هايتي هيكل دولة دمرتها أميركا.. وسفيرها يعترف

موقع العهد الإخباري-

د. علي دربج*:

وحده الرئيس الأميركي دونالد ترامب أذاق بلاده ذات الكأس المّرة التي سقت منها غيرها، وذلك بازدرائه للركائز الثلاثة للديمقراطية الليبرالية داخل أميركا نفسها ــ أي حكم الشعب، والحرية، وسيادة القانون ـــ والتي لطالما أنكرها قادتها المؤسسون ورؤساؤها المتعاقبون (وهو واحد منهم)، على العديد من البلدان على امتداد الكرة الأرضية، فسلبوها خياراتها السياسية، وضربوا بها عرض الحائط، وفرضوا عليها ارادتهم ورجالاتهم، تارة بالقوة العسكرية، وطورًا من خلال الانقلابات والتدخلات.

على الدوام، كان مصطلح الديمقراطية شعار أميركا المفضل والمحبب، بعدما فصّلته على مقاس مصالحها ومشاريعها الخاصة، وحولته مع الزمن إلى غطاء لحروبها وغزواتها للبلدان الأخرى، ليسهل عليها نهب خيراتها وثرواتها. فتحت راية الديمقراطية الأميركية، ابيدت شعوب، ودمرت دول، وشردت ونكبت أخرى، بعدما قررّت الإدارات الأميركية المتعاقبة ــ التي لعبت دور شرطي العالم لعقود ــ أن عدم امتثال أي بلد في العالم لهذه الديمقراطية، سيلقيه في الهلاك، وهكذا كان، حينًا بالتدخل، وأحيانًا بتغيير الأنظمة، وغيرها من الحيل، التي أضحت نماذج شائعة في تاريخ أميركا الحديث ومن أشهرها:

استبدلت واشنطن عددًا من القادة المنتخبين ديمقراطيًا مثل رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق، بالشاه (1953)، والرئيس الغواتيمالي جاكوبو أربينز، بالعقيد كارلوس كاستيلو أرماس (1954)، والرئيس التشيلي سلفادور أليندي بالجنرال أوغوستو بينوشيه (1973)، أو رئيس هندوراس مانويل زيلايا، في انقلاب مدعوم من الولايات المتحدة (2009). بعبارة أخرى، نحن لا نتحدث عن بعض الأخطاء التي تحدث لمرة واحدة أو عن بضع حروب غبية، بل عن سلوك غريزي لواشنطن.

في الحقيقة، كان هناك مدىً غير محدود لمثل هذه التدخلات الأمريكية في جميع أنحاء العالم، سمها ما شئت: غزوات، انقلابات عسكرية واقتصادية، عقوبات اقتصادية، التمويل السري لمرشحين من اختيار واشنطن، وأخيرًا وليس آخرًا تأجيج الصراعات القائمة.

خذ على سبيل المثال جيران واشنطن، في أمريكا الجنوبية والوسطى ومنطقة البحر الكاريبي. بصريح العبارة لا نعرف ما إذا كانت هناك دولة واحدة في أمريكا اللاتينية لم تقع ضحية لتدخل أمريكي من نوع ما: الأرجنتين (1976)، بوليفيا (1971)، البرازيل (1964)، كوبا (1961)، سلفادور (الثمانينيات)، غرينادا (1983)، هايتي (1994- 2004)، هندوراس (1980 و2009)، بنما (1989)، باراغواي (1962)، بيرو (1968)، سورينام (الثمانينيات)، أوروغواي (1973)، فنزويلا (اللحظة الحالية). ربما تم إنقاذ كوستاريكا؟

فنزويلا هي حالة مثيرة للاهتمام بشكل خاص لأنه على مدار 20 عامًا – ثلاث رئاسات متتالية – دعمت واشنطن محاولات انقلابية متعددة، وفرضت عقوبات اقتصادية غير قانونية، وانخرطت في أنواع أخرى من الحيل للإطاحة بالرئيس السابق هوغو شافيز والرئيس الحالي نيكولاس مادورو. ولا ننسى لبنان، إذ لا يجرؤ أحد من أركان الحكم الأساسيين في هذا البلد على الخروج عن بيت الطاعة الأميركي، والقائمة تطول.
لكن كيف مهدت واشنطن للقيام بأفعالها العدوانية تلك؟ لنكتشف ذلك.

