هل تخلّت الأنظمة العربية نهائياً عن القضية الفلسطينية؟

موقع قناة الميادين-

حسن نافعة:

ساعة الحقيقة دقّت، ولم يعد هناك أي مجال للمراوغة. فالدول العربية تدرك بوضوح تام ما جرى وما زال يجري في القدس.

ارتبط النظام العربي عضوياً، نشأةً وتطوراً، بالقضية الفلسطينية. ففي المشاورات التمهيدية التي أسفرت عن إنشاء جامعة الدول العربية عام 1945، وهو التاريخ الفعلي للنشأة الرسمية لهذا النظام، شغلت القضية الفلسطينية حيّزاً مهماً من هذه المشاورات. ولأن الشعوب العربية كانت تتابع بقلق ما يجري على الأرض الفلسطينية في ذلك الوقت، وتضغط بالتالي على حكوماتها من أجل مساندة الشعب الفلسطيني في نضاله ضد الاحتلال البريطاني، من ناحية، وضد المشروع الاستيطاني الصهيوني، من ناحية أخرى، فلم يكن بمقدور الدول العربية الساعية إلى تأسيس إطار مؤسّسي دائم للتعاون في ما بينها تجاهل قضية هذا الشعب العربي الذي يخوض معركته من أجل التحرر الوطني، في ظل أوضاع بالغة الصعوبة، ومن ثم فقد أسفرت الضغوط الشعبية من أجل نصرة القضية الفلسطينية عن تضمين ميثاق الجامعة العربية ملحقاً خاصاً عن فلسطين، يؤكد التزام هذه المنظمة العربية الوليدة بالعمل على تمكين الشعب الفلسطيني من الحصول على حقه في تقرير مصيره ونيل استقلاله، أسوةً بباقي الشعوب العربية الأخرى الواقعة تحت نير الاستعمار، لذا لم يكن غريباً أن تصبح القضية الفلسطينية موضع اهتمام خاص من جانب جامعة الدول العربية التي خصّصت أول مؤتمر قمة عربي يُعقد في تاريخها لبحث تطورات هذه القضية ( قمة أنشاص لعام 1946).

كان الهدف الرئيسي لجامعة الدول العربية في بداية تأسيسها هو التصدّي للمحاولات الرامية إلى إقامة دولة يهودية على أي جزء من الأرض الفلسطينية، ما أدى إلى رفض مشروع قرار تقسيم فلسطين الذي ناقشته وأقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947. وعندما أقدم بن غوريون على إعلان قيام دولة “إسرائيل” في الـ 14 من أيار/ مايو 1948، لم تتردد الدول الأعضاء في الجامعة العربية في خوض المواجهة المسلحة ضد هذه الدولة الوليدة المغتصبة للحقوق الفلسطينية، أملاً بإجهاضها وهي ما تزال في المهد، لكن تبيّن أن هذا الهدف كان أكبر من قدرة الدول العربية، التي كانت هي نفسها لا تزال في معظمها واقعة في ذلك الوقت تحت نير الاستعمار الأوروبي، ومن ثم فقد لحقت بها هزيمة مدوّية في أول حرب تخوضها ضد “إسرائيل” عام 1948.

رغم تجرّع مرارة الهزيمة في هذه الحرب التي مكّنت “إسرائيل” من التوسع واحتلال ما يقرب من ضعف المساحة المخصصة لها في مشروع التقسيم، واضطرار الدول العربية المجاورة لـ”إسرائيل” كافة إلى إبرام اتفاقيات هدنة معها عام 1949، لم يستسلم النظام العربي الرسمي أو يخضع للأمر الواقع، وبالتالي ظلّت الدول العربية كافة تعتبر نفسها في حالة حرب مع “إسرائيل”، بدليل قيام مجلس جامعة الدول العربية باتخاذ قرار عام 1950 يُحظر فيه على جميع الدول الأعضاء الاتصال أو التفاوض أو إقامة أي نوع من العلاقة المنفردة مع “إسرائيل”، بل وتمكنت جامعة الدول العربية من وضع نظام محكم لمقاطعة “إسرائيل” اقتصادياً وتجارياً.

