هواجس طهران مع عودة “طالبان”: الهزارة والتصدي لحرب المخدرات

موقع العهد الإخباري-

د. علي دربج*:

منذ عقود كان على إيران أن تتعامل مع تداعيات عقود من عدم اليقين السياسي والفوضى الاجتماعية والحرب في أفغانستان، بدءا من الاحتلال السوفياتي بين عامي 1979 ــ 1989، مرورا بالحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، وانتهاء بغزو طالبان لكابول في عام 1996، ووصولًا الى احتلال الولايات المتحدة لأفغانستان عام 2001، بعد هجمات الحادي عشر من أيلول، فضلًا عن عقدين من التوترات بين طالبان والحكومة الافغانية الهشّة.

حاليًا، ومع سيطرة طالبان على أفغانستان، يرجح أن تواجه إيران التي تشترك مع هذا البلد بحدود طولها حوالي 936 كيلومترا، جملة من المعضلات المُصدَّرة لها عبر الحدود الأفغانية، والتي سبق وأن اختبرتها خلال سنوات الحرب الأهلية في أفغانستان، وأثناء الحرب على الإرهاب. وبالتالي من الطبيعي أن تجد نفسها معنية بحماية مصالحها هناك، ومواجهة التحديات القديمة الجديدة التي واجهتها وستواجهها في ظل الاوضاع المستجدة هناك، وابرزها قضيتا التمييز ضد الأقليات العرقية المتنوعة، من حلفاء طهران خصوصا “الهزارة”، وزيادة الاتجار بالمخدرات التي تعد من الأخطار الاستراتيجية التي تهدد طهران.

بالنسبة للقضية الاولى، من المعروف أن إيران دعمت الهزارة، وهي أقلية عرقية مضطهدة تاريخياً وتشكل ما بين 10 بالمائة و20 بالمائة، من سكان أفغانستان. معظم الهزارة، مثل أغلبية الإيرانيين، هم من الشيعة الذي يتحدثون أيضًا بلهجة فارسية. بعد غزو أفغانستان عام 1979، ساعدت إيران “مجاهدي الهزارة” الذين قاتلوا الاحتلال السوفياتي. ومنذ ذلك الحين، استضافت آلاف اللاجئين الهزارة، وغيرهم من الاعراق الافغانية الاخرى المختلفة، الذين فروا من الفوضى وجحيم الحروب المتتالية في افغانستان.

منذ عام 2001، مولت ايران المشاريع التنموية والأنشطة الثقافية والدينية وكذلك وسائل الإعلام المحلية. وبعد الانتخابات الأولى التي جرت في العام 2004 في افغانستان، حقق الهزارة مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة بمساعدة طهران، وأصبح لديهم نواب في البرلمان، كما تم انتخاب سروار دانيش، من الهزارة، نائباً ثانياً للرئيس في عام 2014.

تاريخيًا، كانت ولا زالت المناطق المأهولة بسكان الهزارة متخلّفة، وحتى الحكومات التي جاءت بعد الاحتلال الاميركي لم تفعل شيئاً يذكر لمكافحة التمييز الاجتماعي على نطاق واسع. وقد أفادت وزارة الخارجية الأمريكية في العام 2020، أن الهزارة واجهوا “ابتزاز الأموال من خلال فرض ضرائب غير قانونية عليهم، وإلزامهم بالتجنيد الاجباري والعمل القسري، إضافة الى تعرضهم للاعتداءات الجسدية، والاحتجاز”. كما نشرت كابول أيضًا عناصر الهزارة من قوات الأمن في مناطق خطرة من البلاد أكثر من غيرهم وفقًا “للمنظمات غير الحكومية”.

أكثر من ذلك، أخفقت حكومتا الرئيسين حامد كرازاي واشرف غني في حماية الهزارة من اضطهاد “طالبان” و”داعش”. بين عام 2016 ومنتصف عام 2021، قُتل ما لا يقل عن 766 مدنيًا من الهزارة في كابول وحدها، حسبما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز”. وفي أيار 2021، قُتل العشرات من أطفال الهزارة الاناث في قصف مدرسة كابول للبنات في مجزرة مروعة. وألقى حينها الرئيس الافغاني السابق أشرف غني باللوم على “طالبان” التي نفت ذلك. لذلك جمع قادة الهزارة، المحبطون من تقاعس الحكومة، قوتهم الأمنية لحماية مجتمعاتهم.