عندما كان يتعلق الأمر بالإطاحة بالحكومات الأخرى، فقد روج رؤساء أميركا بانتظام لأكاذيب واضحة يمكن التحقق منها، وخرقوا أو تجاهلوا القوانين (المحلية والدولية)، واستخدموا العنف والترهيب، لكسب الربح والسلطة في الدول الأخرى الضعيفة، وبالتالي الاتيان بأدواتهم وحلفائهم (لا ضير إن كانوا مجرمين أو سفاحين أو دكتاتوريين) وتنصبيهم كحكام وقادة، وهايتي أبرز مثال على ذلك.

وحتى لا يعتبر كلامنا كنوع من التحامل الذي يفتقد اللبينة والدليل، لنقرأ معًا الشهادة الأخيرة التي أدلى بها السفير دانيال فوت، المبعوث الأميركي الخاص السابق إلى هايتي، في الكونغرس الشهر الحالي. عندها ستقع أعيننا على كلمات، لم نكن لنعتقد أنها صادرة عن مسؤول حكومي أميركي، إذ أخبر فوت أعضاء لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب بالضبط، لماذا لم يعد بإمكانه متابعة السياسة الأمريكية في هايتي.

قال فوت: “تدخلاتنا السياسية لم تنجح أبدًا. لقد أعطينا دائمًا الأولوية للاستقرار ــ وهو أمر بالغ الأهمية ــ على ملاحقة الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار”. وأضاف “لقد حكمت الولايات المتحدة بشكل أساسي على الانتخابات الهايتية، وعينت ودعمت القادة السياسيين الذين “اغتصبوا” البلاد”. وتابع فوت الكلام بقوة وجرأة، وبلا دبلوماسية او تحفظ، كاشفًا “أنه رأى تلك التدخلات الكارثية عن قرب بعد زلزال هايتي عام 2010 عندما كان جزءًا من جهود إعادة البناء”، والملفت أنه لم يعفِ نفسه موضحًا: “أشعر بالمسؤولية”.

نزلت عبارات فوت على الهايتيين كالصاعقة. أحد الوجوه المعروفة في هذا البلد، هو راؤول بيك (مخرج وكاتب سيناريو ومنتج من هايتي رشح لجائزة الأوسكار، ويعدّ أحد أكثر صانعي الأفلام في عصرنا، ويشتهر بأعماله التاريخية والسياسية والفنية) قال تعليقًا على شهادة فوت “بالنسبة للأشخاص مثلي – الذين بُنيت حياتهم وعملهم على تاريخ بلدي الأم، هايتي – كانت هذه الاعترافات محطمة وتعويضية. شعرت كما لو أن أحد المبعوثين الأميركيين قد أعاد قدرًا من الشرف لعقود من التدخل الأمريكي الوقح في بلدي. لقد نطق بكلمات تتصالح أخيرًا مع الواقع الهايتي”.
لنأخذ فكرة عن الواقع الحالي لهذا البلد، وتداعيات التدخل الاميركي فيه وما حلّ به.

هايتي اليوم في أزمة. لقد دمرت الحكومات الأخيرة هياكل الحياة السياسية. لم يكن هناك رئيس منذ اغتيال جوفينيل مويس رئيس البلاد هذا الصيف. لا يوجد برلمان منذ حله مويس وبدأ الحكم بمرسوم. العصابات المسلحة والمدعومة من قبل النظام تسيطر على الحياة اليومية. الشرطة والقضاء ضعيفان وفاسدان.