كان هذا هو المناخ العام الذي اندلعت في سياقه سلسلة من الحروب التي قادتها مصر في مواجهة “إسرائيل” خلال الفترة الممتدة من عام 1956 حتى عام 1973. وكانت حرب 73 هي آخر الحروب التي خاضتها الجيوش العربية النظامية، وجسّدت ذروة التضامن العربي في مواجهة “إسرائيل”، بعدها راح عقد النظام العربي الرسمي ينفرط تدريجياً، وخاصة بعد قرار السادات زيارة القدس في الـ 19 من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1977.

وكما قادت مصر، وخاصة مصر الناصرية، مرحلة النضال المسلح ضد المشروع الصهيوني، قادت أيضاً، وخاصة مصر الساداتية، مرحلة التسويات السياسية المنفردة التي أدّت إلى انهيار النظام العربي الرسمي من الأساس. صحيح أن هذا النظام حاول في البداية مقاومة التوجه الاستسلامي الذي قاده السادات، بدليل رفض معظم الدول العربية لمعاهدة السلام المصرية المنفردة التي وقعت مع “إسرائيل” عام 1979، ولم يتردد في اتخاذ قرار بنقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس، غير أنه لم يتمكن من الصمود على هذا الدرب، ومن ثم سرعان ما رجحت كفة التوجه الباحث عن تسوية سياسية بأي ثمن على كفة التوجه المقاوم والمستعد، نظرياً على الأقل، لمواصلة الكفاح المسلح.

ويعود السبب الرئيسي لهذه الانتكاسة الثانية التي مُني بها النظام العربي إلى قرار صدام حسين غزو الكويت عام 1990، في وقت كانت فيه الحرب الباردة بين المعسكرين المتصارعين على قمة النظام الدولي قد انتهت فعلاً بانهيار جدار برلين عام 1989، وبدا الاتحاد السوفياتي وقتذاك على وشك السقوط والانهيار والتفكك، وهو القرار الذي فتح الباب أمام الولايات المتحدة لكي تمسك منفردة بملف التسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي. ففي عام 1991 انعقد مؤتمر مدريد الذي حضرته الدول العربية كافة إلى جانب “إسرائيل”، وبعد انتهائه انطلقت موجة ثانية من موجات التطبيع العربي الرسمي مع “إسرائيل”، حين قامت منظمة التحرير الفلسطينية بإبرام اتفاقية أوسلو عام 1993، وتبعها الأردن بإبرام اتفاقية وادي عربة عام 1994.

ظل النظام العربي الرسمي، رغم كل ما جرى، يدّعي التزامه بالمحافظة على الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، وتمسّكه بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. وتأكيداً لهذا الموقف، اتّخذ مؤتمر القمة العربي، المنعقد في بيروت عام 2002، قراراً بالإجماع، يُبدي فيه استعداد الدول العربية كافة للاعتراف بـ”إسرائيل” وتطبيع العلاقات معها، إذا انسحبت من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 67، ووافقت على إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. غير أن الجهود التي بُذلت على هذا الصعيد، سواء من جانب الدول العربية أم من جانب المجتمع الدولي، لإقناع “إسرائيل” بالتوصل إلى تسوية تستند إلى مبادرة بيروت العربية، باءت جميعها بالفشل، واستمر الوضع على هذا المنوال حتى وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بعد فوزه في انتخابات الرئاسة الأميركية التي جرت في تشرين الثاني نوفمبر عام 2016. بعدها، بدأ مسار القضية الفلسطينية يأخذ منعطفاً جديداً وشديد الخطورة.

فقد طرح ترامب رؤية أميركية لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي أطلق عليها “صفقة القرن”، لا تتضمن أي انسحابات جوهرية لـ”إسرائيل” من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وتعترف لـ”إسرائيل” بحقها في الاحتفاظ بالقدس مدينة موحّدة وعاصمة أبدية لدولتها، وتطالب الفلسطينيين ضِمناً بالتخلّي عن حقوقهم الوطنية والتاريخية في فلسطين، مقابل ثمن بخس لا يتعدّى تحسين أوضاعهم المعيشية والاقتصادية. ولأنه لم يكن بمقدور أي طرف فلسطيني، بما في ذلك السلطة الفلسطينية، التي تُعدّ جزءاً لا يتجزأ من النظام العربي الرسمي، قبول “صفقة” تستهدف عملياً تصفية القضية الفلسطينية وتمكين “إسرائيل” من الاحتفاظ بمعظم الأراضي العربية المحتلة، فقد تعيّن على الدول العربية كافة، حِفاظاً على تماسك النظام العربي الرسمي، أن تتخذ موقفاً جماعياً موحّداً ورافضاً لرؤية ترامب، وخاصة في ظل استمرار تمسّكها الشكلي بالمبادرة التي أقرّتها في قمة بيروت. غير أن ما حدث كان العكس تماماً. فقد فشل النظام الرسمي العربي مرة أخرى في الحفاظ على تماسكه، وعجز عن اتخاذ موقف موحّد تجاه إدارة ترامب، التي سارعت إلى الاعتراف بالقدس الموحدة “عاصمةً أبديةً لإسرائيل”، وقررت نقل السفارة الأميركية إليها، بل إن دولاً عربية، في مقدمتها الإمارات والبحرين، أقدمت متحدّية على إبرام معاهدات سلام جديدة مع “إسرائيل”، في ظل ما أصبح يُعرف باسم “صفقة اتفاقيات أبراهام”. وحين وصل النظام الرسمي العربي إلى هذه النقطة على منحنى الانحدار، بدأ بالانهيار كلياً.

