آفاق العلاقات العراقية – الإيرانية في عهد آية الله رئيسي

صحيفة الوفاق الإيرانية-

عادل الجبوري:

لا شك في أنَّ طهران تولي أهمّية كبيرة جداً لبغداد، مثلما تولي الأخيرة الأهمّية نفسها لها، لإعتبارات ودواعٍ وأسباب عديدة.

من الطّبيعي جداً أن تفرز الانتخابات الرئاسية الإيرانية وتبلور بعض الرؤى والمواقف والتحوّلات والمتغيرات في جملة من الملفّات السياسية والاقتصادية والأمنية الداخلية والخارجية. وبما أنَّ الكثير من تلك الملفّات متداخل ومتشابك، فإنَّ التحرك في أي ملفّ باتجاه معين، يستدعي التحرّك في ملفات أخرى، بالشّكل الذي يفضي إلى تحقيق النتائج المرجوّة.

ولا شك في أنَّ طهران تولي أهمّية كبيرة جداً لبغداد، مثلما تولي الأخيرة الأهمّية نفسها لها، لاعتبارات ودواعٍ وأسباب عديدة، برزت واتَّضحت خلال الأعوام الثمانية عشرة المنصرمة. ولعلَّ الرئيس الإيراني المنتخب إبراهيم رئيسي أطلق إشارة مهمة جداً بعد ساعات قليلة من إعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية الإيرانية الثالثة عشرة (18 حزيران/يونيو 2021)، حين وجَّه دعوة رسمية إلى رئيس الوزراء العراقي لزيارة طهران، خلال الاتصال الهاتفي الذي تلقّاه منه لتهنئته بالفوز.

لم يوجّه رئيسي دعوةً مماثلةً إلى أي من الزعماء والرؤساء الذين هنّأوه، سواء من خلال البرقيات أو عبر الاتصالات الهاتفية التي تلقاها منهم. فضلاً عن ذلك، من غير المألوف كثيراً أن يسارع رئيس منتخب حديثاً، ولم يتسلم بعد مهامه بصورة رسمية، إلى توجيه دعوات رسمية، كتلك التي وجّهها إلى الكاظمي.

القراءة المتأنّية والدقيقة لدلالات الدعوة، يمكن أن تفضي إلى استنتاج مفاده أنَّ الرئيس الإيراني الجديد أراد أن يطلق رسالة مفادها أن العراق جارٌ مهم لإيران، وأن الأخيرة تحرص على تعزيز التعاون والتنسيق معه في شتّى الجوانب والمجالات، بما يعود بالنفع والفائدة على شعبي البلدين. ولعلّ هذا ما صرَّح به بعد فوزه في محادثاته الهاتفية مع الرؤساء الثلاثة في العراق؛ رئيس الجمهورية برهم صالح، ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي.

ومن يدقّق جيداً، يجد أنَّ الرئيس رئيسي أطلق رسائله الإيجابية إلى العراق قبل أكثر من 4 شهور، حين لبّى في الثامن من شهر شباط/فبراير الماضي دعوةً رسميةً تلقاها من رئيس مجلس القضاء الأعلى العراقي فائق زيدان، ليلتقي على مدى 3 أيام كبار المسؤولين والزعماء السياسيين والدينيين والنخب والشرائح الثقافية والاجتماعية، ويجري مباحثات معمّقة ومثمرة كرّست المسار الذي سارت عليه العلاقات العراقية – الإيرانية من جانب، ومهَّدت السَّبيل بدرجة أكبر لمعالجة جملة من الملفات والقضايا العالقة من جانب آخر، ومن ثم أوضحت ملامح ومعالم رؤية رئيس إيران المقبل لطبيعة وأولويات العلاقات مع الجار الغربي الذي ترتبط إيران معه بحدود جغرافية تمتدّ إلى 1500 كيلومتر، وتشترك معه بتحدّيات كثيرة وكبيرة، وتتشارك معه بمصالح واسعة، فضلاً عن القواسم الثقافية والدينية والاجتماعية والعقائدية المشتركة.

بعبارة أخرى، إنَّ ما قاله وصرَّح به رئيسي من بغداد، حين زارها باعتباره رئيساً للسلطة القضائية، كان واضحاً إلى حد كبير، ولم يحتمل تفسيرات وتأويلات مختلفة. هذا الوضوح أشار إلى حقيقة الرؤية الإيرانية للعلاقات الاستراتيجية المتينة بين بغداد وطهران، والمواقف والتوجهات الإيرانية الثابتة حيال الولايات المتّحدة الأميركية، والمسارات السليمة لمعالجة المشاكل والأزمات، وتطويق الفوضى والاضطراب في المشهد الإقليمي العام، وهو ما تطرّق إليه رئيسي في مؤتمره الصّحافي الأول بعد فوزه بالسباق الرئاسي، بحضور حشد كبير من وسائل الإعلام المحلية والأجنبية.

وفي ملفّ العلاقات العراقية – الإيرانية، هناك 3 مستويات؛ مستوى يتمثّل بالتوافق والتفاهم والانسجام في الرؤى والمواقف والتوجهات في الإطار العام الشامل، رغم وجود العراقيل والمعوقات من هنا وهناك. وقد برز ذلك واضحاً على صعيد التعاون والتنسيق في محاربة الإرهاب، سواء تنظيم “القاعدة” أو “داعش”، إذ إن دور إيران في مساعدة العراق في هذا الجانب كان محورياً وحاسماً في كثيرٍ من الأحيان، وهو ما أقر به الساسة والمسؤولون العراقيون قبل الإيرانيين.