نقطة الأمل الوحيدة المتبقية للهايتيين هم قادة المجتمع المحلي (الاهلي وليس المدني كما هو متعارف عليه في بلادنا)، الذين يعمدون الى تنظيم صفوف الهايتيين في جهد شعبي لبناء طريق للمضي قدمًا فيه، وهم يفعلون ذلك على الرغم من مواجهة تهديدات بالقتل.

لقد أنتجوا اتفاقًا يتضمن مخططات لكل خطوة من خطوات الانتقال المقترحة إلى العملية السياسية، وقد جمعوا لذلك أكثر من 650 توقيعًا، تمثل غالبية المجتمع الهايتي، بما في ذلك النقابات والمنظمات المهنية وتحالفات المزارعين والكنائس البروتستانتية والأسقفية، وعشرات الأحزاب السياسية. إنهم يريدون شق طريق نحو حكومة مؤقتة تجري انتخابات شرعية وتشاركية، على ذمة دبلوماسيين غربيين.

لكن كالعادة، كانت الولايات المتحدة لهم بالمرصاد، فبدلًا من أن تحترم سيادة هذا البلد وخيار سكانه، والجهد الذي تسعى اليه النخب الهايتية ( وللمفارقة أن معظمهم أصدقاء لأميركا بحسب توصيف راؤول بيك) لاستعادة ثقة الجمهور والمؤسسات الديمقراطية، أصر القادة الأميركيون على دعم الحكومة غير الشرعية الحالية التي ساهمت في تدمير هايتي. وفي الحالات التي كان هناك فيها جدل حول نتائج الانتخابات الهايتية، قرر المسؤولون الأمريكيون ذلك مرارًا وتكرارًا (أي حماية الحكومة غير الشرعية). وعند هذه النقطة بالذات توقف فوت، مخاطبًا اللجنة:

“أرى أن السبب الجذري لعدم الاستقرار الآن هو أن الشعب الهايتي لا يعتقد أن له صوتًا في مصيره، وفي اختيار قادته منذ وقت طويل”. وردا على سؤال في الإحاطة التي قدمها بالكونغرس عما إذا كانت الحكومة الحالية في هايتي ستبقى على قيد الحياة دون دعم الولايات المتحدة، قال فوت: “لا أعتقد أنهم سينجون أو يبقون”.

لنتعرف على نتائج التدخلات الأمريكية التي حدث في هايتي منذ عقود.

لقد دمرّ تدخل الولايات المتحدة وبلدان أخرى هايتي. يقول المخرج راؤول بيك “عندما كنت صبيًا في الرابعة من عمري في الخمسينيات، شاهدت أمي وهي ترتدي ثوبها الأبيض والأحمر المنقط، وهي تهدّف بمسدس صغير إلى الشجرة في الحديقة بينما كان والدي يعلمها كيفية إطلاق النار للدفاع عن عائلتنا، في حال قدوم “تونتون ماكوتي”، القوة شبه العسكرية لـ “بابا دوك” دوفالييه الرئيس الهايتي الاسبق (الذي حكم البلاد بين العامين 1957 و1986). وقد سميّت هذه القوة “على اسم شخصية هايتيّة أسطورية اختطفت الأطفال وحملتهم في حقيبة وأكلتهم على وجبة الإفطار”.

دعمت الولايات المتحدة النظام الوحشي والقمعي لبابا دوك، ولاحقًا ابنه بيبي دوك، على الرغم من أن النظام قتل عشرات الآلاف من الهايتيين وأجبر عددًا لا يحصى من الآخرين على الهجرة.

عام 2016، وفي الانتخابات التي تم فرضها وتمويلها وتنظيمها من قبل الولايات المتحدة ومجموعة صغيرة من البلدان الأخرى، صوّت الهايتيون بأقل المعدلات في تاريخ البلاد. فاز جوفينيل مويس بالرئاسة بحوالي 600 ألف صوت في بلد يبلغ عدد سكانه 11 مليون نسمة.