وفي هذا الصدد أوضح مهدي راسكيه، نائب من الهزارة، في حزيران 2021، أن ” الناس يعتقدون أن الحكومة لا تشعر بأي مسؤولية تجاههم، لذا يجب على شعبنا حمل السلاح والقتال، عبر تشكيل مجموعات حماية ذاتية مؤلفة من الرجال”. وقال “الهزارة يقتلون في المدن وعلى الطرق السريعة لكن الحكومة لا تحميهم”.

قمعت “طالبان” بوحشية الهزارة خلال حكمها من 1996 إلى 2001. ونفذت موجات من القتل الجماعي للهزارة بين اعوام 1998 و 2000 و 2001. بعد الهجمات في 2018 على مناطق الهزارة، ادعت طالبان أنها “ليست ضد أي عرق او طائفة محددة “ولكنها كانت” ضد أهداف مرتبطة بإدارة كابول”. في عام 2020، حاولت حركة طالبان، وهي من البشتون إلى حد كبير، تجنيد الهزارة كمقاتلين. وعينت مولوي مهدي، من الهزارة، محافظًا لمنطقة بلخاب في شمال محافظة ساري بول. قال مهدي في مقطع فيديو في عام 2020 إن طالبان “تشمل كل الناس دون أي عنصرية، والشيعة جزء كبير من “استراتيجيتهم الإلهية”.

بناء على ذلك كله، فإن ايران، وبعكس الولايات المتحدة التي تتخلى في الشدائد عن حلفائها وتتركهم فريسة لأعدائهم (كما حصل في سايغون بالماضي، واليوم في افغانستان، ومشاهد بعض الافغان من حلفاء اميركا وهم يتعلقون بطائرة عسكرية امريكية وهي تقلع من مطار كابول خير شاهد على ذلك)، تحركت منذ بدء تقدم طالبان ورجحان الكفة لصالحها في افغانستان، واستثمرت علاقاتها الدبلوماسية وقدراتها وصداقاتها وامكانياتها، منعا لتكرار الاضطهاد والتنكيل بالأقليات الافغانية.

يتصدر الملف الافغاني هذه الايام اهتمامات ايران، ومن ضمنها قضية الاقليات والهزارة، خصوصا وأن إيران القلقة من الوضع المضطرب في أفغانستان، تتبنى مقاربة براغماتية، لا سيما حيال حركة طالبان.

وفي هذا السياق، أكدت طهران في 9 آب الفائت أن “أمن أفغانستان من أمن إيران”، لافتة إلى أن إيران مستعدة لاستضافة قمة لدول جوار أفغانستان لحل الازمة الأفغانية”. وقال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، في مؤتمره الصحفي الأسبوعي: “حركة طالبان جزء من النسيج الافغاني”، مشيرا إلى أنه “يجب الاستماع إلى جميع الأطراف في الأزمة الأفغانية”.

وكانت طهران قد فتحت خطوط اتصال مع طالبان، ترجمت باستضافة وزير الخارجية الايراني السابق محمد جواد ظريف في تموز الماضي، محادثات سلام مع شير محمد عباس ستانيكزاي، كبير مفاوضي طالبان، ونائب الرئيس السابق يونس قانوني ممثلاً لحكومة (كابول السابقة) بعد جمود المحادثات بين الطرفين. وقد حثهم ظريف على “اتخاذ قرارات صعبة اليوم من أجل مستقبل بلدهم”، وقال إن إيران “مستعدة للمساعدة في الحوار” و”حل النزاعات الحالية في البلاد”.

ومع تغير البيئة الجيوسياسية بالنسبة لطهران، بعد اجتياح طالبان لافغانستان، تستهدف إيران تشكيل حكومة تتمثل فيها كل المجموعات الأفغانية، إضافة إلى التوصل إلى حل سلمي ومستدام. ومن المؤكد ان طهران ستعمل على الحصول على ضمانات من “طالبان” بنسختها الجديدة (الطامحة الى الحكم والحصول على الشرعية الدولية)، بشأن أمن الحدود واعتماد تنازلات لحماية مصالحها وحلفائها لا سيما الاقليات العرقية المختلفة.

القضية الثانية التي تثير هواجس طهران، هي آفة انتاج المخدرات في افغانستان، التي ترى فيها خطرًا دائمًا يهدد أمنها ومواطنيها، وهي حتى الآن تخوض معارك عسكرية وأمنية وسياسية لمكافحة هذا الخطر، وقد سقط لها الآلاف من الشهداء في الاطار.

