وأن لا غضاضة في منحها لشخصيات استخدمت اختراعه بإفراط بعد صمت المدافع .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.