لم يكن لإقدام عدد كبير من الدول العربية على الدخول تباعاً بعد ذلك في “صفقة أبراهام” سوى معنى واحد، وهو أن النظام العربي الرسمي بدأ يتخلّى فعلياً عن القضية الفلسطينية، ولم يعد يتمسّك حتى بهدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة كشرط لتطبيع العلاقة مع “إسرائيل”، ما شجّع الأخيرة، ليس فقط على زيادة وتيرة مشروعاتها الاستيطانية التي تستهدف قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية يومياً، بل أيضاً على التسريع في عملية تهويد القدس، إلى درجة باتت تهدّد بالذهاب إلى أبعد مدى يمكن تصوره، بما في ذلك هدم المسجد الأقصى وإقامة المعبد اليهودي المزعوم مكانه. وهكذا تُرك الشعب الفلسطيني وحيداً في مواجهة أكبر مشروع استيطاني عنصري عرفه التاريخ.

لا تزال الحكومات العربية تدّعي تمسّكها بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، لكن تصرفاتها الفعلية على الأرض، تؤكد أنها لم تعد تملك غير إصدار البيانات الفارغة من أي مضمون، والعاجزة عن ممارسة أي تأثير يؤدي إلى ردع التوحش الإسرائيلي. فقد تُرك الشعب الفلسطيني المحاصَر في غزة يخوض وحده سلسلة حروب في مواجهة “إسرائيل”، لم تنقطع منذ عام 2008، كانت آخرها معركة “سيف القدس” خلال العام الماضي. ورغم صموده البطولي في مواجهة “إسرائيل”، لا تزال هذه الأخيرة تواصل جرائمها المتعلّقة بتهويد القدس وترحيل المواطنين الفلسطينيين منها، وتعتدي على المصلّين في المسجد الأقصى، من دون أن تهتز الدول المطبّعة حديثاً أو تهدد حتى بسحب سفرائها من “إسرائيل”، أو بوقف مشاريع التطبيع المتواصلة معها في مختلف المجالات.

قد يقول قائل: إن الشعوب العربية لا تزال صامدة وداعمة للشعب الفلسطيني في نضاله ضد الاحتلال الإسرائيلي. لكن ماذا تستطيع الشعوب العربية أن تفعل في مواجهة أنظمة قمع استبدادية تحرمها حتى أبسط حقوقها في التظاهر والاحتجاج؟

أظنّ أن ساعة الحقيقة قد دقّت، ولم يعد هناك أي مجال للمراوغة أو الادّعاء. فالدول العربية تدرك الآن بوضوح تام، وخاصة في ضوء ما جرى مؤخراً وما زال يجري في القدس، أن المشروع الاستيطاني الصهيوني يتمدّد على الأرض، وأنه سيظل مستمراً في تمدّده، إلى أن يتمكن من إقامة دولة يهودية كبرى على كامل “الأرض التوراتية”، وهي دولة لا يمكن تصور اكتمالها إلا بهدم المسجد الأقصى، وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه. والسؤال: هل ستنتظر حكومات الدول العربية المطبّعة مع “إسرائيل” وقوع كارثة بهذا الحجم كي تبدأ بالتحرك وتحمّل مسؤولياتها، أم أنها ستظل تواصل علاقاتها مع “إسرائيل” وكأن شيئاً لم يحدث؟ نعم لقد دقّت ساعة الحقيقة، فهل من منتبِه؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.