لطالما ألقت إيران باللوم على الحكومة الأفغانية وحلفائها الغربيين لفشلهم في قمع إنتاج الأفيون وتهريب المخدرات. منذ عام 1998، أصبحت أفغانستان أكبر منتج للأفيون في العالم، فهي تزود العالم بنحو 80 في المائة من الأفيون الذي يتم تهريب معظمه إلى أوروبا.

تعاطت طالبان بازدواجية ونفاق فاضحين فيما يتعلق بالمخدرات؛ فمن جهة توسعت زراعة الخشخاش خلال السنوات القليلة الأولى من حكم طالبان في التسعينيات، ومن جهة اخرى، عملت على اظهار نفسها في موقع المكافحة والرافض لهذه الآفة، وذلك عندما اصدر الملا عمر (الذي توفي في ظروف غامضة في العام 2013) مرسوماً بأن الأفيون غير إسلامي. نجحت طالبان بعد ذلك – أحيانًا من خلال التخويف أو الإكراه – في خفض زراعة الخشخاش بنسبة 90 بالمائة خلال العام التالي، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة.

لكن، بعد طرد طالبان من كابول، وظّفت طالبان فتاويها الدينية خدمةً لمصالحها الخاصة من خلال تشريع المخدرات التي اصبحت مصدرا رئيسيا لدخل الحركة. فرضت طالبان ضرائب على المزارعين وتجار الأفيون. بحلول عام 2017، أفادت التقارير أن طالبان شاركت أيضًا في تحويل الأفيون إلى مورفين أو هيروين كصادرات مربحة. قدر المسؤولون الأفغان أن “دخل طالبان من تجارة المخدرات بلغ 400 مليون دولار بين حزيران 2018، وحزيران 2019”. كما ساعدت أموال المخدرات، في تمويل التمرد ضد الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة.

في ظل الحكومة الافغانية الاولى المنتخبة، زادت زراعة الأفيون في أفغانستان بنحو 3000 بالمائة. في عام 2001 ، العام الأخير لحكم طالبان، تم استخدام حوالي 29 ميلاً مربعاً (7600 هكتار) لزراعة خشخاش الأفيون. وبحلول عام 2020، تم استخدام حوالي 865 ميلاً مربعاً (224000 هكتار) للزراعة. وقد أفادت صحيفة واشنطن بوست في عام 2019 أن برنامج الحكومة للقضاء على المخدرات، المدعوم من الولايات المتحدة وبريطانيا، قد فشل إلى حد كبير، وأدى الفساد الحكومي الافغاني إلى إعاقة الجهود. وعليه واعتبارًا من عام 2021، كان حوالي 2.5 مليون أفغاني – من بين 39 مليون نسمة – من متعاطي المخدرات المنتظمين، وفقا لاحصاءات غربية.

تبذل طهران وحدها جهدًا كبيرًا ومضاعفًا لمكافحة تهريب المخدرات عبر أراضيها، فيما يحجم الغرب عن التنسيق أو تقديم أي نوع من أنواع الدعم أو المساعدة لايران لمكافحة التهريب الذي يحتاج الى قدرات وامكانات هائلة لا تتوفر لطهران لوقف التهريب، وهو ما بدا انه متعمّد من جانب الغرب، وقد انعكس هذا الامر سلبا على الداخل الايراني، حيث تعاني طهران من مشكلة داخلية متنامية، عبر غزوات الترويج المتواصلة والكبيرة التي تتعرض لها من الخارج، إذ تعتبر ايران من أيسر الطرق أمام المهربين (سواء طالبان وغيرها) في افغانستان للوصول الى الأسواق المربحة والغنية في أوروبا. ومع ذلك، فبحسب تقرير لمكتب الامم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة تصادر ايران كميات من الهيروين والافيون أكثر مما تفعله اي دولة اخرى في العالم.

وقد نشرت ايران لهذه الغاية الالاف من عناصر الشرطة وقوات الحرس الثوري على طول حدودها، وقامت بحفر الخنادق وبناء الجدران على امتداد جزء كبير من الحدود مع افغانستان. بين عامي 1979 و 2014، تقول إيران إنها فقدت حوالي 4000 من قوات الأمن التي قتلت مهربي المخدرات المدججين بالسلاح على طول حدودها الشرقية.

*باحث ومحاضر جامعي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.