أما المستوى الآخر، فيتمثل بوجود عقد وإشكاليات إلى جانب التوافقات والتفاهمات، وهو ما نجده في الملفّات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية. تلك العقد والإشكاليات غالباً ما يكون طابعها فنياً، وإن كانت بعض دوافعها ومحركاتها سياسية، وهي لا تؤثّر في الثوابت والمبادئ التي تستند إليها ويتحرَّك في ضوئها إيقاع العلاقات بين بغداد وطهران، كما هو الحال مع ملفّ تصدير الغاز الإيراني إلى العراق واستحقاقاته المالية المتلكئة على الدوام.

ويتمثّل المستوى الثالث بقضايا خلافية عالقة تعود جذورها إلى سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وهي ترتبط بترسيم الحدود وتعويضات الحرب (1980-1988)، ومصير ما تبقى من الأسرى والمفقودين من الطرفين، فضلاً عن مشكلة الحصص المائية في الأنهار المشتركة.

وعلى الرغم من عدم حسم ملفات المستوى الثالث، فإنها في واقع الحال لم تشكل عائقاً حقيقياً أمام استثمار الفرص والآفاق المتاحة لتحقيق أكبر قدر من المنفعة لكلا الطرفين، فحجم المبادلات التجارية السنوية الذي تجاوز 10 مليارات دولار خلال الأعوام القلائل الماضية، بحسب مصادر رسمية وغير رسمية، وازدهار السياحة الدينية والطبيعية، وتنامي التعاون في قطاعات البناء والإعمار والصحة والتعليم… كل ذلك يؤشر إلى أن طهران وبغداد تدركان أهمية التركيز على نقاط الالتقاء أكثر من التوقف كثيراً عند نقاط الافتراق.

وهنا، يفترض أن تحرص حكومة رئيسي المقبلة على عدم التفريط في المكاسب والإنجازات القائمة في مسيرة العلاقات مع بغداد، وهو ما أشار إليه الرئيس رئيسي قبل فوزه وبعده. إضافةً إلى ذلك، ينبغي الالتفات إلى القضايا والملفات الخلافية العالقة، حتى لا ينعكس سلباً إبقاؤها مفتوحةً وكامنةً خارج دائرة الحلّ والحسم.

قد تواجه طهران إشكالية عدم استقرار الوضع السياسي في العراق، ارتباطاً بما يمكن أن تفرزه الانتخابات المبكرة المزمع إجراؤها في 10 تشرين الأول/أكتوبر المقبل، والضغوطات الأميركية، والتحريض الإعلامي والسياسي لبعض الجهات ضدّها – أي ضد طهران – بدفع من أطراف دولية وإقليمية، إلا أن ذلك يفترض أن لا يحول دون التمسك بالخيارات الاستراتيجية لتعزيز العلاقات مع بغداد وتقويتها، ولا سيما أن الأخيرة تقدّر، رغم ارتباكات واضطرابات المشهد السياسي العام لديها، أنَّ طهران تعد عمقاً استراتيجياً مهماً بالنسبة إليها.

وساهمت مجمل الظّروف والأوضاع والتحديات التي جابهها العراق، وطبيعة التعاطي الإيراني معه منذ سقوط نظام صدام في ربيع العام 2003، في تبلور هذه الحقيقة، بخلاف معظم دول الجوار والمحيط الإقليمي في علاقاتها مع العراق.

وهناك نقطة أخرى مهمّة للغاية، تتمثل بأنَّ بغداد يمكن أن تضطلع بدور إيجابي فاعل في حلحلة الأزمات بين طهران وأطراف إقليمية ودولية، علماً أنها، خلال الشهور الأربعة أو الخمسة الماضية، تحركت بهذا الاتجاه، ونجحت في جمع ممثلين عن الحكومتين الإيرانية والسعودية حول طاولة واحدة، وسط ترحيب وارتياح من طهران والرياض. ولا شك في أنَّ انفراج الأزمات وحلحلة المشاكل بين هذين الخصمين التقليديين، سيكون له انعكاس إيجابي كبير على مجمل الوضع العراقي وأوضاع المنطقة.

واليوم، إنَّ بغداد أفضل من يقوم بدور الوساطة بين بعض الفرقاء الإقليميين، وحتى الدوليين، وخصوصاً مع انتعاش الآمال بإمكانية إعادة إحياء الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة خمسة زائد واحد، ومع وجود رغبات تبدو جادة بين مختلف الأطراف في تخفيف حدة المشاكل والأزمات واحتوائها إلى أقصى حد ممكن.

تبني بغداد هذا الدور، وإطلاقها مبادرات لجمع الفرقاء وتقريب وجهات النظر في ما بينهم، وتهيئة الأرضيات لحوار صريح وهادئ ومنتج، لن يتحقّق ويؤتي ثماره ما لم تكن العلاقات بين بغداد وطهران في أفضل أحوالها، فضلاً عن علاقاتها مع الأطراف الأخرى.

وبقدر ما تتفهّم الرئاسة الإيرانية الجديدة طبيعة ومستوى تعقيدات المشهد العراقي وتشابكاته، وبقدر ما تدرك بغداد أنَّ تخفيف الضغوط عن طهران أمر لا بدّ منه، فإنَّ الأمور تسير وتتَّجه بالشّكل الصحيح، من دون إغفال أو تجاهل حقيقة أنَّ الرئيس في إيران – إصلاحياً كان أو محافظاً – هو جزء من منظومة واسعة ومتعددة المفاصل والعناوين، تضطلع برسم السياسات وصياغتها وتنفيذها، ولا سيما الاستراتيجية منها.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.