وعندما اغتيل Moïse في تموز الماضي، قامت السفارة الأمريكية في هايتي بكتابة تغريدة على تويتر سمت فيها كلود جوزيف، المعين من قبل Moïse، كرئيس للوزراء بالإنابة. غير أنها عادت وبدلت موقفها فجأة، ووضعت تغريدة جديدة باسم مجموعة من الدبلوماسيين الدوليين الذين قرروا تعيين شخص مختلف هو أرييل هنري.

حتى اليوم تستمر الحكومة الأمريكية في عرقلة العملية السياسية في هايتي، وفي هذا السياق يشير فوت إلى أنه “من المهم أن يكون للمجتمع الأهلي صوت في هذه الحكومة الجديدة، وليس لأرييل هنري وإدارته، لذلك آمل أن تتوقف إدارتنا عن فرض آرييل هنري على الشعب الهايتي”.
وماذا عن دور المؤسسات المالية والمنظمات الدولية والوكالات الامريكية في اغاثة هذا البلد المنكوب والتي ارتبط اسمها بمساعدة الشعب الهايتي؟
الجواب هو المزيد من الخراب، واليكم المعطيات.

لنبدأ بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، الذي أصرّ على سياسات التكيف الهيكلي التي دمرت قطاع الزراعة في هايتي، وقادت الهايتيين إلى استيراد المحاصيل الأساسية مثل الأرز. وقد تسبب ذلك في الهجرة الجماعية للفلاحين الفقراء من الريف إلى العاصمة.

منظمة الدول الأمريكية بدورها، كثيرًا ما فشلت كوسيط مكلّف في الصراعات والجهود لتحقيق الديمقراطية في هايتي، إلى الحد الذي جعل الهايتيين ينظرون الآن إلى المنظمة باعتبارها نوعًا من الضامن للصراع والانتخابات المسروقة. واليوم، يستخدم المختصر الفرنسي لمنظمة الدول الأمريكية لـ OAS في هايتي، كإهانة.

لنصل الى الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، صحيح أنها قدمت مساعدات كبيرة على مر السنين، لكن معظمها كان يتدفق عبر المنظمات الأميركية غير الحكومية والشركات الهادفة للربح، مما أعاق تنمية الأعمال التجارية الهايتية، وكذلك الاكتفاء الذاتي لهذا البلد.

هنا لفوت أيضًا كلام صادم، فهو كشف في شهادته، عن اجتماع حضره في هايتي في أعقاب زلزال عام 2010 للمساعدة في تنسيق 5.1 مليار دولار من المساعدات الأميركية، إذ قال: “لقد أدهشتني حقيقة أن جميع الأمريكيين كانوا في الغرفة. أعتقد أننا بحاجة إلى وجود الهايتيين في الغرفة، والدخول الى هايتي لمعرفة الحلول التي يقودها الهايتيون”.

ومع أن فوت وجه دعوة للولايات المتحدة لإعادة ضبط سياستها تجاه هايتي والاستماع إلى أصوات الهايتيين الذين يحاولون إعادة بناء الديمقراطية”، وذكّر بنضاله من أجل حياة الأميركيين والمثل العليا التي تتبناها الولايات المتحدة منذ فترة طويلة، لكنه في النهاية أقر بفشل بلاده في تحقيق “الديمقراطية”.

في المحصلة، لا يوجد ما يشير الى أن أميركا قد تقلع عن سياستها هذه، إذ أصبح هذا التدخل بحد ذاته، طبيعيًا تمامًا كخيار أساسي لأي رئيس اميركي سابق أو حالي، بغض النظر عن أنواع الدول التي تم استهدافها عادةً بمثل هذه التدخلات، وغالبًا ما تكون دولًا ضعيفة، وكذلك اقتصادها ومؤسساتها، ولبنان إحدى ضحايا هذا التدخل الذي لا يتوقف. فهل قلتم سيادة واستقلالًا يا سادة؟

*باحث ومحاضر جامعي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.